الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

مصطفى المتوكل الساحلي: من أجل مصالحة حقيقية، ونحو حزب حر وتنظيم قوي (2/2)

مصطفى المتوكل الساحلي: من أجل مصالحة حقيقية، ونحو حزب حر وتنظيم قوي (2/2) مصطفى المتوكل الساحلي

إن الهجرة خارج الوطن، جعلتنا وتجعلنا نسائل الدولة عن الديمقراطية وعن العدالة المجالية الترابية، وندرس نتائج السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تنتج واقعا غير مطمئن يكشف عن تضخم في الأزمة وتأثيراتها، وتشاؤم فيما يخص المستقبل والمآلات بالنسبة للشعب. وهنا  نقول إن من المصالحة الوطنية العادلة أن يسع الوطن كل أبنائه وبناته سواء من هاجر لأسباب اجتماعية، أو اقتصادية، أو حقوقية، أو سياسية، بما في ذلك استيعاب عودة المهاجرين واستقرارهم بوطنهم وإدماجهم في آليات ودواليب الحركة التنموية من أجل نهضة شاملة... ونقول إن هجرة الاتحاديين والاتحاديات لخارج التنظيم وحتى خارج الحزب، يجب أن يحفز فينا مساءلة وتقييم الحزب لنفسه، وتقييم سلوكات وقرارات ومواقف وسياسات القيادات الوطنية والجهوية والإقليمية والمحلية والقطاعية، وأن يمارس الجميع نقدا ذاتيا وموضوعيا بشكل علمي ومتعقل ورصين ومشبع بقيم الوفاء والمصداقية والجدية المستدامة حتى يستطيع الحزب استيعاب كل مكونات الأسرة الاتحادية في بيت واحد لعله ينجح ويستمر في إنجاز رسالته التاريخية والمستقبلية بتشارك بين أصول الأسرة وفروعها، بابتعاد عن المصالح الشخصية والترضيات والتوافقات التي تكون على حساب المبادئ والحكامة والجودة، مع الحرص الدائم على ما فيه خدمة  المصالح العليا للوطن والشعب والحزب ..

 

إنه لا يمكن القبول باستعمال أرض الله واسعة في مواجهة كل مخالف ومعارض لسياسات الدولة، كما لا يحق اعتماد ذلك بشكل معلن أو خفي في سياسات الحزب وتنظيماته في مختلف المجالات... إن المصالحة يجب أن تكون مع النفس، ومع الاتحاد كأسرة وتاريخ ونضال وتضحيات وفكر، ومع اليسار والحركة النقابية، ومع المجتمع، ومع المستقبل... إن معالجة ملف المصالحة في علاقة بقراءة رصينة للزمن الذي قطعه الحزب منذ التأسيس إلى اليوم أي الذكرى 60 للحزب، تستوقفنا عند كل محطات الاختلاف والصراع، والاختراق والانحراف، والإصلاح والتعطيل، والعرقلة والتجميد والمنع، والانقسام والقطيعة وحتى الخيانة، وتأثير كل ذلك وغيره على مسار سنوات الجمر والرصاص وانعكاسه على ما بعدها. وتجعلنا نقف بافتخار عند كل النجاحات والمبادرات التنظيمية والفكرية الشريفة والمواطنة والجماهيرية... إن غير المنطقي هو أن تعمل القيادة وطنيا ومناطقيا على تدبير المفاوضات والحوار والتوافقات وتأطير المهادنات والمصالحات مع السلطات العمومية الممثلة للدولة في علاقة بقطاعات وزارية وتقدم الدروس والتجربة للآخرين، وفي نفس الوقت تعمل بنقيض ذلك في تدبير القضايا والاهتمامات الحزبية فيما بينها لدرجة يكونون فيها أشداء على أسرتهم وأنفسهم، ورحماء ومحاورين متعقلين مع خصومهم وأعدائهم .

