الجمعة 26 إبريل 2024
سياسة

الحاج بوشعيب فقار يستحضر كواليس ملحمة المسيرة الخضراء

الحاج بوشعيب فقار يستحضر كواليس ملحمة المسيرة الخضراء صفوف طويلة من المتطوعين للتسجيل داخل مقر مقاطعة بوسمارة
في هذا البوح الاستثنائي يروي الحاج فوقار (محافظ مؤسسة مسجد الحسن الثاني وعامل سابق) الكثير من الذكريات، بمداد من فخر، عن كواليس الإعداد للمسيرة الخضراء. الحاج فوقار كان أحد جنود الخفاء الساهرين على إنجاح هذه الملحمة الوطنية بفائض من الوطنية والوفاء والسخاء. وهو يعود بنا إلى الوراء.. إلى صفحة ذهبية من حقبة تاريخية موسومة بالمجد والانتصار والكفاح.. إلى لحظة استرجاع قطعة من صحرائنا... يعود بنا الحاج فقار (حين كان قائدا لمقاطعة بوسمارة بالمدينة القديمة بالبيضاء وهو ابن 28 سنة آنذاك)، 45 عاما إلى الوراء، ليصل الماضي الذهبي بالحاضر في سرد أنيق يفوح بأريج النوسطالجيا وعبق الحنين. وأنت تقرأ للحاج فوقار برشاقة لغته وكأنك تركب سفينة زمنية تعود بك إلى الوراء 45 سنة لتعيش معه أجواء المسيرة الخضراء بحمولتها الوطنية والرمزية.
 
ساعة الوصول إلى الصحراء، وقبل البدء في نصب الخيام، ويظهر بجانب القائد فقار المرحوم المقاوم الحاج سعيد النظيفي
 
أعتقد بأن الظروف كانت ملائمة جدا في منتصف أكتوبر 1975 ليعلن المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه عن انطلاق المسيرة الخضراء نحو الصحراء الغربية المغربية التي كانت تحت الاحتلال الإسباني، وذلك في نفس الوقت الذي أكدت في محكمة العدل الدولية أن هذه المنطقة لم تكن قبل احتلالها من طرف الإسبان أرضا خلاء، بل كانت كل القبائل المنتمية لها مرتبطة بالبيعة لملوك الدولة العلوية، وكانت مختلف الأطياف المجتمعية بها تحت حكم سلاطين وملوك المغرب، شانها شان كل مناطق المملكة.
ولم يكن أحد يعلم بما كان يخطط له الحسن الثاني بشأن هذه المسيرة إلا قلة قليلة جدا كانت تعمل بجانبه استعدادا للقيام بهذا الحدث المهم في تاريخ المغرب الحديث.
كان الإعلان عنها من طرف جلالته بمثابة انتفاضة نورانية أشعلت وجدان المغاربة جميعا وأذكى روحا حماسيا منقطع النظير، خاصة وأن شباب ذلك الوقت كانت لا تزال تؤطره الأسر المنتمية لجيل الوطنية التي حاربت الاستعمار الفرنسي، وقاومته بمختلف الطرق إلى حين رحيله.
انطلقت عملية التسجيل بعد الخطاب الملكي بمختلف مراكز السلط المحلية بالمغرب، وكان العدد المحدد بالنسبة لمدينة الدار البيضاء في 35 ألفا متطوعا يمثل عشر (10/1) أعداد متطوعي المغرب كله المقدر ب 350.000 متطوعا.
وقد كان عدد مراكز التسجيل التي فتحت بالمقاطعات الحضرية يبلغ 15 (خمسة عشر) مركزا بنسبة مركز لكل مقاطعة، وبذلك فان معظم المقاطعات طلب منهم تسجيل 2000 (ألفي) متطوع رجل و500 (خمسمائة) متطوعة. على أن هذه الأعداد حسب علمي وحسب ما عشته شخصيا قد اكتمل في أقل من ثلاثة أيام، وقد صرف معظم رجال السلطة آنذاك ما تبقى من فترة التسجيل، في إقناع المواطنين الوافدين على المراكز بالاعتذار لهم، والأخذ بمخاطر الكثير منهم لأن العدد المطلوب محدود.
