الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

مالكة العاصمي: أحمد طليمات تلك الطينة النادرة

مالكة العاصمي: أحمد طليمات تلك الطينة النادرة الشاعرة مالكة العاصمي والكاتب الراحل أحمد طليمات

الأستاذ طليمات، هكذا ناديته دائما، لم أنطق اسمه المجرد أبدا، أحدثه بكامل التقدير والاحترام، بل بكثير من الإعجاب الذي يستحقه، وبكامل الاعتزاز بالحمولة النوعية التي يتميز بها، فلديه الكثير مما يلفت الانتباه، والكثير مما يميز اللحظة التي تلتقيه فيها أو تسمعه أو تتصل به.

 

فكر نابض فوار، منطلق من مرجعيات ومبادئ ومواقف واضحة لا توارب ولا تتخفى ولا تهادن. متفاعل مع ما يضج به المجتمع والحياة من أحداث وتقلبات. ممتلئ بما تحفل به المكتبات من معلومات ومعارف. مشحون بما تقذفه المطابع والأجهزة من منشورات وأخبار وأحداث. مفتون بما تبدعه الآداب والفنون من صور وأخيلة وقصص وأصوات وألوان وأشكال. وعاشق للثقافة والأنشطة والتنشيط والفعل الثقافي الجاد المناضل الفاعل في المجتمع والأجيال.

 

تحسبه يعيش داخل الكتاب والمقروء لا يعرف شيئا عما يجري في الحقل العام، تجده مشبعا ليس بالحقل العام فحسب، بل بالكون وحقوله، متابعا لها جميعا، متموقعا في بؤرة معاركها وقضاياها، متفاعلا معها بدمه وروحه وجوارحه، يعيش معها وفي قلبها.

 

يتحدث من مرجعيات مدروسة موثقة، فهو صديق الكتاب والصحيفة والمجلة والسينما والمسرح وكل ما يقرأ ويشاهد ويستمد منه ويستفاد به ويتفاعل معه، ترافقه منشوراته ومحمولاته ومقتنياته المكتبية المختلفة حيثما يكون، وتلازمه انشغالاته الفكرية الثقافية السياسية الاجتماعية.

 

الصادق الصديق، الخالي من المكر، يعيش بين الناس بصفائه وشفافيته، ويتعامل معهم ببراءة المثقف وموقف المناضل، لا يخصص وقته للمكائد ولا يعرفها أو يهتم وينشغل بها، فهو يميز المواقف والأحداث والأشخاص، ويرفض الصراعات المجانية ولا ينخرط فيها، منشغل بالأهداف العليا، ممتلئ بالمعارف والمشاريع والأفكار والعمل الجاد.

 

عاشق للعدالة والحرية، لا يتخلف عن معاركهما بقوة وحساسية المناضل الحر، يذكي معركة العدالة والحرية ويتعبأ من أجلهما، ويعبئ المحيط القريب والبعيد، وينخرط بالجدية اللازمة والحيوية ونكران الذات فيما يقوده ويطلق شرارته، أو فيما يطلب منه من مساهمات وأدوار.

 

صديق الحياة بما تعج به من جمال ومتع ومآسي وعذابات. يتأمل في كل ما يزخر به الكون من عجائب الطبيعة وطبائع الناس، فالكون أسرار وغرائب، والحياة سيرك كبير مفتوح مذهل بما يقدمه من مشاهد ومشخصات في الواقع، ولم لا يعزز هذه المشاهد بالحكايا الخرافية والخيال العلمي الذي تقدمه الشاشات الكبرى، ويبدعه خياله المتحرر الجموح.

 

وعاشق الفن والإبداع والكتابة الشعرية النثرية الروائية القصصية، يتعامل مع الكتابة بعشقه الخاص فيطوعها ويقلبها ويعيد إنتاجها وصياغتها أو يبتكرها، ويفكر باللغة ويتغلغل في اللغة وينكتب فيها وينتزع حقه في أن ينتج لغة جديدة أو يغير في اللغة المتداولة أو يبدع منهما لغة ثالثة أو لغة عجائبية أو يلتقط بها العادي والغريب والمبتذل. اللغة أيضا مجال لكسر الرتيب والعادي والنمطي، ومجال للحرية والتحرر، والموروث الإنساني حري أن نستحضره ونستعيده ونحاوه ونحاور به الحداثة والثقافات الحديثة واللغات والتكنولوجيات ونبتدع منه ما يعبر ويثير.

