الخميس 18 إبريل 2024
مجتمع

إقليم القنيطرة.. دوار أولاد بلخير ليس على خير!

إقليم القنيطرة.. دوار أولاد بلخير ليس على خير! الجغرافيا والتقسيم الترابي من صنعا عزلة أولاد بلخير
في قلب السهول الواطئة، بمنطقة الغرب، يستقر دوار أولاد بلخير، جماعة المكرن، في (أقسى) نقطة بالهامش المنسي، في الأطراف الشرقية لإقليم القنيطرة الغني. لا يتعلق الأمر بحالة (نفي) أو استبعاد مجالي، ولكن، أيضا، بوضعية اليتم.. بين التبعية الإدارية لإقليم القنيطرة، والنفوذ الاقتصادي والاجتماعي القوي لإقليم سيدي سليمان.
ورغم أن هذا الدوار أول المستقبلين لضوء الشمس بالإقليم، فإن المشهد العام، بأولاد بلخير، يسكنه السواد المنبعث من تربة التيرس الغرينية، في إحالة، لا تغفلها عين الزائر، على الآلام والمعاناة الناتجة عن عقود من سياسة التهميش.
في هذا الحيز (القروي) يجري، يوميا، صراع طاحن وغير متكافئ، بين طبيعة سهل الغرب بما يكتنزه من جمال وخصوبة ومنفعة، وبين السياسة، التي جسدت استمرارا لتقاليد الحرب والغنيمة و(الهمزة)، كآلية لإنهاك الإنسان وهدر للموارد وإرهاق للوطن!
 
(طريق) العزلة:
رتب التقسيم الإداري لسنة 2015 أولاد بلخير، فيما يشبه التواطؤ السياسي، كآخر دوار في النفوذ الترابي للجماعة القروية المكرن بدائرة بنمصنور، وكأنها (رسالة) مضمرة، مفادها: اجعلوا حال القبيلة على خلاف صفتها!أو هكذا يبدو مضمون الرسالة، كما شرعت في تنزيله (النخب) التي تداولت على (التسيير)، الذي انتهى، في نهاية المطاف، إلى صناعة دوار على حافة (التنمية) الوطنية.
إلى عهد غير بعيد، كان (البلخيري) يُسير قافلة من الدواب، على امتداد أكثر من 10 كيلومتر، لينعم بالماء (الحلو).. مما اضطر الناس إلى الاكتفاء، لضعف الحيلة والوسيلة، بماء مُر (مالح) وغير مأمون على امتداد عقود من التسيير الجماعي، الذي فشل في إقامة ثقب مائي بأكبر فرشة مائية، ليس لإقامة منشآت هيدرولوجية تؤمن حاجيات الزراعة السقوية، بل فقط لتأمين حاجة الناس من الماء الصالح للشروب... لقد(نجحت) المجالس المتعاقبة في حرمان المنطقة من الشروط الدُنيا للحياة الكريمة.
في هذه الجغرافية، التي تخضع لأحكام الولاء السياسي والزبونية الانتخابية، يسهل التمييز بين الدواوير (الموالية) و(المعارضة) وفق معيار خدماتي: الماء والكهرباء والطرق المعبدة والنقل المدرسي.. وعندما حاولت الدولة تعميم بعض الخدمات، تحايل (الممثلون) للسكان على هذه الإجراءات، بنصب متاريس من الأعباء البيروقراطية، أو بالحرمان الفج من البرامج التنموية الموجهة للعالم القروي، لدواعي انتقامية مرتبطة بالرهانات الانتخابوية.
بعد انسحاب آخر خطوط الشمس، يلتقي، في موعد يومي، ظلام السماء وسواد الأرض.. ولأن الدوار ضمن القائمة السوداء، ولا من ينهش عنه كلاب الابتزاز السياسي، فإن المؤسسات المعنية بتوفير هذه الخدمات تمتنع، إلى اليوم، عن نصب أعمدة الإنارة العمومية لتسهيل حماية الممتلكات، وبالتالي العبور إلى عصر الضوء.
يتداول الناس، هنا، الوعود المشبعة بالأمل، لإعادة تعبئة طاقتهم الجماعية المنهكة من الصراع مع غضب الطبيعة (الفيضانات- الجفاف) وفساد السياسة.. وينتظرون، كسابق عهدهم، تنفيذ وعود الرئيس الحالي للجماعة بإقامة الإنارة العمومية وتعبيد مدخل الدوار، وهي مشاريع ينتظر، في حالة تنفيذها، أن تحقق فوائد اقتصادية واجتماعية لكل المنطقة.
 
