الثلاثاء 23 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد الشمسي: حامي الدين يفجر الجسر الرابط بين السلط

محمد الشمسي: حامي الدين يفجر الجسر الرابط بين السلط محمد الشمسي

مباشرة بعد قرار إحالة السيد حامي الدين على غرفة الجنايات من طرف قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس، اختار كل ذي انتماء الاصطفاف خلف سلالته المهنية أو الحزبية، وبدأ كل ذي طبل يقرع طبله إيذانا بقرب صعوده للجبل وهدم المعبد على من فيه، وإن كان على التعليق على قضية معروضة على القضاء أو التأثير على القضاء فكلا الفريقين قاما بالواجب وزيادة.. الوزير الرميد والبرلماني وهبي ومن معهما ساهموا بقسط غير يسير بنقد القرار القضائي تضمن جرعة زائدة وصلت حد التحرش بقاضي التحقيق وبقراره الذي وصف بـ "الاخرق"، وكذلك كان حال بعض القضاة من "أهل مكة" في الضفة المقابلة، حيث تجاوز بعضهم نصرة "الأخ" قاضي التحقيق إلى درجة المس بقرينة البراءة والتأثير على المحكمة، حتى أن منهم من استدعى أحكاما وقرارات قضائية من دول لا قاسم مشترك لها بالمغرب.

لعلها أول مواجهة علنية ومكشوفة بين السلطة القضائية المستقلة بموجب دستور 2011، وبين السلطتين التنفيذية والتشريعية اللتين اعتادتا السيادة والحكم في البلد بلا منازع، وكل فريق عمد الى تحريك مدفعيته الثقيلة والأصابع على الزناد و"عا الله يحفظ"، البرلمان استدعى وزير حقوق الانسان ليسائله عن سبب "الردة القانونية"، والقضاة استنفروا الصفوف في اجتماع طارئ للرد على "القصف الحكومي"، والمجتمع المدني شبت فيه نيران الانتماء السياسي، وبات كل مركز أو جمعية يغني أغنية الذي يأكل من خبزه، وينضم لطابور العشيرة، ودقت ساعة الاصطفاف إما مع قاضي التحقيق المشهود له بالنزاهة، أو مع حامي الدين الموصوف بالمستهدف،  فلا مرتبة بين المرتبتين.

لا أخفيكم شعوري الدائم بأن علاقة السلطتين التنفيذية والتشريعية من جهة، وبشقيقتهما القضائية في المغرب، ظلت ملتبسة وغير واضحة وتجعل تحقيق مطلب استقلال القضاء ماديا ومعنويا وإداريا بين قوسين كبيرين، وحتى  دستور 2011 الذي منح السلطة القضائية استقلالها فقد كان استقلالا ملغوما ومبهما وغامضا، ولا أحد من فقهاء القانون وجهابدته يستطيع أن يبين  للناس بوضوح من يراقب السلطة القضائية في المغرب؟ ومن يحاسبها؟ ومن يضبط إيقاعها؟ ومن يسائلها؟، عملا بمبدأ دستوري سنه دستور 2011 يقوم على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وطبعا لا يمكن تصور سلطة قضائية مهمتها تحقيق العدالة وتطبيق القانون هي فوق المحاسبة وفوق الدستور وفوق القانون.. وقد أذن دستور 2011 للقضاة تأسيس جمعيات مهنية، ومنحهم مساحة أوسع وأرحب من حرية التعبير، وهو ما كان ممنوعا عليهم من ذي قبل، فأدلى القضاة بدلائهم في نقاشات شتى، حتى عاب عليهم البعض خرجاتهم تلك ووصفوها بالآراء السياسية المختفية خلف مقالات قانونية مهنية، وباتت الجمعيات المهنية للقضاة في الصفوف الأولى للدفاع عن استقلال القضاء، علما أن استقلال القضاء شأن يهم القاضي كما يهم المواطن العادي.. وأذكر ما أذكر أنه خلال محاكمة المتهمين مراد كرطومي وعادل لبداحي المتابعين بجنح كثيرة منها جنحة إهانة رجال القضاء، بعد حجز فيديوهات على اليوتوب تتضمن إهانات صريحة لقضاة؛ أذكر في تلك المحاكمة التي دامت 19 ساعة متصلة ومستمرة، انطلقت من الرابعة زوالا مساء الخميس وانتهت في الحادية عشر صباح الجمعة ، أن ثلاث جمعيات تمثل القضاة انتصبت طرفا مدنيا للدفاع عن القضاة ضحايا تلك الفيديوات، كان ذلك تطورا غير مسبوق، يحمل في طياته شيئا من المغامرة بل المخاطرة، إعطاء صورة عامة بأن القضاة يقصدون قضاة ليحكموا لهم بتعويضات ضد مواطنين أساؤوا لبعض القضاة، يجعل المحاكمة مغلفة بسيل من علامات الاستفهام والتعجب .