 

إن كل تصعيد يعرفه الاختلاف والصراع  في العمل السياسي يكون نتيجة مبالغة البعض في التعصب لتصورهم وقناعاتهم كانوا بالقواعد أو القيادات السياسية أو النقابية وحتى الجمعوية، وعدم إعمالهم التوافق الموضوعي والرصين في صياغة خلاصاتهم وقراراتهم، دون أن نغفل من كانت لهم سوء نية ممن اندس في الحزب لخدمة أجندة أو أجندات معينة والذين يتخصصون في صب الزيت على النار ونشر الأكاذيب والأخبار الزائفة الملفقة، وتأليب البعض ضد البعض، وتسريب المداولات الداخلية إلى من هب ودب من متصيدي معلومة أو سبق مع علمهم بسوء ذلك وعواقبه الوخيمة على تماسك البيت وفقدان الثقة في مجالس الحزب بالخلية أو الأجهزة أو حتى اللقاءات الأخوية... كما لا يجب أن نتغافل على أن الغالبية من الأسرة  الاتحادية، سواء من بقي مرتبطا بالأنشطة الحزبية أو من ابتعد عنها، أو الصامتين المتتبعين لكل ما يقع، يشتركون في حسن نيتهم وصدقهم وتألمهم عند كل كبوة أو فشل أو صراع نكون أحيانا من أسبابه، ونتحمل ونتقاسم قسطا من المسؤولية فيه... إنهم يرغبون بشكل فعلي في أن تطوى الصفحات السوداء والسيئة والمعطلة طيا حكيما إيجابيا ينجح كل خطوات المستقبل ليتفرغ الجميع للمهام والمبادئ التي من أجلها وفي سبيلها قدمت التضحيات الجسام طوال 60 سنة الماضية .

 

إن تحول الاختلاف إلى صراع وإقصاء وتخوين وأحيانا إلى عداء واستعداء أصبح مرئيا في التنظيمات بما فيها الموازية، وانتقل إلى تأليب متبادل للرأي العام ضد قادة التوجهات التي تشكلت داخل الاتحاد طوال مساره، بل وتفنن منا البعض في تبخيس نضالات كبيرة وشريفة، والاستهزاء بمواقف تاريخية مشرقة، والإساءة لرموز تاريخية قدمت من التضحيات ما يعجز البعض منا عن تصور كيف تحملوا وصمدوا وبقوا أوفياء، إننا بسوء تدبيرنا للاختلاف، والتسرع، والغضب المولد للعنف نقع أحيانا في الأسوأ حيث تسببنا في تفرق بعض المناضلين والمناضلات والمتعاطفين والمتعاطفات وتوزعهم إلى شيع وأحزاب ونقابات وجمعيات .

 

إن العديد من العوامل ساهمت في زرع وبث سلوك التآمر والكيدية والعمل الإقصائي في العلاقات التنظيمية، ففي العديد من المحطات تطورت نقاشات واختلافات ومنافسات إلى صراعات ومواجهات عنيفة وقع ضحيتها  العديد من أفراد الأسرة الاتحادية، فاعتزلت وابتعدت نسبة مهمة عن العمل التنظيمي وحتى عن المقرات وبقيت مؤمنة بحزبها وتتبع ما حصل ويحصل وكلها أمل في أن تتعقل الأفكار والسلوكات والقرارات والمواقف وتلتئم الأسرة الاتحادية الكبيرة وتنظم وتعقلن اختلافاتها، وتقوى إيمانها وممارساتها  الديمقراطية، وتحترم التمثيلية على مستوى النخب والكفاءات والقواعد وطنيا ومناطقيا من أجل تحويل الحزب إلى مؤسسة حقيقية قادرة على ترجمة  مبادئه وبرامجه في الواقع، في ارتباط بالجماهير الشعبية، ووفاء لأرواح الشهداء وضحايا القمع بكل أشكاله، وفي علاقة ببناء دولة المؤسسات بالحق والقانون والأنسنة. ولهذا نجد في تاريخ الاتحاد بعدد محطات الصراع لدرجة الانفصال هناك عدد من محاولات التوفيق والمصالحة لم تكتمل حلقاتها إلا مع حزبين تشكلا من داخل الاتحاد أي الحزب العمالي والحزب الاشتراكي.