ويعني ذلك كله أن الإعلان عن المسيرة الخضراء أيقظ في نفوس المغاربة روح الوطنية الحقة، وكان في اعتقادي أنه لو طلب أضعاف هذا العدد من المتطوعين لكانت الاستجابة، دون تردد.
القائد فقار في الجمع العام التأسيسي لجمعية متطوعي المسيرة الخضراء (1976)
 
أستسمح أن أتحدث خصوصا عن تجربة مساهمة الدار البيضاء التي لا تختلف في روحها الوطنية، ولا في حماسها وانضباطها عن سائر المشاركات بمختلف عمالات وأقاليم المغرب: لقد كان وفد الدار البيضاء في المسيرة الخضراء أكبر وفد من حيث العدد، وقد قسم إلى خمسة عشر وفدا، كل مقاطعة حضرية، بوفد، وأغلب المقاطعات كان وفدها يتكون من ألفين وخمسمائة متطوع كما أسلفت، وكان كل جزء يتكون من خمسمائة متطوعا يؤطره عون سلطة (مقدم أو شيخ). وضابط صف من رتبة رقيب مساعد Sergent أو رقيب Sergent- Chef وهي أدنى رتبة في صفوف ضباط الصف. وكان الهدف من وجود هذا العنصر العسكري هو المساعدة على تنظيم المتطوعات والمتطوعين عند الحاجة، ولم يكن يميزهم شيء عن المتطوعين إلا لباس الميدان، الذي قد يرتديه حتى المدنيون، ومجموعة الخمسمائة متطوع كانت مقسمة بدورها إلى خمس فرق، كل فرقة تتكون من مائة شخص يؤطرهم أحد المتطوعين (اصطلح آنذاك بتسميته قائد المائة) وهو بدوره يقوم باختيار ثلاثة متطوعين كل واحد منهم يؤطر ثلاثة وثلاثين متطوعا، وعلى رأس هذه المجموعات كلها رجل السلطة رئيس المقاطعة الحضرية الذي يعتبر المسؤول الأول عن الوفد الذي يمثله.
إن هذا التنظيم يتميز أولا بأهمية مساهمة المواطنين أنفسهم في تأطير بعضهم، وثانيا بانعدام أي نفس أو رائحة لشيء يسمى استعمال القوة، ومن ثم فإن المسيرة كانت بحق مسيرة مدنية وكانت خضراء بكل ما يحمله لونها من معاني السلام والهدوء والنظام.
إن الطريق إلى الحدود بين الأراضي المستقلة في المغرب، وبين الصحراء التي كانت تحت يد الإسبان رغم مسافتها الطويلة، ورغم مئات الشاحنات والحافلات، ورغم ضعف البنية الطرقية آنذاك بالنسبة لما عليه الحال الآن، فإن إشراف جلالة المغفور له الحسن الثاني على سير العملية كلها بنفسه انطلاقا من مدينة مراكش، كل ذلك جعل من المتطوعين وهم في أسراب من مختلف وسائل النقل، كانوا يتمتعون ويمتعون بعضهم حقا، فالجميع كان مهيأ، مستعدا لأداء المهمة مما جعلهم لا يشعرون بالملل أو الإعياء: أهازيج تملا الفضاءات بمختلف اللهجات إلى جانب تلاوة القرآن إلى ترويج الطرائف والمستملحات من الأقوال إلى الاستماع للإذاعة الوطنية بواسطة راديوات «الترانزيستور»، وكل ذلك كان يوجد صداه في نفوس المتطوعين، في انتظار حط الرحال بنقطة الحدود التي كانت تسمى «الكروشي» والتي تبعد عن مدينه طرفاية بعدة أميال لا أتذكر مقدارها رغم ترددي عليها عدة مرات فيما بعد.
