الأربعاء 24 إبريل 2024
سياسة

عثمان أشقرا في أوراق اتحادية: الوردة والشاشية.. خطاب إلى العقل الاتحادي (1/3)

عثمان أشقرا في أوراق اتحادية: الوردة والشاشية.. خطاب إلى العقل الاتحادي (1/3) عثمان أشقرا يتوسط المهدي بن بركة (يمينا) وعمر بن جلون

يتحدث الروائي والكاتب عثمان أشقرا، في هذا الجزء الأول، عن أزمة حزب القوات الشعبية، من خلال مفارقة أساسية تتجسد في عظمة "الفكر الاتحادية"، وضعف أو بؤس "التنظيم الحزبي الاتحادي"، رابطا ذلك بوثيقة "الاختيار الثوري" التي أعدها المهدي بن بركة، والتي تضمنت تحليلا دقيقا وعميقا "لتناقضات" الحزب و"أخطائه القاتلة"، في أفق ممارسة النقد الذاتي. مستحضرا مذكرة عمر بن جلون (المذكرة التنظيمية) التي حررها في السجن في سياق اعتقالات يوليوز 1963 الشهيرة.

 

"في سنة 2001 نشرت كتابا بعنوان "الحركة الاتحادية أو مسار فكرة تقدمية" جر علي بعض المتاعب داخل الحزب (الاتحاد الاشتراكي) وخارجه. لكن فضلت الصمت وعدم الرد. فالمهم، في تقديري، هو أنني حاولت تقديم "قراءة" أو "تحليل" لما اعتبرته (ولا أزال) أزمة "حزب القوات الشعبية" مجسدة في المفارقة القائمة بين عظمة "الفكرة الاتحادية" وضعف أو بؤس "التنظيم الحزبي الاتحادي".

 

إن الحركة الاتحادية التي انطلقت في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، وتوطدت في بداية الستينيات، كانت تجسيدا عميقا ورائعا لما كان يحبل به مغرب سنوات الاستقلال الأولى (وما بعدها) من حركية تاريخية ومجتمعية عميقة ونزّاعة نحو الانطلاق والتقدم .وقد عبّرت عن هذه الواقعة –خير تعبير- محاضرة الشهيد المهدي بنبركة في 1958 المعنونة بـ "نحو بناء مجتمع جديد". كما أن وثيقة "الاختيار الثوري" التي أعدها الشهيد نفسه ليقدمها في مؤتمر الحزب الثاني (ولم يتمكن من ذلك كما هو معروف) جاءت تحليلا دقيقا وعميقا لـ "تناقضات" الحزب و"أخطائه القاتلة":

"- الخطأ الأول يرجع إلى سوء تقديرنا لأنصاف الحلول التي كنا مضطرين للأخذ بها؛

- الخطأ الثاني يتعلق بالإطار المغلق الذي مرت به بعض معاركنا بمعزل عن مشاركة الجماهير؛

- الخطأ الثالث نشأ عن عدم الوضوح في مواقفنا الإيديولوجية وعن عدم تحديدنا لهوية حركتنا".

 

 لم يعتمد تقرير "الاختيار الثوري" كوثيقة حزبية رسمية، وبالتالي، ضاعت على الاتحاديين ـوقتذاك- فرصة ممارسة "نقد ذاتي" كان سيحقق طفرة نوعية في ممارستهم السياسية وسلوكهم التنظيمي ووعيهم الايديولوجي. وهذا ما انتبه إليه -بمعنى من المعاني- الشهيد الاتحادي الآخر عمر بنجلون في "المذكرة التنظيمية" التي حررها في السجن في سياق اعتقالات يوليوز 1963 الشهيرة.

 

وعمر بنجلون -بدون جدال- هو دينامو المبادرة التاريخية التي ستنطلق من "قرارات 30 يوليوز 1972"، والتي ستتوج بانعقاد المؤتمر الاستثنائي في يناير 1975 الذي استهدف أساسا (على الأقل على مستوى النية والقصد) تجاوز "الأخطاء الثلاثة القاتلة" التي أبرزها الشهيد المهدي في "الاختيار الثوري".