 

إن الصراعات داخل الاتحاد أفرزت "توجهات" عديدة داخل التنظيم بامتدادات أجهزته، سواء في الستينات أو السبعينات أو ما بعدهما تختلف قوتها وامتداداتها وطروحاتها التي لا يمكن الاستهانة بها أو تبخيسها برمتها، لأن الكل يمتلك جزءا من الحقيقة وشطرا من الصدقية، وقدرا من حسن النية، ونسبة من عدم الثقة. فإذا كان الاتحاد قد قاد مصالحات عدة مع الدولة توجت بما أطلق عليه المصالحة والإنصاف وطي صفحة الماضي، والتي لم تكتمل بعد؛ حيث أنجزت العديد من مراحلها في عهد حكومة اليوسفي التي اعتبرت تجربة رائدة يحتذى بها، لكنها لم تسلم من انتقادات ومؤاخذات، فإن سعي الاتحاديين اليوم لإنجاح المصالحة ولو بالتعامل معها بروح نقدية واحترازية من أجل وضع كل الضمانات والآليات التي ستنجحها لان التعثر أو الفشل سيزيد من عمق الاختلاف والصراع وسيعقد الخطوات المقبلة وسيكون لذلك انعكاس خطير على قوى اليسار والديمقراطية والحداثة .

 

إن  لم الشمل لا يمكن أن نسقط عليه مفهوم وآليات المصالحة التي تمت مع الدولة لأن الأمر، من جهة داخلي باعتباره يعني الأسرة الاتحادية المنظمة والمتعاطفة والنصيرة منذ التأسيس أو على الأقل ممن كان وراء مقررات 30 يوليوز 1972، فالمؤتمر الاستثنائي 1975 إلى اليوم.. ويعني العمل النقابي ومنظمات المجتمع المدني الرائدة التي بناها الاتحاديون والاتحاديات من بدايات الاستقلال إلى اليوم. كما يعني أسرة اليسار التي يعتبر جزء مهم منها أبناء للاتحاد الكبير، حيث يوجد العديد من المناضلين الاتحاديين بقيادات تلك المنظمات. ومن جهة أخرى مهمة جدا الأمر يعني الشعب لأن الاتحاد في ملك الوطن والمواطنين والمواطنات، ويعتبر نفسه وفيا لهم تأسيسا منذ زمن مواجهة الاستعمار، إلى الاستقلال، إلى اليوم.

 

إن المصالحة لها علاقة بوضع منهجية ديمقراطية لبناء المصالحة، وحوار داخلي، مع اعتماد الشفافية في كل الخطوات والمبادرات المرتبطة بها، والإعداد للمؤتمر القادم للحزب إن لم يكن استثنائيا في تاريخه أن يكون استثنائيا بروحه ومضمونه ومؤتمريه يجسد روح المصالحة والوحدة والتدبير المشترك ولم الشمل التنظيمي. وأن تصبح المصالحة بمضامينها وخطواتها ومبادراتها ومبانيها صدمة إيجابية تحبط وتفشل كل أعداء وخصوم الحزب وكل الذين لن يهنا بالهم إلا بمحوه من الخريطة السياسية أو على الأقل جعله رقما تافها يؤثث ويكمل نصاب أغلبية إن كان ذلك ضرورة مرحلية. إن تقوية الحزب ستسهل على الوطن أن يخرج بسرعة مما يطلق عليه "التناوب الديمقراطي" الذي يحتاج إلى إصلاح سياسي ودستوري جديد يحمي الديمقراطية ويمنع النكوص والتراجع عن المكتسبات والتحديث وكرامة الشعب.

