الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

ماجدة الفلاحي: الشعيبية.. حكاية امرأة سلالية

ماجدة الفلاحي: الشعيبية.. حكاية امرأة سلالية ماجدة الفلاحي

لم تدرك شعيبية وأخواتها أن تحريكهن المياه الراكدة كان فيه استفزاز للواقع واكتشاف له؟ وأن ظواهر الأشياء ليس كبواطنها!

لم تدرك شعيبية أنها دخلت عش الدبابير بخوضها في الممنوع ووقوعها في المحظور!؟ شيء من الضجيج أسقط الأقنعة وأظهر الطواغيت!

 

وبين الدهشة وحرقة السؤال تحكي شعيبية عن حكاياها التي لا تنتهي عن حكايا الصباح والمساء تحكي عن الظلم والقهر تحكي، عن اقتراف الحق والخطيئة تحكي!

 

أخوهن حين تكبر وتجبر وهدد وأنذر وتمادى في غيه وأمعن، كن مجبرات شعيبية وأخواتها السلاليات على سلك طريق المخزن لا محيد عن ذلك كم تضرعن إلى لله أن لا يكون هذا خيارهن الأخير! لكن قدر الله وما شاء فعل.

تهديده لهن حين قال "را المخزن سيرو ليه ولي حطت رجلها في المحل ولا في الأرض نهرسها لها". لم يكن لحظة غضب وتعبير عن انفعال عابر فقط، بل يعني قوله، يعي قدرته، يدرك كنهه.

 

تستحضر شعيبية الماضي بشجن وكدر عميقين ونتوءات جراح الأمس لم تندمل بعد، تستيقظ لتطاردها ليل نهار مكسورة هي باجترار الماضي وحرقة الحاضر، الحسم في اللجوء إلى المخزن لم يكن أمرًا هينًا، المخاض كان عسيرًا أخذ منهن فيه التردد مأخذه صراع الليل والنهار بين انتزاع الحق أو الاستكانة للظلم والتسليم به، الخوف وشعور الذنب والخجل نال منهن ونظرات الاستنكار تلاحقهن، همهمات هنا ولغط هناك جعل من قضيتهن معصية وذنب لا يغتفر! مصيرهن أصبح بين مطرقة الأخ وسندان المخزن! الشك والريبة والخوف من الطريق جعلهن يترددن ألف مرة.

 

جاء اليوم الذي أدركن فيه أنهن لسن مذنبات، وهن فقط لحقهن مطالبات حينها قررن أخذ زمام أمرهن بيدهن وخوض غمار المجهول!

لم تطأ قدما شعيبية يوما المخزن، معرفتها به لم تتجاوز حدود المقدم وشيخ القبيلة.

بخطى متسارعة نحو قدرها والعرق يتصبب منها بقلب معصور تتسارع دقاته تسمع صداها في أذنها للحظة خيل لها أن قلبها سقط أمامها داست عليه ولجت للداخل.. داخله مفقود وخارجه مولود! هنا بدأ المشوار بدأ انتزاع الحق ! دابا بدا المعقول! وبدأت الدوامة.. لخبار في راسكم .

 

مرت أكثر من سنة على عدم رؤية شعيبية لأمها غمرها الحنين والشوق لرؤيتها،

اشتاقت لرائحة أمها،

اشتاقت لحضن أمها

اشتاقت للمسة أمها

اشتاقت لضحكة أمها

اشتاقت واشتاقت

لكل أمها اشتاقت..

لأخيها وأطفاله اشتاقت، لأرجاء البيت الذي ولدت فيه وعاشت فيه أفراحه وأتراحه لأشجار التين ودالية العنب تنشر خضرتها في فناء البيت اشتاقت للعائلة للبسمة للفرح.. للمة.

 

تتذكر شعيبية وتحكي "كلاني قلبي على ميمتي أنا لي كنت كل سوق نطل عليها نعومها ونتفكرها بلي قسم الله، ميمتي العظم كبر وخفت جي الفراق وهي ساخطة علي"..

وتضيف شعيبية "الله ينعل الشيطان ولد الحرام، الله ينعل بو الفلوس والأرض حتى حاجة ما تعوض لميمة حتى حاجة ماتعوض الفاميلة"..

 

بحزن وأسى تحكي شعيبية أنها لم تستطع صبرا، أهلكها الشوق وكاد الحنين يذهب بعقلها أينما ولت وجهها هناك صورة أمها تتراءى لها في الأحلام وفي الأذكار.. في كل كسرة خبز وكأس شاي في الأرض في السماء.. في القرنفل والحناء..

صوتها تسمع صداه يتردد في صلاتها وفي دعائها مع حفيف الأشجار في الغيث والريح وفي رائحة المطر والريحان..

شعيبية هي البنت الكبرى لأمها الصاحبة لها والأم البديلة عنها لأخواتها البنات وأيضًا لأخيها آخر العنقود .

