الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

توفيق رباحي: الجزائر وتونس.. كابوس الثورة وتهوّر المرزوقي

توفيق رباحي: الجزائر وتونس.. كابوس الثورة وتهوّر المرزوقي توفيق رباحي

حافظت العلاقات الجزائرية التونسية على توازن محمود طيلة العقود الأربعة الأخيرة، وحتى قبلها. لم تمر هذه العلاقات بمطبَّات كبرى أو أزمات علنية حتى في المرات النادرة التي شهدت وجود أسباب التأزم.
عاشت تونس منذ البداية دور الشقيقة الصغرى التي لا همَّ لها سوى تلبية طموحات شعبها والرقي به. واقتنعت الجزائر منذ البداية بأن التوتر مع جار واحد، المغرب، يكفي وأنَّ مصلحتها أن تُبقي تونس في صفها، وفي أسوأ الأحوال، على الحياد.
لم تشذ علاقات الجزائر مع نظام زين العابدين بن علي عن ذلك الواقع. كانت جيدة في أغلب مراحلها. وعندما ثار التونسيون على ديكتاتورية «الزين» في النصف الثاني من كانون الأول (ديسمبر) 2010، التزم نظام المخلوع عبد العزيز بوتفليقة صمتا غير مريح أملاه الغموض والإرباك وعنصر المفاجأة.
باغتت الثورة التونسية النظام الجزائري مثلما باغتت غيره في المنطقة وأوروبا. ومع غموض الصورة ومصير تلك الثورة، كان الصمت هو الحل الأمثل. لم يجد النظام الجزائري حرجا كبيرا في لجوئه للصمت، إذ كان الشعار جاهزا للاستعمال: «عدم التدخل في شؤون الغير» خصوصا إذا كان هذا «الغير» جارا مباشرا «لم نرَ منه شرًّا يُذكر».
غير أن الحياد في الجهر لا يعني بالضرورة ما كان يضمره النظام الجزائري للثورة التونسية بعد نجاحها في إسقاط بن علي ودخولها مرحلة جديدة ليست فاشلة وإن لم تنجح تماما.
من الصعب أن يتخيّل المرء أن النظام الجزائري في عهد المخلوع، وقبله وبعده، سيهلّل لثورة شعب جار أطاح بحاكم مستبد لا يختلف في جوهره عن نظيره في الجزائر.
يملك النظام الجزائري أكثر من سبب للخوف من ثورةٍ في تونس، بغض النظر عمّن يحركها. ويملك أكثر من طريقة لعرقلتها. لديه ذريعة انتقال الاضطرابات الأمنية إلى أراضيه في حال فشلت الثورة. ولديه الخوف من انتقال عدوى المطالبة بالتغيير في حال نجاحها، وهو الذي فعل بشعبه أكثر مما فعل بن علي بالتونسيين. ولديه خوف من البديل المجهول لأن القاعدة الذهبية هي أن «مَن تعرفه أفضل لك ممن تجهل».
لكن حتى مع وجاهة بعض هذه الأسباب، يكمن السبب الأهم في طبيعة النظام الجزائري الذي يخشى أيَّ تغيير ويقاومه، لأن من شأن ذلك أن يضع حدًّا لوجوده، خصوصا إذا كان التغيير يستهدف نظاما يشبهه. هذه الطبيعة الأمنية الغامضة والبيروقراطية جعلت النظام الجزائري يتحالف تقليديا مع عتاة ديكتاتوريي المنطقة، من تونس إلى سوريا مرورا بليبيا ومصر. وزاد هذا التقارب في 2011 مع اتساع نطاق الثورات، ثم وجد «شرعيته» في جنوح بعضها نحو العنف كما في ليبيا وسوريا. هذه الانحرافات كانت هدية من السماء للنظام الجزائري لأنها، بالنسبة له، دليل على حكمته ووجاهة موقفه.
لهذا كله تستحق المسارعة إلى تفنيد كلام الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي عن النظام الجزائري و«تآمره» على ثورة الشعب التونسي في 2011، وقوفا عندها.

لا يمكن، بطبيعة الحال، فصل كلام المرزوقي عن «تهوره» السياسي الذي اشتهر به حتى وهو رئيس. كما لا يمكن فصله عن علاقته غير الودية مع النظام الجزائري منذ أن تحرر من قيود الرئاسة. لكن، أيضا، لا خطأ في القول إن استعجال الخارجية التونسية وحزب حركة النهضة والاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر نقابات البلاد) لرفض ما صدر عن المرزوقي والتبرؤ منه، وراءه حسابات سياسية وحرصٌ على الحفاظ على حبل الود مع النظام الجزائري. يفهم حكام تونس، ومعهم راشد الغنوشي ونور الدين الطبوبي (أمين عام الاتحاد التونسي للشغل) أن لدى تونس ما يكفيها من الهموم والمشاكل، واستطرادا ليس من مصلحة أحد هناك في الظروف الحالية فتح جبهة مع الجزائر.
انزعاج بعض السياسيين والإعلاميين الجزائريين من كلام المرزوقي متعجل هو الآخر، وليس هناك ما يبرره، اللهم ردّ فعل «بافلوفي» متجذر يرفض كل ما يقال ويُكتب عن الجزائر ونظام حكمها، خصوصا إذا بدر عن غريب، بغض النظر عن دقته من عدمها.
هذا ما يفسر احتفاء الإعلام الجزائري، حتى الذي يوصف بأنه معارض أو مستقل، بالانتقادات التي تعرَّض لها المرزوقي في تونس، دون أن يفكر (هذا الإعلام) في التوقف ولو لحظة عند مضمون ما قال.
هل كان الإعلام الجزائري سيصدّق لو قال المرزوقي إن النظام الجزائري بقيادة بوتفليقة فرح بثورة الشعب التونسي على بن علي ووفر لها الدعم؟ هل كان رد فعل الإعلام الجزائري سيكون هو ذاته لو قال الرجل هذا الكلام؟ وهل كان هذا الإعلام سيحتفي بردود الفعل على كلام المرزوقي ويتجاهل مضمونه؟
طبعا لا. هناك أشياء من المسلمات المطلقة فلا جدال فيها. منها أن النظام الجزائري لا يمكن أبدا أن يقف مع ثورة شعب ضد نظام حليف وشبيه. أكثر من ذلك، ليس النظام الجزائري وحده: من الخليج إلى المحيط، لا يوجد حاكم عربي واحد هلّل لثورة البوعزيزي. كلهم دسّوا رؤوسهم في الرمال في انتظار أخبار تريحهم وترفع عنهم الحرج. لم تنفكك الألسنة إلا بعد سقوط نظام بن علي. وقد تجلّى ذلك في التغطية الإعلامية العربية، وهي مرآة عاكسة لمواقف الأنظمة التي تملك وسائل الإعلام المؤثرة وتديرها.
حتى فرنسا ودول أوروبا التي على تماس مع تونس فوجئت بالثورة بعد أن أعمتها ثقتها المفرطة في حليفها بن علي. لم تؤمن يوما بحق التونسيين في التغيير، ولطالما رأت في ذلك الطاغية نموذجا للحاكم المتنوّر، رغم ديكتاتوريته التي لم يعد يستحي بها بعد أن وضع الغرب «في جيبه» وفساده الذي طاول عنان السماء.

توفيق رباحي، كاتب صحافي جزائري/ عن " القدس العربي"