الحاج فقار ينتظر  الأمر بالعبور وفي الصورة أحد المتطوعين والمتطوع الحاج محمد بنجلون مؤسس الوداد الرياضي
 
الوصول إلى نقطة الحدود المصطنعة التي كانت عبارة عن سياج حديدي مهترئ لا يفصل بين الجهتين إلا بمسافة قليلة جدا، وكأنه خيط رمزي يعتبر المستعمر الإسباني حدا فاصلا بينه وبين المغرب، ونعتبره نحن حينما رأيناه «سلكا» يستطيع أي شخص من المتطوعين اقتلاعه في زمن يسير، أقول: عند الوصول إلى هذه النقطة، وجدنا بعض الوفود من مناطق المغرب، قد حطت رحالها، وأقامت خيامها ولا زلت أذكر أن تحديد المنطقة التي سنحل بها لم يدم أكثر من ساعة، ولم يستغرق بناء الخيام بالنسبة لألفين وخمسمائة متطوع ومتطوعة أكثر من ثلاث ساعات حيث أن كل فرد كان متوفر على تجهيزاته الخاصة بالنوم والأكل والغطاء، وذلك قبل مغادرة الدار البيضاء، حيث قضت وفود المقاطعات ثلاثة أيام بمنطقة عين السبع، وبالضبط في المكان الذي بنيت على أرضه عمالة عين السبع الحي المحمدي، هذه الأيام بلياليها كانت عبارة عن تدريب من أجل ممارسه «العيش» اعتمادا على النفس، وخارج الأسرة وربط الألفة بين المتطوعين، ومن غريب الصدف أن المكان الذي بنيت فيه الخيام «الكورشي» ذكرنا تكوينه الجيولوجي من نوع أحجاره، وتربته...إلخ.. بنفس المكان الذي قضينا به ثلاثة أيام في الدار البيضاء مما تسهل الانسجام مع البيئة الجغرافية في نفس اليوم الذي حللنا به.
إن متطوعي المسيرة الخضراء بعد انتهاء هذه المرحلة ينتظرون جميعهم أمر جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه لكسر الحدود الوهمية وكانت فترة الانتظار مليئة بمجموعة من الأنشطة الترفيهية واللقاءات بين الكثير من أفراد الوفود، وكانت الحياة خلالها أيضا حياة مجتمع متكامل فيه من التفاهم والتراص والتآلف، والتناصح، وتبادل الخبرات في ميادين متعددة كالطبخ والرياضة ولعب الورق والصلوات الجماعية وحلقات التوعية، ما يشغل الجميع. وقد زارتنا على سبيل المثال مجموعة جيل جيلالة، وبعض الفرق الفلكلورية، ومجموعة «الشيخات» كما زارت المخيمات وفود من هيئة المحامين بالدار البيضاء يقودهم النقيب المرحوم المعطي بوعبيد، ووفد عن المقاومة يقوده المرحوم الدكتور الخطيب ومجموعة من هيئة الأطباء، وهي لقاءات وزيارات أبانت عن الضمير الجمعي الحي للمغاربة قاطبة، تأكد لي معها أنه متى كان الهدف وطنيا نبيلا، فإن الخلافات بين الأفراد تنتهي ويحل محلها التعاون من أجل تحقيق ذلك الهدف.
وللأمانة أسجل في آخر هذه الفقرة -فقرة انتظار الأمر بالعبور- أن المتطوعين كانوا في خدمة بعضهم في ميادين متعددة في نوع من الصبر ونكران الذات، فقد شاهدت تعاطف بعضهم مع من أصابه مرض طارئ إلى درجه حمل المريض على الأكتاف إلى الطبيب ورأيت من يقوم بغسل الثياب لغيره تطوعا ودون ان يطلب منه ذلك، ووقفت على من يتنازل عن حصته الغذائية لغيره...إلخ. وللتاريخ أشهد بأن جماعة من الشباب المتطوع في الوفد الذي رافقته تكفل معي عدة مرات للذهاب إلى طرفاية لحمل المؤونة والمياه الصالحة للشرب ومستلزمات العيش للشاحنات الكبرى Les semi-remorques.
ونقلها من طرفاية ثم القيام بتوزيعها على مخيمات عشرة آلاف من المتطوعين من الدار البيضاء وذلك بتسليم نصيب كل مقاطعة لرئيسها، وكانت مساهمة هذا الفريق الذي كنت مشرفا عليه مثار إعجاب المواطنين الذين ينالهم نصيبهم من هذه الخدمة.
