الأربعاء 24 إبريل 2024
كتاب الرأي

حميد هيمة : قرويون "بدون"!

حميد هيمة : قرويون "بدون"! حميد هيمة
في تحايل إداري، أو لعله تزوير للواقع، يحمل الكثير من القرويين في الوثائق الرسمية مهنة (فلاح)،لكنهم يحرثون الريح، و(يسرحون) النجوم، ويتطلعون، في أحلام اليقظة، إلى حيازة فلاحية في سماء الله الواسعة، بعدما انهارت كل انتظاراتهم المادية. فلاحون بدون أرض، وبدون سكن أو للتدقيق بدون (خيمة وكانون)، وبالتالي بدون هوية.
فعندما تفشل تدخلات الدولة، بكل صخبها السياسي وضجيجها الإعلامي، في توفير مأوى للسكن، يحمي الأجساد قسوة الطقس.وعندما تعجز (الدولة)، بكل مؤسساتهاومشاريعها التنموية، على ترجمة حق، مضمون بموجب المادة 31 من دستور سنة 2011، والتي جاء فيها: (تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في... السكن اللائق..)، فإن الإنسان (ينحدر) إلى مجرد لاجئ في وطنه.
لا يقتصر هذا العجز على الدولة، بل يشمل أيضا الهيئات التي يفترض أنها تمثل المجتمع. فما تزال (البرامج) الحزبية، بكل ألوانها ومرجعياتها، تبشر (البدون)بتوفير السكن الكريم، وإعادة النظر في مشكلات العقار وتعقيداته في المستقبل غير البعيد.. بعدما تحررت/ تخلصت من شعارات (الأرض لمن يحرثها) وبرامج (الإصلاح الزراعي) لتحقيق الأمن الغذائي... وتحول العالم القروي، وفق منظور المسؤولية الحكومية، إلى عبء يُعيق التنمية الوطنية.
ومن نتائج ذلك، فقد طُرد (البدون) من عالمهم القروي، تحت تأثير سنوات الجفاف القاسية وتنكر الدولة بكل أجهزتها،(طرد البدون) إلى أحزمة الفقر والهشاشة في ضواحي المدن.. في دواوير (دراعوولاحونا والعلامة...) وغيرها من الأسماء التي ترمز إلى حياة الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي.
وإذا كان (البدون) يُحيل، في الأصل، على (مواطني) الدرجة الثانية في إمارات الخليج العربي، للإشارة إلى رعايا بدون جنسية، وبالتالي بدون حقوق المواطنة، في بيئة عدوانية،وقاحلة سياسيا وحقوقيا، فإن هذه الفئة الاجتماعيةبالمغرب، موطن سردية الانتقال الديمقراطي والنموذج التنموي الجديد، بدون لائحة طويلة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تبدأ بفلاح بدون أرض ولا تنتهي بقروي دون مسكن.
ولأن ضوء الكاميرات موجه بعناية في تجاه (المنجزات)، كمناورة لإنكار واقع الفشل التنموي، فإن العالم القروي، موطن (البدون)، يستحوذ على حصة كبيرة من هذا الفشل، ويراكم، في صمت و(هدوء)، الأعطاب البنيوية للتأخر في التنمية. لسوء الحظ، أن النخب (الأكاديمية)، المنشغلة بإشكالية التنمية والتقدم، تنحدر، كما نبه إلى ذلك الراحل بول باسكون، فقيد العالم القروي، من أصول حضرية، أو ذات جذور قروية، لكنها تتطلع إلى آفاقها المستقبلية ورهاناتها الشخصية. لم يبق للعالم القروي غير انتهازية الأحزاب(الصفراء)، واستحواذ الأعيان، الموكول لهم رعاية هدوء العالم القروي وعزله عن الحركة الوطنية- التقدمية المدينية، على الوظائف التمثيلية في المنابر السياسية للحديث، بلسان أمي ومتعفن، عن مصالح العالم القروي!
اليوم، تعترف التقارير الرسمية للدولة، وكأنها تفند شهادات الزور لأدعياء (العام زين)، وهم أعيان الأحزاب والجمعيات ونخب الإعلام، أن (ساكنة العالم القروي تسجل معدلات مرتفعة على مستوى الهشاشة والفقر: 79.4% من الفقراء و64%من الأشخاص في وضعية هشاشة)، وبالنتيجة، فإن فئات واسعة بدون أرض، وبدون ماء، وبدون كهرباء، وبدون طرق، وبدون مستشفيات، وبدون لائحة طويلة من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
لكن (البدون) الأكثر ثقلا هم قرويون بدون سكن، في أراضي سهلية لا يحدها البصر، ولا تنتصب فيها الموانع الطبيعية؛ كما يحدث في دواوير منطقة الغرب. في تحايل، أو لعله تزوير للواقع، يحمل الكثير من القرويين في الوثائق الرسمية مهنة (فلاح)، لكنهم يحرثون الريح، و(يسرحون) النجوم، ويتطلعون، في أحلام اليقظة، إلى حيازة فلاحية في السماء، بعدما انهارت كل انتظاراتهم المادية في الأرض. فلاح بدون أرض، وبالتالي فلاح بدون سكن أو للتدقيق بدون (خيمة وكانون).