 

"داز العام عندي كحل زحل كرهت فيه راسي بسير أجا طريق المخزن طويلة واعرة.. صعيبة على درويش بحالي خاصها لعرف والجيب والوجوه... غير المركوب قهرني وأنا باقية ما قلت حتى باسم الله باقية واحلة غير باش يقبلو مني الشكاية !!!؟ تعريت احنا دراوش لا ماخدمناش ماناكلوش وأنا وقتي كلو ولا غير سير وآجا لمخزن ! الله يسامح مابقيت بغيت والو حقنا عند مولانا وعندوملقانا"..

 

أذن للفجر، توضأت، صلت طلبت من الله أن يغفر لها ما تقدم من ذنبها وما تأخر. قررت هذا اليوم أن تزور أمها ولي يوقع يوقع! حاول زوجها أن يثنيها عن قرارها خوفًا لما لا تحمد عقباه وهو الذي يعرف عصبية أخوها وأنانيته لم يكن مؤازرا لها ولا محبذا ذهابها للمخزن هو الذي يعرف سطوة أخيها كما يعرف قدر نفسه !

 

شعيبية تقول "راجلي درويش خدام غير بكتافو كان خدام عند بويا أنا لي بغيتو وحلفت ماناخد غيرو! خرج الله يعمرها سلعة لي خدمها يجيبها لي ندسها حتى أنا لقاني مرا قادة عاونتو على زمان" القضية فيها الحووب أشعيبية !

 

تتذكر شعيبية ذلك اليوم وكأنه بالأمس فقط بأسى وشجن تحكي تفاصيل أحداثه شعيبية لها قدرة غريبة على الحكي تتقمص الفرح تحكي عنه بكل تفاصيله تلبسه البهجة بنبرات صوتها كأنه حاضر وليس بماض كما تتقمص أجواء الحزن بكل أساه كأن أحداثه وقعت للتو والحين تحكيها بنبرات حية تلبسها كل أحزان الدنيا! تصيبك الحيرة بين الموت لأجل أحزان شعيبية أو الحياة لأجل أفراح شعيبية!؟

 

عجيب أمرك شعيبية! تحكي "هذاك نهار صليت الله يقبل ودعيت الله يرفد علي هاذ الغمة انت مولات الخير لجيد في لفرارج شديتو وذبحتو خبزت فرتت وجدت مضيهيسة حملت بنيتي على ظهري باقية ماقفلت شهر كنت مازال نفيسة شديت القفة في يد واليد الأخرى شديت بها ولدي توكلت على الله وقلت موتة وحدا كاينة لي لها لها!؟ "

 

عودة شعيبية للقبيلة لمسقط الرأس

وارتماؤها في أحضان أمها كان عودة الروح للجسد !

بعد السلام والملام والعتاب وطي صفحة الماضي مع أمها بعد الأكل والشرب وأجواء الفرح وكأنه عيد! لم تسامح نفسها على الوقت الذي أهدرته بعيدا عن رضى الوالدة ودفئ العائلة تحسرت على كل لحظة عاشتها بعيدًا عنهم في الهم والغم خجلت من فعلتها واستغفرت ربها ونعلت الشيطان الرجيم ألف نعلة! الفرحة غير مكتملة بغياب أخيها الذي لن يعود إلا مساء. أحست وهي تضع كفها بكف أمها بخوفها برجفتها أدركت أن طي الصفحة من يقرر فيه هو الأخ وليس الأم المغلوب على أمرها !

قبلت يدا أمها لتهدئ من روعها وأعادت على مسامعها أنها لا تريد إلا رضاها كما طمأنتها أنها متنازلة عن قضيتها! لكن شعور الخوف مازالت تحسه شعيبية في نظرات أمها وفي ارتعاش جسمها انقبض قلب شعيبية وانتقل لها خوف وتوجس أمها اللهم اجعله خيرا .

اقترب المساء ، لم يعد بعد أخو شعيبية للبيت..

أحست لربما يتهرب من لقائها .

حان موعد رجوع شعيبية إلى بيتها لم تستطع أن تلبي طلب أمها بالمبيت عندهم وعدتها أن يكون ذلك الأسبوع المقبل بحول الله .

وهي في طريق عودتها، أحست بنقصان فرحتها من دون رؤية أخيها تمنت لو ضمته إليها كما كانت تفعل وهو صغير لا يستطيع النوم إلا في حضنها، أخذتها مشاعر الشوق والحنين إلى ذاك العهد! وفي لحظة شوق جارف تركت طريقها وعرجت إلى أرض أبيها حيث أخوها هناك ،تراءى لها من بعيد مع بعض العمال وقف مندهشا أقبلت عليه والفرحة لا تسعها تريد أن تخبره بالبشرى بالتنازل وطي الصفحة! هيهات شعيبية !

 

تحكي شعيبية وتتذكر الماضي الحاضر وكأن وقائعه جرت للتو واللحظة بصوت مغرق في الأسى والحزن لم يمحي توالي السنوات نذوب الماضي، تقول شعيبية من هول الصدمة تسمرت في مكاني مذهولة غير مصدقة لردة فعله في غفلة مني انقض علي والفأس بيده، يرغي ويزبد يسب ويلعن يحاول ضرب كل مكان في جسمي... شعيبية معذرة لن أكمل بقية الموقعة ولن أصف تفاصيل الافتراس كما حكيت !