لم يعد يخفى على أحد أن دولة الصين استطاعت وقف زحف فيروس كورونا ومحاصرة امتداده فوق أراضيها بشكل أبهر كل دول العالم، ولن يفاجئنا خبر تخلص الصين من هذا الوباء في الأيام المقبلة تاركة معظم دول العالم تعيش الهلع وسط مستنقعات هذا الوباء الفتاك .
الصين عبأت في حربها ضد فيروس كورونا كل إمكانياتها البشرية واللوجيستيكية والتقنية والمعلوماتية مستغلة ارتفاع مناسيب الوعي والدقة والتنظيم في الدولة (مؤسسات ومواطنين)، وتبقى البيانات الضخمة THE BIG DATA أهم سلاح استخدمته الصين في حربها لمواجهة تفشي الوباء .
وتُمثل البيانات الضخمة مرحلة هامة من مراحل تطور نظم المعلومات والاتصالات والذكاء الرقمي، وهي تعبر في مفهومها المبسط عن كمية هائلة من البيانات المعقدة التي يفوق حجمها قدرة البرمجيات والآليات الحاسوبية التقليدية على تخزينها ومعالجتها وتوزيعها، الأمر الذي يؤدي إلى وضع حلول بديلة متطورة تمكن من التحكم في تدفقها والسيطرة عليها.
وتستخدم البيانات الضخمة في عدة مجالات اليوم كالتعليم والأمن والتجارة والتواصل (موقعا Amazon و Facebookنموذجا)، وتوفر تنبؤات لصانعي القرار وأدوات مبتكرة لفهم أفضل للظروف، وبالتالي اتخاذ قرارات صحيحة تحقق الأهداف المطلوبة .
وهكذا، وضعت الصين بتنسيق مع شركات الاتصالات تطبيقا معلوماتيا يتيح لمواطنيها التسجيل باستخدام رقم الهاتف والاسم ورقم التسجيل الوطني لمساعدة الناس على معرفة مدى احتمالية تواجدهم في وقت سابق بمقربة من شخص مصاب أو مشتبه في إصابته، وذلك بتفعيل عملية تطابق البيانات المعروضة مع البيانات الضخمة المتوفرة لدى السلطات العامة. كما عمل عملاقا الانترنيت "ali baba" و "tencent"بتصميم تطبيق للهواتف المحمولة يُبلَّغ من خلاله المواطنون الصينيون بمستوى الخطر المفترض ؛ حيث تعتمد رموز الاستجابة السريعة Quick Response Codes (وهي عبارة عن مجموعة من المربعات السوداء والبيضاء, تستخدم عادة لتخزين عناوين URL أو معلومات أخرى للقراءة بواسطة الكاميرا على هاتف ذكي)، والتي يتغير لونها بشكل أوتوماتيكي على هواتفهم حسب درجة الخطر ومدى زيارتهم أو عدم زيارتهم لأماكن مصنفة على أنها تمثل تهديدا للصحة العامة .
وللتذكير، فإن سهولة توافر المعلومات وتحليل البيانات الضخمة مكنت الصين من تحديد الوضع واتخاذ القرارات والمبادرات الآنية بشأن كل ما يتعلق بالجوانب المتعلقة بتفشي الفيروس؛ وهكذا عملت منصات رقمية أخرى متطورة على تحليل البيانات الضخمة وتحديد كل تحركات الأشخاص المصابين أو المحتمل إصابتهم، وبالتالي فرض الحجر الصحي الإجباري التام على مناطق معينة وإخضاع جميع المشتبه في إصابتهم للمراقبة الصحية والفحص المخبري الإجباري .