أمر المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني المبدع والمخطط لهذا الحدث غير المسبوق، باختراق الحدود، حسب برنامج منظم في التوقيت بالنسبة لكل منطقة من مناطق البلاد، ولم أتمكن من مشاهدة كل الوفود وهي تعبر الخط الوهمي، وذلك التباعد الجغرافي بين كل وفد، ولكني أذكر أن ما رأيته منها في أحسن تنظيم للعبور كان وفد ورزازات، ووفد الرشيدية، إذ كان المتطوعون منهم أكثر هدوءا وانتظاما، أما منطقة الدار البيضاء، فقد جرف الحماس متطوعيه، فانطلقوا كالسيل يتسابقون في قطع المسافة المقررة، ولم يتركوا مجالا للصحافة ولا للتلفزة المغربية لنقل تحركهم مما أثار أمامي «سخط» و «امتعاض» الصديق معنينو الذي كان أمام الكاميرا ينقل الصور والتعليق مباشرة، «الامتعاض والسخط» ليس بالمفهوم القدحي المتداول، ولكنه نوع من «الإحباط» الناتج عن إفشال المتطوعين للنقل الجيد المباشر، ولكن المفاجأة التي أبانت عن صدق الحماس، وروح الوطنية، هي توقف الجميع بعد هذه المرحلة، والعودة إلى نقطة الانطلاق حينما أمر عاهل البلاد بذلك، هذا الموج المتلاطم من البشر ينظم نفسه بنفسه، ليس هناك قوة عسكرية أو شرطة تؤطره، يعيش مدة زمنية في منطقة صحراوية دون أن يتسبب وجوده المكثف في حوادث أو أحداث، ينطلق حينما يأمره ملك البلاد بأداء مهمة وطنية، ويقف حينما يطلب منه ذلك، وما سمعت قط أن شخصا اعتدى على آخر فقتله، أو أن حريقا شب في خيمة من آلاف الخيام بفعل فاعل، موج يعبر الحدود. وفي يد كل واحد وواحدة جزء من المصحف الكريم، ويسجد حمدا لله كما طلب منه ولي الأمر. لقد اقتنعت حينها، أن ذلك لا يمكن أن يحققه إلا الشعب المغربي حينما تستيقظ وطنيته.
كانت العودة إلى الديار أشد حماسة، وأكثر وطنية من الذهاب بعد اكتمال المهمة بسلام، وبعد أن تم الاتفاق إلى تسليم الأرض المغربية لأهلها المغاربة، وكانت لتلك المسيرة الخضراء تبعات إيجابية كثيرة بعدها، خاصة بين الذين شاركوا فيها، إذ ظلوا يتلاقون فيما بينهم يتزاورون، ويتناقشون في الكيفيات التي يجب فيها الحفاظ على تلاحم المجتمع، ومن خلال معايشتي بعد ذلك للموضوع، فقد تأسست أول ودادية للمتطوعين بالدار البيضاء سنة 1976 بالمقاطعة الحضرية الأولى، ضمت في عضويتها عددا من مختلف أطياف المنطقة، ثم امتد أثرها إلى أن جمعت العديد من متطوعي المقاطعات الأخرى، وقد تعددت بعد ذلك جمعيات المتطوعين للمسيرة ساهمت بقسط وفير من الأعمال الاجتماعية والثقافية وتنظيم لقاءات في مختلف المناسبات الوطنية.
وأخيرا أقول: إن بلادنا في هذا الزمن لها طموحات مشروعة وقريبة المنال، تترجمها المواقف والأقوال والأفعال لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، والتي يهدف من ورائها لأن يصبح المغرب رائدا على المستوى الإفريقي والعربي، وحتى بالنسبة لدول أخرى ولنا من الإمكانيات ما يسهل علينا ذلك، لكننا نحتاج لإعانة جلالته لتحقيق هذا الهدف القريب منا إلى مسيرة خضراء افتراضية مشبعة بالوطنية الصادقة وإلى التحلي بصفة نكران الذات في كل خطوة نخطوها في كل القطاعات العمومية وشبه العمومية والخاصة، ولسنا محتاجين في ذلك لصرف الأموال والتنقل، وتجشم مشاق السفر، والمبيت في أرض بين الخيام، بل نحتاج فقط إلى استحضار ملامح وأرواح وقلوب متطوعي المسيرة الخضراء وهم يشدون الرحال تاركين أعمالهم وأهلهم وأبنائهم وذويهم، دون مقابل، ذاهبون فقط من أجل استرجاع كرامة الوطن باسترجاع صحرائه.