يعرفه الكثير من المواليد.. اليوم أصبحوا رجالا ونساء، منهن طبيبات ومنهم أطباء. أول وجه ضاحك أطلّ عليهم في الوجود هو وجه البروفيسور سعيد هرماس. طبيب خفيف الظل، حتى في أزمته الصحية، وفي ذروة ألمه لا يبخل بابتسامته.
أول مرة تلتقي بالبروفيسور سعيد هرماس بمصحة وسط المدينة، لم تكن تنتظر وحدك، كان العشرات ينتظرون طبيبا بقبعة "ساحر"!!
ما الذي يجذب النساء إلى الدكتور سعيد هرماس؟ أليس هم "الأجنة"؟ بماذا يغريهم حتى يسحبوا بطون أمهاتهم إلى عيادة الدكتور؟ لا يقدم لهم الحلويات والبامبونات والشوكولاطة، ومع ذلك لا بديل عن هذا الطبيب الروداني القادم من ظلال أشجار الليمون الوارفة، ومن تراب مدينة الأولياء.. تارودانت البهيّة حضن تراب سوس.
تنظر إلى هذا الرجل المعجون من طين أصيل، يحمل صلابة جبل، وعراقة تاريخ، وسلالة نخلة تمتص من رحيق العلم. هو من جذور أمازيغية تشتم فيها عبق الحضارة والتراث.
يقف أمامك الدكتور هرماس بتلك المصحة كنخلة، بقامته الطويلة. من اليوم الأول الذي التقيتَه فيه أدركت أنه هو الذي سيبدأ كتابة "الحكاية".
تخيلتَه بقبعة "ساحر"، يخلع قبعته السوداء العجيبة، يضعها على لوح خشبي، يهمهم بكلمات غير مفهومة، يخرج عصا سحرية من جيب سترته الداخلي، ثم ينقر بالعصا على القبعة السحرية، لتقفز أرانب بيضاء. انظروا كيف يداعب الأرانب التي تتقافز من قبعته، تتحلّق حوله. لأول مرة لا تبدو الأرانب مذعورة.
أهداني الدكتور سعيد هرماس "أرنبين" يشبهان ملاكين. تعرفه "الأرانب"، يفهم لغة "الأرانب". التقيته بالمصحة، لم أكن أعرفه في البداية، لكنهم دلّوني عليه. قالوا لي عنه أشياء مثيرة، حتى وجدت نفسي أبحث عن "ساحر". أوّل مرة أراه كأنه يعرفني. لم أكن وحدي في انتظاره، لكنّ الكثيرين لم يروه كما رأيته صديقا للأرانب.
أول ما تراه في عيادة الدكتور هرماس هو "الربيع"، اللون الأخضر الطافح على الجدران. تشبه العيادة مصنعا للأجنة، تسمع أصوات مضخات القلب، تسمع نبضات مثل الهدير. من هنا تطير الملائكة. من هنا تُغزل "الأجنة". طوابير من النساء الحوامل، كل امرأة هي حقل ترعى فيه الأرانب.
اليوم الدكتور سعيد هرماس بعيدا عن مزرعته السعيدة، ينتظر بفرنسا سحابة يطير فوقها ليعانق أرانبه. يمر الزمن ثقيلا وكئيبا. كم أنت ملعون أيها السرطان المارد كي تستضيف الدكتور هرماس في بيتك وتغلق عليه بالمزلاج!! كم أنتَ غادر وحقير!!!!!
أخبرني في عيادته بصوت واهن:
- لقد غزاني السرطان!!
صمت لحظة وأضاف:
- لطالما حاربت السرطان من أجساد المرضى، والآن يختارني وطنا...
ابتسم، بالرغم من مرارة الحدث:
- لكني سأصمد ولن أستسلم
منذ ذلك اليوم أعلن الحرب على السرطان، اختفى مدة طويلة، ثم عاد بجسد واهن من ضراوة الحرب، لكنه مازال بصلابة جبل وعين صقر. مازال هو المحارب نفسه الذي رأيته أول مرة، يحمل دروعا من القلوب. عاد إلى عيادته مثخنا بجراح الحروب.. يواصل اليوم الحرب، ويواصل عاداته في مداعبة الأرانب بحديقته الخضراء.