الجمعة 29 مارس 2024
منبر أنفاس

ليلى أشملال: في زمن الجوع والحرب (2)

ليلى أشملال: في زمن الجوع والحرب (2) ليلى أشملال

رجعت إلى دارنا بذلك الحي الشعبي الفقير، علمت أمي من تقاسيم وجهي أنني لم أبع شيئا وأنني لم أحصل على المال، لكن ما زلت في نظرها ذلك "المطور"، كانت تفضلني أمي عن ما تبقى من إخوتي الذكور لأنهم لم يكونوا يوما بذلك الذكاء والحذر الكافي لكي لا يخدعوا من طرف الآخرين، من طرف أولئك الذين يعلمون أن لنا أبا استشهد في الحرف وأننا يتامى وأن لا أحد يحمينا من بطش الظالمين، أنا صغير في السن لكنني حميت عائلتي دائما، وتعبت كثيرا في شوارع القهر لأوفر لنا ما يضمن لنا عيشة كريمة، ما نستطيع أن نسد به جوعنا دون أن نلجأ لمد يدنا للغير، تقول والدتي "لو كان المرحوم حيا ما رضا لنا عيشة الذل أبدا..."

 

أتساءل لو كان على قيد الحياة، فهل كان سيضربني حينما سرقت لأول مرة "قفة" من السوق!! هل كان سيوبخني؟ تقول أمي إنه يراني من السماء!! فهل كان راض عني ذلك اليوم؟؟ أنا لم أفعل ذلك عبثا! ما كان لي من خيار آخر، أنا الطفل الصغير الذي جعلته الحياة رجلا كبيرا في سن مبكرة، ما كان يسعدني أن أرجع لوالدتي خالي الوفاض كانت تسعة أفواه جائعة تنظر إلي وما كان في جيبي من دراهم فما عساني أفعل!

 

تلاشت كل هذه التساؤلات حينما رأيت امرأة بخمار أسود تدخل منزلنا صحبة جارتنا "رقية"، لم أرها قبل هذا اليوم لكنها تبدوا مألوفة، سألت أمي عن سبب قدومهم، قالت لي لا تتدخل في أمور لا تعنيك، لكنني لاحقا علمت سبب قدوم تلك السيدة وغيرها من النساء، حينما شتمني ذلك الجرو الصغير قائلا لي "روح يا ولد السحارة، يا المشعوذ..."، لم أستوعب حينها ما قاله لي، لكنني وبعد تحريات صغيرة فهمت كل شيء، لم أحب مصارحة أمي كما أنني لم أكن سعيدا بالوضع أبدا، لم يكن يعنيني ما قاله ذلك الولد المتسخ ولكن ما قد آلمني حقا هو العصيان الإلهي الذي تقوم به والدتي!!! يمكن لله أن يغفر لي سرقتي فهو يعلم دافعي لذلك لكن هل سيغفر لأمي شركها!!! تسألني أختي إن كان يعتبر شركا!! نعم سمعت ذلك من فقيه الحي كان يناقش أحدهم، وسمعته يقول أن السحرة ملعونون وأن ما يقومون به هو شرك بالله. حذرت أختي من أن تتحدث مع أمي في الموضوع، هي التي كانت ترافق من هب ودب إلى تلك الغرفة التي اتخذتها والدتي غرفة لاستقبال ضيوفها من النساء.

 

حل الظلام من جديد؛ أتوسد مخدتي المتسخة التي أشاركها مع أخي الصغير، ما زالت بعض النساء في الغرفة المجاورة مع أمي، لقد أحسست بفضول كبير هذه المرة لمعرفة ما يحدث داخلا؟ تسللت بخفة، وضعت أذني على الباب، لم أستطع سماع أي شيء، فجأة  أحسست بخطى متجهة نحو الباب اختبأت في "بيت الماء" وما إن خرجت تلك السيدة التي تركت الباب مفتوحا قليلا -ربما عن استعجال- حتى رجعت لأسترق السمع من جديد، كانت أمي تسأل إحداهن عن اسم زوجها واسم أمه وعن المشكلة التي أتت من أجلها، المرأة تشكي خيانة زوجها بحرقة بالغة، هو الذي يخونها كثيرا ولا يحب أبناءه كما جاء على لسانها، اقتربت من الباب أكثر لأختلس النظر من الفتحة فرأيت أمي تأخذ سائلا أصفر اللون وتكتب به شيئا في ورق أبيض ثم تلقي به في قارورة صغيرة مملوءة بالماء وتمنحها للسيدة قائلة "رشي شوية حدا باب الدار، ولبقا شربي منو نتي وولادك، ضروري تشربو منو كاملين وبعد سيمانة عاودي رجعي"؛ ثم قبل أن تنهض السيدة من مكانها للمغادرة، قامت أمي بإعطائها حجابا مضيفة "خذي هذا وحطيه فداخل وسادة راجلك وما يكون غير لخير"، ثم تهم آخر ما تبقى من النساء في الغرفة بالخروج.

 

ما سمعته وما رأيته للتو، يجعلني في حالة اندهاش من أمي؟ فهل ما تقوله صحيح! هل تستطيع حل جميع مشاكل تلك النساء!؟ هل تستخدم الجن؟ بيتنا مسكون إذن! شعرت بخوف شديد ثم ذهبت للنوم قبل أن تلمحني أمي وينزل كل غضبها علي.

 

لم أستطع النوم أبدا من التفكير، أفكر في كوني أخا كبير لتسع إخوة أصغر مني يشاركونني الغرفة الواحدة، هي تتسع لنا جميعا، فهل رحمة الله ستتسع لنا جميعا أيضا؟ هل سيسامح الله أمي!؟ هل سيأخذنا بذنوبها هي لا ببراءتنا نحن!؟

 

كانت تتزاحم الأسئلة في عقلي الصغير وتمنعني من النوم، تلك الأسئلة التي امتلكت أجوبتها حينما كبرت، كانت أسئلة تافهة لطفل يبيع السجائر طمعا في كسب لقمة عيش، ما كانت سوى أسئلة بسيطة تؤرق ابن "شهيد".