الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

أسباب نزول عيطة "شريفي سيدي حسن" على لسان الفنان حسن الزرهوني (5)

أسباب نزول عيطة "شريفي سيدي حسن" على لسان الفنان حسن الزرهوني (5) الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني يتوسط رائد العيطة الشيخة عيدة والشيخ ميلود الداهمو

تعتبر عيطة "شريفي سيدي حسن" من العيوط الجميلة والرائعة التي ساهمت في توثيق أحداث تاريخية عاشها المغرب في فترة حكم السلطان المولى الحسن الأول، وتعرضت هذه "القصيدة" للإندثار والتلاشي والنسيان، إلى أن جمع بعض متونها الشعرية شيوخ العيطة من مدينة أسفي، على لسان الرواد من أمثال الشيخ ميلود الداهمو والشيخة عيدة وغيرهم.

ضيف جريدة "أنفاس بريس" الفنان التشكيلي والمبدع الأستاذ حسن الزرهوني استجاب لنداء ثلة من أصدقائه المهووسين بفن العيطة، فغرد بلبل منطقة الكاب، وقام بتفكيك وتحليل قصيدة هذه العيطة في سياقها أحداثها التاريخية ومواقعها ومجالاتها الجغرافية، وشرح مجموعة من متونها ومفرداتها، فكانت فرصة ثمينة لإشراك القراء في هذا الطبق في انتظار تفاعل المهتمين بفن العيطة والموسيقى التقليدية كتراث مغربي أصيل.

في سياق تفكيك بعض المتون الشعرية، أشرنا إلى أن الإنتفاضات والتمردات كانت تشكل هاجسا كبيرا لدى السلطان مولاي الحسن الأول في مجموعة من المناطق التي شهدت عدة قلاقل متفرقة، وكان "المخزن المحلي" في القبائل مطالب بتنسيق مع "دار الضمانة" التي تتشكل من شرفاء الزوايا والصلحاء لعقد الصلح مع المتمردين هنا وهناك، حيث تناولت عيطة "شريفي سيدي حسن" هذا الموضوع من خلال مجموعة المتون والأبيات الشعرية الزجلية.

"خَايْلْ الشًاويةً جايْبةْ لَهْديًةْ / لْخيْلء لْخْيلء تْعرْيبة للشًاويةْ"

قد تكون هذه الشذرة من القصيدة/العيطة، تحيل على وقائع عقد الصلح بين إحدى القبائل بمنطقة الشاوية، والتي وصفها الناظم "بالهدية" القيمة التي ترمز لـ "ثور" يقوده فرسان الشاوية كعربون لتسوية النزاع القائم مع رجال المخزن المحلي، بعد أن تم اقتياد "البهيمة" في موكب احتفالي من طرف فرسان الشاوية (خايل الشاوية جايبة لهدية)،  وتوفير شروط وترتيبات حدث الصلح. و يصف الشطر الثاني من البيت الشعري طريقة النحر بـ "تْعرْيبة"، بمعنى قطع شريان الثور، وهو يتقدم "لهدية" والدماء تسيل من عنقه في إشارة إلى إنهاء التوتر والتمرد وسفك الدماء. "لْخيْلء لْخْيلء تْعرْيبة للشًاويةْ".

"بَرْحوا باللاًمةْ

 الوا النْزًاهَةْ في دارْ الْقايَدْ

 برْحوا بالصًيْدة

هزِيتْ سْلاحي ومْشِيتْ"

الشطر الثاني من البيت الشعري، "برْحوا بالصًيْدة/ هزِيتْ سْلاحي ومْشِيتْ" ، يحيل المتلقي على فترة موسم الصيد والقنص، التي يقيم طقوسها وعاداتها المخزن المحلي، حيث يتم المناداة على "الْحِيًاحَةْ"، و يستعد أحسن الرماة بخيولهم، لمرافقة موكب القائد ومشاركته هوايته المفضلة، في الغابات و شعاب الوديان والجبال والهضاب بحثا عن الطرائد والوحيش، وتكون هذه المناسبة فرصة لاستكشاف المهرة من الفرسان الرماة المتنافسين بمختلف الأسلحة المتوفرة (كلاب السلوقي، طائر الباز، والعصي، نبال، حراب، قرطاس..).