في اعتراف صادق، أقرالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، في تقرير بعنوان (السكن في الوسط القروي: نحو سكن مستدام ومندمج في محيطه (إحالة ذاتية رقم 2018/33))، أن (الدولة لم تتوفر على سياسة تدخل حقيقية تخص قطاع السكن القروي... كما أن التنمية الاجتماعية، ولا سيما الهندسة الاجتماعية، يضيف التقرير المذكور، لا ينتبه إليها في الغالب صناع القرار المحليين والجهويين والوطنيين عند إعداد برامج ومخططات التنمية).
ولإعطاء معنى لهذا الخطاب التعميمي، الذي ضمه المجلس في إحالته المشار إليها، ولتأكيد فرضية (عدم انتباه) صناع القرار لمعضلة العالم القروي، نقترح عليكم السفر الذهني في الجماعة الترابية للمكرن- دائرة بنمنصور، إقليم القنيطرة، لالتقاط (صورة شاملة، قدر المستطاع، على ما وصلت إليه الجماعة من تطور في ظل العشر سنوات الأخيرة)، وفق توطئة السيد رئيس الجماعة لمونوغرافية الجماعة برسم سنة 2018. وهو عمل مشكور، يكرس الحق في الوصول إلى المعلومة، بوضع المراجع الإحصائية الخاصة بالجماعة أمام نظر العموم للبحث والتدقيق.
سنتعامل مع هذه الوثيقة الرسمية، علاقة بموضوع التدوينة، بشكل (انتقائي). سنحاول التركيز، فقط، على المعطيات والإحصائيات المتعلقة بالسكن والأرض، وبالتالي سنحرم أنفسنا من سرد (المنجزات) التنموية التي صنعتها المجالس المتعاقبة على تسيير الجماعة منذ تأسيسها! يكفينا دليلا أن الجماعة، التي تغطي مساحتها213000 كلم مربع، وبوزن ديموغرافي يتعدى 31292 نسمة (2014)، تتجاوز فيها معدلات الهشاشة عتبة 32%، لا تتوفر إلا علىإعداديتين وصيدليتين وثلاث مؤسسات طبية، لاستهداف ساكنة أكثر من 37 دوار وتعاونية فلاحية. هذه المنجزات ستبقى خالدة في سجل العارلكل أعضاء المجالس التي تسلطت على التسيير الجماعي.
في مثل هذه البيئات، نهضت حركة (بدون أرض) البرازيلية للنضال المنظم، بتأثير واضح من لاهوت التحرير. لكن في المغرب، وفي غياب الوعي السياسي، نتيجة تسلط الدولة وشبكة الأعيان على العالم القروي، كانت تنفجر احتجاجات عفوية لمواجهة عمليات تجريد صغار الفلاحيين من الأرض؛ كما حدث في نونبر 1970 في منطقة الغرب، وتحديدا في منطقة ولاد خليفة، والتي انتهتبتدخل الجيش، وسقوط دماء زكية لشهداء الأرض، وبقيت، إلى اليوم،الجراح طرية في المرويات الشفوية، تقاوم سياسة النسيان وتصفية الذاكرة.
في سياق مشابه، تحضرني كطفل صغير وقائعالصراع والظلم والسجن على الأرض. في مسقط الرأس، تداعت (نخبة) الدوار لاستعادة الأرض (المسروقة) من إقطاعي، كان يملك الأرض والنفوذ.. انتهت المحاولة، في مغرب سنوات الجمر والرصاص، بنتائج عكسية: تكريس (ملكية الاقطاعي)، الذي كان اسمه يجمع بشكل غريب ومتناقض ما يحيل على مكة المكرمة وموسكو الشيوعية، وجر (النخبة) إلى سجن العواد بالقنيطرة، كرسالة لإرهاب من سولت له نفسه السؤال عن حق عقاري ضائع!
ونتيجة لاستحواذ الأعيان على الأراضي الشاسعة والخصبة، هي دواوير بدون أرض. لم يعد الوعاء العقاري الجماعي عاجزا على توفير قطعة أرضية لشباب اليوم لممارسة الأنشطة الفلاحية فقط، بل أيضا لم يجد هؤلاء الضحايا (بقعة) لبناء الخيمة ذات الكانون المستقل. هناك من استجاب مضطرا لغواية المدينة، فاستوطن الهوامش الحضرية، والبقية تقاسمت بيوت (الخيمة) الأم في (محالات) مستقلة. وهي أنماط طارئة على السكن القروي، ووليدة أزمة عدم حل (المسألة القروية).
لا يمكن إنكار جهود الدولة وقطاعاتها في (تنمية العالم القروي)؛ مثل المخطط الأخضر أو غيره من الاستراتيجيات التنموية، لكن هذه الجهود موجهة، في الغالب، لكبار الفلاحيين. أما طبقة (البدون)، فتكتفي بمتابعة المنجز التنموي في القنوات الإعلامية، دون أن تقطف ثماره. ليس للبدون غير استئناف روتينهم اليومي في معاركة مصاعب الحياة، على إيقاع أغنية نجمة الغرب (مُليكة): خليوني نبكي على الهالكني.