 

طينة نادرة هو، مشبع بمبادئه العميقة الثابتة، يتمسك بها كالقابض على قلبه فلا ينفطر. يمتلك براءة الطفل وعمق الحكيم. تحترمه وتقدره عندما تختلف معه أو تتفق سواء، فهو يختلف بكامل الصدق والصفاء، وينتقد بكامل الجرأة والإدراك والوعي والقناعة، بل والمعرفة العميقة بما يقوله ويعبر عنه.

 

يتفق ويصادق، لكن لديه دائما شيئا هاما يضيفه ويساهم به، فكرة أو مشروعا، أو معلومات أخرى نوعية.

 

المال والمقام جزء بنيوي في عادات الناس وحياتهم وأعمالهم. والأستاذ طليمات وحده مستثنى من الناس، يكفيه ما لديه، ولا حاجة له بما يتلهف عليه الناس من مكاسب وما يتبوؤونه من مقامات وأوسمة، وما يملكونه من خيرات الدنيا، فهو يملك مقامه وهيبته وماله وحاجياته، ويملك زمامه ونفسه المشبعة المكتفية بنفسها.

 

شبابه دائم، بل يمكن القول بكون طفولته دائمة، وتفاجأ عندما تسمع عن عمره الخامس والسبعين، بينما يحمل وجه شاب أو طفل، تجلله براءته وصفاؤه وإنسانيته. منسجم مع شخصيته المناضلة المبدئية في كل شيء، حتى لباسه منسجم مع فكره: قميص أو كنزة أو جاكتة، لا يتعامل بالبذلات والرسميات والقيافات ولا ينشغل بها.

 

طليمات

أيها الأخ العزيز

كيف انسحبت فجأة أو انسللت، وعهدي بك لا تنسحب أبدا من معارك الحياة ولا تتخلف عنها.

 

طليمات الغالي

أنت روح ونبض فضاءاتنا، عندما تغيب تفقد الفضاءات روحها وحياتها وحيويتها. كيف تغيب أيها الصديق وتنسحب دون استئذان وعهدي أنك حاضر حتى لو كنت مختفيا. تختار عادة آخر الصفوف وترفض التصدرات والاستعراضات.

 

من للثقافة بعدك؟ ومن يخلق ذلك الجدل العميق ويضيء الزوايا الخفية في العرض عندما تغيب؟ ومن يوقظ غفوة الضمير ويحرك سواكنه؟

 

يحضر في ذاكرتي دوما ذلك الصبي الشاعر الذي تقدم لقراءة قصيدته الرقيقة في مدرستنا. أقول مدرستنا والحقيقة أنها مدرستك التي تنظم الحفل، فنحضره بحكم تبعية مدرستنا كإناث للمؤسسة الذكورية المركزية التي تنتمي أنت إليها. تعرفت عليك منذئذ ولم تتعرف علي بالطبع، فقد كنا صبية في مرحلة الإعدادي في أمكنة مختلفة، وكان حدثا تنظيم مثل هذا النشاط الذي استقر في الذاكرة. برزت بقراءتك وقصيدتك (أذكريني) ما زالت تلك القراءة الصبية في الذاكرة، ومعها النص الفني المسرحي لزميلك الشاب اليحياوي الذي غاب، ولم يمارس موهبته المسرحية سوى لفترة قصيرة.

 

لم ألتق بك بعد ذلك إلا ضيفا على (الاختيار) و(بيت الاختيار)، أنت الضيف البارز الذي صار (اسمه الاختيار) وهو يتآخى مع هذه الصحيفة وينتظم معها. لا يحضر وحده لاجتماعات هيئة التحرير، بل يرافق أصدقاء ورفاقا جددا في كل مرة فيجد الباب مشرعا في وجهه ووجه أصدقائه رغم ما يفترض أن تدسه المخابرات في هذا البيت، فقد كان (بيت الاختيار) مفتوحا للثقافة والمثقفين، والجريدة وهيئتها وتحريرها فعلا جماعيا مشتركا. رحم الله عبد القادر شبيه وعبد العزيز طليمات وعبد اللطيف فؤادي وعبد اللطيف خير الدين وعزيز إسماعيل ورحمك ورحم الأستاذ عبد الجبار السحيمي ورحم محمد شكري وعبد القادر لقاح وعبد الوهاب البياتي والطيب صالح و... وتقبلكم جميعا بفضله ورضوانه. وأطال عمر إخواننا نور الدين الأنصاري وأحمد بلحاج آيت وارهام والأطلسي طالع السعود والرحماني بنشارف ومحمد لواكيرة ومحمد عزيز المصباحي ومحمد عاصم العاصمي وادريس الخوري، وأطال عمر إخوان كثر من كتاب الاختيار المغاربة والعرب... عبد الكريم برشيد وعبد القادر الشاوي وعبد الحي الملاخ وحميد سعيد وحسن الأمراني ومحمد علي الرباوي و....