أما الشطر الأول من نفس البيت الشعري، "بَرْحوا باللاًمةْ/ الوا النْزًاهَةْ في دارْ الْقايَدْ" فإنه يحمل دلالة ترمز لمفهوم "اللاًمةْ" ومجمع "لَحْبابْ/النْزاهة" خلال إقامة احتفالات النصر وإخماد تمرد وإنتفاضة بعض القبائل، بعد عودة المحاربين والفرسان للقصبة ومشاركتهم مناسبة النصر بالأهازيج والغناء والرقص وعروض الفروسية الفرجوية والاستعراضية.

"بْرْحوا بالسِيبَةْ/ هَزِيتْ عادي ومشيت/ يالله أخويا نْحيْحوا ذْرَيْوةْ"

لكن ـ حسب ضيف الجريدة حسن الزرهوني ـ هناك متن آخر مغيب من العيطة والذي يحيل بدوره على أحداث السِيبَةْ والقلاقل التي تحدثها الفوضى خلال تمرد القبائل الثائرة وهو: "بْرْحوا بالسِيبَةْ

 هَزِيتْ عادي ومشيت

 يالله أخويا نْحيْحوا ذْرَيْوةْ".

كلمة "عادي" تعني عصا سميكة وطويلة، تستعمل كسلاح للبحث عن المتمردين الهاربين وسط حقول الذرة "البشْنة" التي كانت تساعدهم سيقانها وأوراقها الوارفة والكثيفة على الإختباء عن عيون عساكر المخزن، "نْحيْحوا ذْرَيْوةْ".

"دَاكْ الْحايْكْ الْمَنِشورِ / دَارٌوهْ عَلامَةَ في الدْشٌورْ"

استعمل الناظم هذا التعبير المجازي، "الحايك المنشور"، كعلامة وإشارة تدل على أن رجال المخزن أو المتمردين يتربصون بمحيط القبيلة، ويتواجدون بتخوم "الدشور"، وهي تجمعات سكينة عبارة عن "خيم" بنيت بالطوب والأخشاب والأعمدة، أو عبارة عن "النوايل" شيدت بالقش والتبن والقصب، ويجب الإنتباه وأخذ الحيطة والحذر والإستعداد لرد الهجمات المباغتة عبر منافذ القبيلة.

"نٌوضٌو نٌوضٌو / يا الشٌرْفَةْ تْسلْحٌوا وحْتالٌوا / شْحالْ مَنْ حَرْكةْ مْعَيْدَةْ في صَخْرَةْ / صَابْحَةْ في الرِيفْ"

يعتبر ـ حسن الزرهوني ـ أن هذا المتن العيطي، يشير إلى الحركات السلطانية بمناطق الريف، ومن خلاله يدعو "رجال المخزن" القبيلة إلى المشاركة في "الحركات" لإخماد الإنتفاضات والتمرد... إن كلمة "صخرة" قد تكون جزيرة صغيرة بناحية الناظور، وكانت تابعة للإسبان، وصادفت "الحركة" أيام أحد الأعياد الدينية، مما اضطر المحاربين والفرسان إلى أخذ قسط من الراحة في هذه النقطة ثم الإنتقال لجبال الريف.