من الإنسان المقهور.. إلى الإنسان المهدور:
ليس (قدر) الجغرافيا والتقسيم الترابي من صنعا عزلة أولاد بلخير، بل أساسا غياب الطرق المعبدة؛ التي تآكلت، بشكل كلي، نتيجة للغش والفساد. فأقرب مركز حضري للدوار هو سيدي علال التازي، لكنوادي بهت، في غياب قنطرة للعبور،ينتصب مانعا لهذا التواصل.. أما القنوات القائمة، مثل الطريق القروية رقم P4238، والمقطع الطرقي الذي يخترق دواوير بني افضل ورماضة ولاد العياشي، شاهد على عطب (التنمية القروية).
غياب المسالك الطرقية المعبدة يجعل من دوار أولاد بلخير في عزلة قاهرة...الدولة غائبة، أو تنازلت عن واجبها، إلا من مدرسة ابتدائية، لا يقوى أغلبية تلامذتها على الوصول إلى التأهيلي. تساءلت، دائما، على قدرة المدرسة رفع التحدي في بيئة فقيرة اقتصاديا وفكريا؟ الجواب الملموس، يتجسد في النسبة المرتفعة لنسبة الأمية والهدر المدرسي والبطالة والزواج المبكر ومؤشرات الهشاشة والفقر.
ورغم كرم البيئة، التي أنعمت على المنطقة بوفرة الماء وخصوبة التربة، فإن علامات الهشاشة موشومة على الإنسان والمشهد الجغرافي... يظهر ذلك، في سيادة الفلاحة المعيشية على أراضي مجهرية، لا تنتج إلا للكفاف: زراعة بورية، وخاصة الحبوب، تعاني، بشكل منتظم، من تقلبات الطبيعة. فبعد سنوات الجفاف القاسي تأتي الفيضانات لإنهاء دورة الإنتاج الضعيف، وتبقى تربية الماشية وفية لنمط تقليدي لا يقدم القيمة المضافة لفلاح يقهره عنف الطبيعة وانحدار السياسة لإنتاج البؤس، كما لو أنها تكرس الخطاطة التحليلية لريمي لوفو حول علاقة السلطة بالعالم القروي.
لا ترتبط القبيلة بوحدة الدم، كما يجسدها الانتماء، الفعلي أو الافتراضي، لجد واحد مشترك، بل تنتمي إلى فرق متصارعة، تحمل جروح الماضي في الصراع على السلطة والأرض، وهو ما يفسر، في الماضي كما في الحاضر، فشل التنظيم القبلي في إنتاج نخبة محلية (أعيان- نشطاء حزبيون ومدنيون..الخ) ذات نفوذ للدفاع عن المجال الحيوي للقبيلة: الأرض والمرعى. كما يمكن أن يفسر، أيضا، لماذا أغلبية الفلاحيين بالدوار بدون أرض!يتألم الشباب، الذين (طردوا) قسرا من القبيلة للعمل، كقوة عضلية في الحرف المرتبطة بأنشطة البناء في المدن الكبرى، من امتلاك (الغرباء) لإقطاعات عقارية كبرى (القُطعات) في عمق قبيلتهم في ظروف كان الريع والغلبة من نصيب الأعيان.. لم يبق للشباب غير انتظار الأمل الذي أشاعته الدولة حول تنفيذ مشروع تمليك الأراضي السلالية لذوي الحقوق.
 
بابلو إيسكوبار في ضيافة أولاد بلخير:
لم ينتظر الواقع، بشروطه وتعقيداته، تدخل أجهزة الدولة وامتداداتها لاستدراك الأعطاب البنيوية للتنمية، لتوجيه بعض الشباب إلى عوالم الجريمة المنظمة، سعيا للهروب من واقع قاهر... لم يكن للدوار خبر، إلا من محكيات شفاهية عن جودة منتوجاته الفلاحية (الحبوب-البطيخ- الطماطم- المواشي...)، وأنباء عن زمن الفيضانات،لكن مؤخرا تفننت وسائل الإعلام في صياغة سرديات عن شبكة للمجرمين تحترف استدراج (الأغنياء) لمقايضتهم عملة أوربا بنصف قيمتها، وهي القضايا التي كانت موضوع إدانة قضائية لعدد من الشبان بجرائم تكوين عصابة إجرامية ومحاولة السرقة والاحتيال.
بهذا الخبر، المكتوب من القاعات المكيفة، استنفذت وسائل الإعلام واجبها المهني، دون أن تكلف نفسها التحقيق في الواقع المأساوي الذي أنتج هذه الظاهرة الغريبة عن السياق القبلي والاجتماعي للمنطقة.. وسيكون الصمت عن هذا الواقع، وعدم امتلاك شجاعة تعرية بشاعته، بمثابة تشجيع على إعادة إنتاج الظاهرة ذاتها.
إن المداخل الممكنة لتجفيف هذه الظاهرة الطارئة تستدعي، وجوبا، تقوية دور المدرسة وتشجيع التمدرس، وخاصة توفير وسائل النقل المدرسي المجاني، وتعبيد الطريق القروي الرابط بين سيدي يحيى الغرب وسيدي علال التازي، الذي ستكون أهم ثماره فك العزلة على المنطقة برمتها، وتهيئة البيئة المناسبة للإقامة الفلاحة العصرية الكفيلة بإنعاش دورة الحياة الاقتصادية.
ما يزال صانع القرار، في كل الهيئات المعنية بتنمية العالم القروي، يمتلك المبادرة للتصحيح والاستدراك، وأتمنى، كمقدمة لذلك، أن تتحقق وعود المجالس المنتخبة في تعبيد طريق الدوار / القبيلة للعبور الآمن إلى المستقبل.