وبدلا من اتباع التدابير الصينية القاضية بعزل مدن طالها الفيروس، تبنت كوريا الجنوبية نموذج إتاحة المعلومات، والمشاركة العامة، وتوسيع نطاق وحجم الفحوصات؛ بحيث يتم الاتصال بجميع الاشخاص الذين خالطهم المرضى المصابون بكورونا المستجد لإخضاعهم لزوما للفحوصات. وتُرصد تحركات الشخص المصاب في الأيام الـ 14 السابقة لإصابته من خلال استخدامه بطاقة الائتمان المصرفية، وصور الكاميرات الثابتة والمتحركة، وخريطة تنقلاته اعتمادا على هاتفه المحمول ونظام الـGPS . وتنشر تلك المعلومات على مواقع حكومية, مع رسائل نصية تحذيرية للمواطنين عندما يتم رصد إصابة جديدة في المنطقة التي يعملون أو يعيشون فيها، ورغم أن هذا الإجراء يثير قلقا إزاء مسألة الخصوصية، إلا أنه يشجع الناس على قطع الشك باليقين بعد التقدم لإجراء الفحوصات.
وبأوروبا، تعتمد ألمانيا على "كورونا داريف" (Corona drive) وهو عبارة عن مختبر طيّار يأخذ عيّنات من الأشخاص ولو لم تبدو عليهم عوارض متقدمة من المرض، وفي أي مكان قد يتواجدون به، ويحلّلها في أقرب مختبر. هذه الإجراءات السريعة والفعّالة سمحت للسلطات الألمانية بفحص أعداد كبيرة من السكان، وتحديد الأماكن التي تعرف نسبة إصابات مرتفعة واحتوائها قدر المستطاع للتخفيف من سرعة انتشار الوباء، وهو ما جعل ألمانيا تعرف أقل نسبة للوفيات مقارنة بباقي دول الاتحاد الأوروبي.
لاشك أن محاصرة الفيروس ليس بالأمر الهين، إلا أنه ليس مستحيلا طبعا، ولا سبيل لذلك إلا بتجنيد كل سلطات الدولة وتظافر جهود كل أفراد المجتمع المدني...
وعلى هذا الأساس، نعتقد أن الفرصة لا تزال أمام دول أخرى (كالمغرب) للتنسيق مع شركات الاتصالات وخبراء المعلوميات لوضع تطبيقات إلكترونية أو منصات رقمية واستغلال تطبيقات التراسل الفوري للمساهمة بشكل أو بآخر في تطويق ومحاصرة تفشي الوباء .
وهذا كله، لن يغني عن الأبحاث الميدانية التي تقوم بها مختلف الأجهزة الأمنية والاستخباراتية للدول الموبوءة في عملها اليومي للاتصال بالمصابين وأقاربهم من أجل تحديد خريطة الأشخاص المحتمل إصابتهم ومواقع تنقلاتهم، بحيث تمكن مختلف المعلومات المستخلصة من اتخاذ القرارات المناسبة التي يتطلبها فرض حالة الطوارئ، تحقيقا للأمن الصحي العام.
وحسنا فعل المشرع المغربي بإصداره قانونا منظما لحالة الطوارئ الصحية ولإجراءات الإعلان عنها من خلال المرسومين 2.20.292 و2.20.293. وللتذكير فإن المادة 3 من هذا الأخير أتاحت لولاة الجهات وعمال العمالات والأقاليم الحق في اتخاذ تدابير إضافية ذات طابع توقعي أو وقائي خاصة لمواجهة انتشار وباء كورونا داخل جماعة معينة أو عدة جماعات تابعة لنفوذهم؛ حيث يمكنهم مثلا، إصدار أوامر الحجر الصحي التام على حي أو أحياء سكنية أو منشآت معينة وتحديد أوقات فتح وإغلاق محلات المواد الغذائية وفرض قيود وضوابط متعلقة بالتنقل ومنح الأجهزة التابعة لهم حق فرض الحجر الصحي الإجباري والمراقبة الصحية على الأشخاص المخالطين للمصابين أو المشتبه في إصابتهم...
والأهم من كل هذا الآن، فإن سلاحنا الفعال -والذي تبنته معظم الدول- لمواجهة هذه الجائحة، يبقى هو التزام جميع المواطنين بتدابير الوقاية والانضباط التام لإجراءات حالة الطوارئ والحجر الصحي التي فرضتها سلطات البلاد، وعدم مغادرة محلات السكنى إلا للضرورة القصوى .
نسأل الله تعالى أن يحفظ البلاد والعباد ويبعد عنا هذا الوباء.