 

كنت تعتبر دائما أن (الاختيار) لم تتوقف في الوقت الذي توقفت فيه، بل تواصلت في جريدة وطنية أخرى هي (جريدة أنوال)، ثم رفيقتها (جريدة 8 مارس)، فقد دعيت ومعك إخوانك آل طليمات وطالع السعود الأطلسي و... لإصدار (جريدة أنوال) والاستفادة من تجربتكم في (جريدة الاختيار)، إذ لم تكن هذه التجربة عادية ولم تمر دون تأثيرات كثيرة خلفها، ثقافية سياسية إعلامية، وقد تواصلت (الاختيار) أيضا في جريدتين أخرتين حملتا نفس الاسم (الاختيار) إحداهما بالرباط والثانية بالشمال.

 

كنت تبرز من حين لآخر كالشهاب أو النجم الساطع، زعيما لحركة ما تقودها للانتصارات بجرأتك وقوة حجتك وروحك المشعة. جئتني مع إخوانك ككاتبة لفرع اتحاد كتاب المغرب تحمل مطالب الشباب بالالتحاق بالفرع الذي ضم حينئذ نخبة من كبار كتاب مراكش: الأساتذة أحمد الخلاصة وأحمد الشرقاوي إقبال ومولاي الحسن عادل ومولاي الطيب المريني برئاسة الأستاذ ابراهيم الهلالي، ذلك المطلب الصعب الذي ما فتئ أن تدلل. كان فرع مراكش أبرز فروع الاتحاد بأنشطته النوعية المنتظمة التي جعلت الثقافة والأنشطة الثقافية جزءا من بنية الحياة اليومية في المدينة. وكأنشط فرع كان يستقبل كبار الكتاب والشعراء وضيوف الاتحاد منذ عزيز أباظة وبهاء الدين الأميري والأستاذ العظم. ثم محمود درويش وأحمد دحبور وغيرهم كثير. كان فرع مراكش الوحيد الذي يذهب لمؤتمر الاتحاد بورقته ومشروعه المكتوب ليقدم رؤيا عميقة للثقافة والكتاب والكاتب، مؤمنا بوحدة الثقافة والمثقف، فلا ينشغل بالمناصب والتموقعات وصراعاتها، ولكن بالمشروع الثقافي والنضال الثقافي المطروح على المثقف.

 

الثقافة عندك واحدة من أهم واجهات النضال الوطني، وأهم مداخل التقدم والتنمية الوطنية بكونها بناء الإنسان الذي يصنع الحضارة والتقدم، لقد ركزت دائما على الثقافة حتى في مهنتك كأستاذ ومربي -دائما من طينة خاصة- كنت تشغف أبناءك وتلامذتك بالثقافة وتخرّج منهم كفاءات الوطن، لا نفاجأ عادة في مركز التنمية لجهة تنسيفت، عندما نجد القاعة غاصة بالتلميذات والتلاميذ الشعراء القصاصين الكتاب من كل الأصناف، فهن وهم تلاميذ طليمات ومحيطه الذي يبث فيه لسعة الكتابة والقراءة والإبداع.

 

كنت أحد المنظمين لمهرجان دعم السياحة وبعض رموزها المأزومة بالفقر والعطالة في هذا الحجر الصحي المراكشي اللعين، لكنك لم تحضر لجامع الفناء، الساحة التي انشغلت بها وبأهلها ونظمت من أجلها تلك التظاهرة. عندما اتصلت لأسأل عنك، تحدثت عن المزاج السيء الذي منعك من الحضور، ضقت بالحجر الذي صادر الحرية والثقافة التي تعيش بهما. صادر الأنشطة والمهرجانات الثقافية والسينمائية والمسرحية والتشكيلية وما تعيش به كما قلت، فتعكر مزاجك وعزفت عن هذه الحياة التافهة، أكدت عليك هل تعاني من شيء، لكنك أكدت تعكر "المزاج". هو كذلك بكل تأكيد، إنك السمكة التي فقدت ماءها فتوقفت عن الحياة. هذا ما حدث بالضبط. بعد قليل توقفت عن النبض وغادرت احتجاجا أو فرقا.

أيها الصديق العزيز، كنت منارة في هذه المدينة العزيزة وأحد ضمائر الوطن الأصفياء الصديقين.

 

طليمات العزيز الذي غاب أو غادر.

الصديق الصّدّيق. الصديق الأنيق.

 

مراكش 05 دجنبر 2020

مالكة العاصمي