إن توديع القرن العشرين كونيا شكل ويشكل حدثا بارزا واستثنائيا في تاريخ البشرية. فبقدر ما عبر الإنسان عن قوته في تعامله مع الطبيعة (القوة العلمية والتكنولوجية)، بقدر ما فطن بوضعه الهش في مجال القيم ومقومات العيش المشترك. لقد نشبت حروب دامت لسنوات، بل لعشرات السنين، واستطاع الإنسان بعدها خلق توازنات جديدة، تمكن من خلالها دائما من بناء عالم جديد. بينما اليوم، ونتيجة لتفوقه الباهر، الكل يعي تمام الوعي أن إنسان منتصف القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين يمكن أن يهدم ويخرب في لمحة بصر الأرض التي يقطنها ويتوطنها منذ وجود أول إنسان على سطحها. لقد وصل إلى تحقيق اختراعات مخيفة كيماوية ونووية وبيولوجية، إلى درجة أصبح بإمكانه تغيير طبيعة الأصناف الحية، بل وتغيير طبيعته من خلال التمكن من القدرة العلمية لتغيير البنيات الجينية للكائنات الحية. لقد تقدم إنسان اليوم بشكل مخيف في مجالات أبحاثه ونتائجها، خاصة مجال الخلايا الجنينية والأنسجة البيولوجية، وإمكانيات ضمان صلاحيتها من خلال تجميد الأجنة أو المضغات أو الأنسجة في أبناك بيولوجية حية.
فموازاة مع هذا الانبهار، والخشوع المعلن أمام هذا الإنجاز العلمي الخارق، الذي دام أكثر من قرن من الزمن، عاش العالم أوهاما إيديولوجية عنيفة تصارع من خلالها تياران لا ثالث لهما، الأول واجه الأديان بقوة وعنف، مدعيا أن النظام الصالح للبشرية هو الشيوعية المستندة على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، والثاني، واجه الكنيسة المسيطرة والتقاليد البالية رافعا شعار الحرية السياسية (الديمقراطية وحقوق الإنسان) والثقافية (حرية الاعتقاد والانتماء) والاقتصادية (حرية السوق). لقد اندثر الأول مباشرة بعد هدم جدار برلين، ليصل الثاني إلى مرحلة الاحتضار بعدما نفذ مخزون غدائه (جثة التقليدانية)، ليجد العالم نفسه أمام منعطف خطير وحساس للغاية، بمنظومات قيم مشتتة، خالقة انكسارات عميقة في المجتمع العالمي بشكل عام، والمجتمعات والأمم الوطنية بشكل خاص، منظومات ترتب عنها بروز طوائف ومجموعات وعشائر وقبائل جديدة، تتشكل كل يوم بأعداد هائلة بسبب تطور التقنيات الجديدة للتواصل والإعلام. إنها منظومات لا تمت بصلة بمجتمعات القرون الوسطى، ولا بمجتمعات عصر الحداثة الذي امتد من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن العشرين. لقد انبثقت منها مجموعات، منها المسالمة ومنها العنيفة الرافضة للتقدم الباهر، لا تؤمن بالمنظومة الأخلاقية العامة (Moral universel)، التي يسعى روادها لإخضاع الجميع لها، بل خلقت بشكل عفوي منظومات أخلاقية خاصة (Groupes d’éthiques) تتطور مع الزمن بشكل سريع، وهي بذلك غير ثابتة في شكلها ومضمونها، ولا تنشغل إلا بتحسين مستوى عيشها بكل الوسائل الممكنة سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة في نظر رواد منظومة القيم الحداثية.
والعالم ينتظر الدخول إلى العشرية الثالثة من القرن الواحد والعشرين، ينتاب الشعوب، بلا شك، نوع من الخوف من المستقبل، خوف يتفاقم بسبب الوعي اللاشعوري عند الأفراد والجماعات كون الإنسانية تعيش مخاض تغير حضاري مضطرب. إنها تنتظر من رواد العالم، أي النخب التي لها الحق في الفعل والقول، تعميق التفكير الموضوعي اللاأناني لتحقيق التقائية في قمة منحنى التطور، التقائية ينتظرها الجميع، بين قوة الانسان العلمية والتكنولوجية وتقوية قيم العيش المشترك من خلال مواجهة هشاشته الثقافية. المنتظر اليوم، أمام أزمة القيم الشائعة، والسائرة نحو التعميم، هو أن تتخذ القرارات الصائبة لذوي النفوذ لفتح نقاش واسع على مستوى المنظمات السياسية والمدنية والمؤسساتية (الوزارات، الجماعات الترابية، الأحزاب، والنقابات، والجمعيات، والفضاءات الدينية، والهيئات التعليمية والتربوية والإعلامية،...)، لإنضاج منظومة قيم جديدة، لا تسمح بتكرار ديماغوجيات الماضي، وتستمد قوتها من العقل والنقاش والعلوم، وتتحول إلى ترسانة تشريعية يفهمها الجميع ومقبولة من طرفهم (مجموعة قواعد تدبير القناعات المختلفة متفق عليها في مجالات الطب، والسياسة، والإنسانية، والتواصل التكنولوجي، والاقتصاد، والثقافة، ومناهج التعليم والتربية، والتشغيل، والمقاولة،...). إنها المنظومة التي تكرس الوساطة الفاعلة والمتفاعلة بعقلانية مع الجمهور العريض الذي ينتظر التغيير، معلنا وضعية الاستعجال في ذلك.
إن الشعوب الغربية بكل مكوناتها تجاوزت، في تعبيراتها وممارساتها اليومية، المنظومة الأخلاقية العامة التي انبثقت عن صراع و/أو تناوب اليسار واليمين، المتناحرين في معتقداتهما في شأن التعاطي مع وسائل الإنتاج، ليتم تبخيس السياسة والممارسات والخطابات المرتبطة بها (حاملي البذلات الصفراء بفرنسا كنموذج). لقد حان الوقت لإعطاء الانطلاقة لعملية تشخيص ومصاحبة شاملة للشعوب تعترف بوجود المنظومات الأخلاقية الخاصة وتنوعها (منظومات الطوائف المختلفة). فالتشخيص الموضوعي لا يحتمل المواقف المسبقة، بل عليه أن يعكس الواقع كما هو، بعواطفه العقائدية والدينية المتنوعة. فإذا تمكنت السياسة من أن تحل مكان الديانة مع استمرار التقابل بين جنة السماء والطموح لتحقيق جنة الدنيا، فلا يجب التنكر لتعدد وتنوع العقائد الجديدة.
واعتبارا لما سبق، فالنجاح في فرملة وثيرة استمرار انفصال النخب عن المجتمعات، واحتقار المفكرين والأدباء والمثقفين، والاستهزاء من السياسة، وفقدان الثقة في الصحافة، والعمل على إحياء قيمة الوساطة السياسية والثقافية من جديد والرفع من وقعها وتأثيراتها، يتطلب بلورة قاموس نوعي بمفاهيم مندمجة في المعاش اليومي للأفراد والجماعات. لقد حان الوقت للمرور من مفهوم العقد الاجتماعي، لجون جاك روسو، إلى مفهوم "الميثاق" المستحضر للمفاهيم الجديدة: الطوائف، القبائل، العشائر، العيش اليومي ورفاهيته، الخيال، الترحال والهجرة... إلخ.