"جَابٌونِي جَابٌونِي / مَا جِيتْشْ بِحْزَارَةْ / اللٍي بْغَ اللاُمَةْ يَتْعَامَةْ / يَصْبرْ اللٌومَةْ وكْلامْ النًاسْ"

الحديث في هذا المتن العيطي يتعلق بـ "علام/مقدم" سربة الخيل والفرسان، والذي أحضر بالإكراه من طرف أعوان المخزن المحلي (بلا حْزَارَةْ) للمشاركة في عروض فنون التبوريدة الإستعراضية أمام قصبة القائد (الستينية) ورجاله وضيوفه ، وناس القبيلة، هذا "العلام/لمقدم" الذي اعتاد على الحضور بعد إرسال الرقاص لبيته، على اعتبار أن نشاط الفروسية وتربية الخيول لم يكن يتعاطاه إلا المؤهلين له ماديا واجتماعيا ومعنويا ونفسيا، وكانت الفرصة مواتية في تلك الأجواء لانتقاء أجود الخيول والفرسان من طرف أهل الإختصاص للإنضمام لكتائب المحاربين. وكانت ترافق أجواء "اللاًمَةْ" وجبات غنائية لـ "رْبايْعْ الشْيَاخْ" التي كانت تقدم عروضها أيضا أمام أهل القبيلة. أما المقصود بـ "....اللٍي بْغَ اللاُمَةْ يَتْعَامَةْ / يَصْبرْ اللٌومَةْ وكْلامْ النًاسْ"، فمعناه أنه على العلام/لمقدم وفرسان كتيبته وخيولهم، أن يقدموا عروضا متقنة وجيدة على مستوى طقوس امتطاء صهوة الجياد وإطلاق البارود بشكل ينم على حس التجانس والتناغم والإنضباط التام، وغير ذلك يعرضهم لـ "اللٌومَةْ وكْلاَمْ النًاسْ" بمعنى الإنتقادات اللاذعة.

لقد كان نشاط الفروسية بصفة عامة يعتمد على طقوس وعادات الركوب، و المهارة وضبط إيقاع الخيول وحركات اللعب بالبنادق/لمكاحل، أي أن كل فارس كفئ يرغب في امتشاق درجة عالية من سلم ممارسة الفروسية عليه أن يتجاوز النقد "اللٍي بْغَ اللاًمَةْ يَتْعَامَةْ".

إن الخطأ غير مقبول أثناء امتطاء صهوة الحصان وتقديم العروض أمام أفراد القبيلة وأهل الإختصاص ، وإلا أن الفارس سيتعرض للنقد والكلام الجارح، ولابد له من الصبر والتحمل، وربما قد يتعرض لعقوبة زجرية من طرف القائد وحاشيته. ونجد هذا الوصف بلغة زجلية راقية تغنى بها المتن العيطي التالي:

"ما شتو خايل بن عايشة

 كحلين أو غريين

 في العلفة جاو مساويين

في لامتهم، تقول علماء حافظين الآية"

بمعنى أن خيل لمقدم بن عايشة، (من فرسان عبدة) كانت تتصف بميزة التجانس في عروضها الفرجوية، وفرسانه يؤدون العروض وفق طقوسها "مساويين الميزان" بدون اختلالات تذكر، لذلك شبههم الناظم بـ "الفقهاء الحافظين عن ظهر قلب للآيات القرآنية".

"شْرِيفِي سِيدِي حَسَنْ/ صْلَحْتِي وْ صَالَحْتِي/ وْطَاوَعْتِي الْبٌلْدَانْ"

ونحن بصدد مقاربة التشبيه والتفكيك في المتن العيطي بعيطة "شريفي سيدي حسن"، حسب سياق الأحداث التاريخية التي شهدتها فترة السلطان مولاي الحسن الأول، كان لابد من شرح دلالات هذا البيت الشعري "شْرِيفِي سِيدِي حَسَنْ/ صْلَحْتِي وْ صَالَحْتِي/ وْطَاوَعْتِي الْبٌلْدَانْ"، ووضعه في إطاره الأونتروبولوجي بحكم ما يحتويه من إشارات سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية وثقافية، على اعتبار أننا سنقسمه إلى ثلاثة محاور في الحلقة المقبلة من ملفنا الإعلامي. (محاور الإصلاحات الكبرى ما بين سنة 1873 و سنة 1894،  منها العسكرية والإجتماعية والإقتصادية والدينية، والتعامل مع تكالب القوات الإمبريالية ).