 

وها هي مدة تتجاوز الربع قرن [نشرت هذه الدراسة في أكتوبر 2003] قد مرت على انعقاد المؤتمر الاستثنائي (الذي أسفر عن الانتقال من الاتحاد الوطني إلى الاتحاد الاشتراكي)، وها هو حزب المهدي وعمر وعبد الرحيم بوعبيد... يعيش اليوم وضعية لا يتردد مناضلون ومسؤولون اتحاديون أنفسهم في نعتها بـ "الكارثية": انشقاقات عميقة حصلت، وأخرى ـربما- على وشك الحصول، نزول بمستوى النقاش الاتحادي إلى الحضيض، جهات معادية تقليديا لـ "الاتحاد" تتفرج شامتة على حزب يقدم أبأس صورة يمكن أن يقدمها حزب كبير في حجم الاتحاد الاشتراكي.

 

والغريب والمفارق أن هذا يحصل في الوقت الذي قاد فيه هذا الحزب حكومة نعتت بـ "حكومة التناوب" باعتباره الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية الأخيرة، كما أنه حقق في الانتخابات الجماعية سبقا لم يحققه أبدا من قبل.

 

فكيف يمكن فهم هذه الواقعة الغريبة والمفارقة؟

 

لقد كان الشهيد المهدي بنبركة يردد دوما بأن "السياسة الحقة هي سياسة الحقيقة". والاتحاديون اليوم يلزم أن يبادروا إلى إنجاز وقفة حقيقية إزاء الذات. والمسألة هنا لا تتعلق بـ "درس" يريد "هذا" أن يقدمه لـ "ذاك" (من داخل التنظيم الحزبي أو من خارجه). فالحركة الاتحادية هي من أعظم وأعرق الحركات السياسية والاجتماعية التي أنجبها تاريخ المغرب الحديث والمعاصر. وهي حركة ارتبط بها وجوديا وروحيا جيل مغربي بأكمله ، ما يزال يحمل في جسده وروحه جروح ارتباطه المصيري بهذه الحركة العظيمة، وحبه ووفائه لرموزها من المناضلين البسطاء والقادة العظام. فالاتحاد أو الحركة الاتحادية هما المجسد لأعمق ما اختزنه ويختزنه الكائن الشعبي المغربي الأصيل: الإصرار على ممارسة الحلم بل وممارسة ذلك الحلم. والجيل الذي أنعته بـ "جيل الحلم الاتحادي" (وكاتب هذه السطور واحد منه) من حقه أن يطرح السؤال حول المآل (وخاصة المسؤولين عنه داخل التنظيم الحزبي وخارجه) الذي قاد إلى ما نعيشه راهنا من "موت غير رحيم لحزب عظيم". وهذه هي مرآة "النقد الذاتي" التي يلزم أن يتقدم الاتحاديون الأصلاء ليروا "الحقيقة أولا" فيها.

 

ومرة أخرى، فالأمر هنا لا يتعلق بإنجاز بكائيات طنانة، أو ممارسة جلد ذاتي بئيس أو تقديم عظات أخلاقية إلى أذان مصابة بالوقر. إن المخاطب هنا هو "العقل الاتحادي" الذي يلزم أن يبادر إلى إزالة غروره النرجسي وأوهامه وأساطيره الذاتية، ويرجع إلى قواعد التفكير العقلانية الأولية.

 

وأول هذه القواعد "البدء بمسح كل الأفكار المسبقة الموروثة أو المكتسبة". وهنا لا تنفع إلا الصراحة التي قد تفاجئ بل وتجرح الجميع. وانطلاقا من هذه الصراحة الجارحة نقول بأن مسؤولية ما آل إليه الوضع الاتحادي راهنا هي مسؤولية جماعية ومشتركة. فلا أحد هو فالت منها سواء هو موجود داخل التنظيم الحزبي الأصلي وهو يتحرك على هامشه أو يقف بمواجهته.

 

(فصل من كتاب سيصدر للروائي الأستاذ عثمان أشقرا قريبا بعنوان: "الوردة والشاشية/ أوراق اتحادية".