 

إن قبول الحزب بمخاطرة ومغامرة المشاركة في حكومة التناوب وترؤسها من أجل مصلحة الوطن، فإن المصالحة الحقة الصادقة ليست بالمغامرة بل ضرورة لا بديل عنها لمصلحة الوطن والحزب والقوى الحرة عالميا، من خلال إعادة تقويم وبناء العقلية الاتحادية المشتركة العنيدة والقاسية على أصحابها أكثر من خصومها وأعدائها، وضرورة تقوية وإرساء الإيمان بالديمقراطية واعتمادها بإخراجها من الحيز النظري إلى التطبيقي، والانفتاح على من يخالفهم الرأي والتوجه داخل التنظيم وخارجه، بإقرار فهم علمي لأهمية ودور التنظيم في علاقة بالتأطير والعمل الميداني وتكوين الكفاءات المتمرسة على خدمة مصالح الشعب. واعتماد الوضوح الأيديولوجي الذي يثمن العقل والممارسة الاتحادية في مختلف المجالات الحزبية والمجتمعية والمؤسسات العمومية. وبعدم تبخيس عمل الاتحاد وتاريخه النضالي لأن النجاح والفشل مشترك بنسب مختلفة بين الجميع ولكل منهما نصيب من المسؤولية.. وتجديد الخطاب الاتحادي الفردي والجماعي ليرتقي إلى مستوى يشرف الجميع صياغة وألفاظا ومعاني وغايات حتى يتفاعل معه الرأي العام والقوات الشعبية، والابتعاد عن لغة الخشب والشعبوية، والتشكيك والكيد ونظرية التآمر والتلاسن، وإثارة النزاعات والصراعات مع الحلفاء من اليسار وحتى من القوى الوطنية والديمقراطية، وتجنب كل ما يبعد الحزب عن الناس ويبعد الناس عن الحزب.

 

إن نجاح إعادة بناء وتأهيل الحزب مرتبط باعتماد نقد بناء وموضوعي تجاه الذات والمؤسسات، وتجنب تضييع الزمن وتأخير الإصلاح والتغيير، وتسجيل الرأي العام الاتحادي والعام لمواقف ملموسة وعملية وجدية وفاعلة تهم الوضع الحزبي وعلاقاته باليسار والحركة التقدمية والنخب المثقفة والجماهير الشعبية التي هي خلاصة اسم الحزب والصفة والمهمة التي تميزه "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية".

 

إن من الأسئلة المطروحة عند المتتبعين إذا كان الاتحاد قادرا على التنازلات والتوافقات في تحالفات وتنسيقات مع الدولة ومع قوى تتعارض معه جزءا أو كلا، ومنها من ناصبه العداء وبيننا وبينهم دم شهيد وأكثر؟ فلماذا يعجز ويفشل أحيانا في بناء تنازلات وتوافقات داخل أسرته الوطنية العريقة التي اجتمعت وتأسست للنضال والتضحية وليس للمصالح والنفوذ والجاه..؟؟ الجواب العملي بيد كل الاتحاديين والاتحاديات وهم قادرون على تجاوز كل المعيقات والإشكالات والإكراهات والخلافات، وقادرون على أن يعيدوا لمقدمة الواجهة الوطنية وللشعب الحزب الذي انشغل بمشاكله لحد أنه ساهم بغير قصد في اختلال التوازن اللازم لبناء وطن حر وديمقراطي... وليبني بالتدافع الإيجابي كل ما يجمع وكل نناضل من أجله، ويشق الطريق نحو مجتمع المعرفة والحداثة والديمقراطية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية... ولنكن مترجمين للمبادئ والشعارات التي كنا بها ولن تستقيم الأمور إلا بروحها وتوهجها في كل الواجهات، لأنه لا تغيير يتم إلا بحزب حر وتنظيم قوي.