لم يتدخل المجلس الأعلى للسلطة القضائية في المحاكمة ليكون طرفا مدنيا، باعتباره المؤسسة الدستورية الأجدر بالانتصاب للقصاص للقضاة المستهدفين والإبقاء على القضاة في حيادهم وتجردهم ووقارهم  ملكا خالصا ومشاعا لكل أطياف الشعب بقوانينه طبعا، وحكمت المحكمة الابتدائية للجمعيات المهنية بمبالغ مالية ضخمة ضد مواطنين معتقلين فقيرين اقترفا ما اقترفاه بحماسة زائدة، بحثا فيها عن شهرة  زائفة في عالم الانترنت الجارف، الذي بات فيه النجم يحتاج فقط الى عشرة دراهم من التعبئة، ثم هاتف ذكي ووعي غبي، ليجد نفسه خلف أسوار سجن عكاشة بالصوت والصورة.. لكن محكمة الاستئناف كانت حكيمة حين قضت بعدم قبول مطالب الجمعيات المهنية للقضاة، ولو أن تعليل عدم القبول كان متضعضعا، حيث أسسته المحكمة على أن الجمعيات الثلاث لم يمر على تأسيسها المدة القانونية المطلوبة.

نتوقع أن تشتد المواجهة بين السلطة القضائية الحديثة العهد بالاستقلال، ينبري للدفاع عنها قضاة بات باب التعليق مشرعا في وجوههم، ولا تعوزهم الوسيلة لخوض غمار مواجهات، وبين السلطتين التنفيذية والتشريعية اللتين يتواجد فيهما مسئولون خبروا القانون وفصوله ومساطره، وهم لا يسيطرون على ألسنتهم حين يعتبرون نقدهم لأحكام القضاء هو نافذة من نوافذ حرية التعبير .

ودون مناقشة سند قاضي التحقيق من عدمه في قرار الإحالة ذاك، ودون حاجة للنبش في نصوص القانون، فإننا نتابع حرب التغريدات وحرب البيانات وحرب الاجتماعات بين  قضاة المغرب من جهة، وبين حكومته وبرلمانه وبعض من أحزابه من جهة ثانية؛ فإننا في المحصلة نتمناها حربا صحية وندعو الله ألا تخلف ضحايا أو خسائر، نريدها شبيهة بتلك الأوجاع بعد خضوع المريض لعملية جراحية استأصل خلالها ورما خبيثا أو أزاحت عنه ألما، فقام سليما معافا.. ونأمل أن نخرج منها بسلط قوية ومتماسكة ومستقلة الاستقلال الحقيقي وليس الاستقلال الورقي، بعيدا عن كل نصرة مزيفة تقوم على دعم ابن القبيلة والمهنة والزمالة .

إعادة متابعة السيد حامي الدين، وإعادة محاكمته، هي قضية علماء القانون وفقهائه، وهي قضية ستدخل تاريخ القضاء والقانون المغربيين، ليس لأنها خلقت كل هذه الرجة فقط، بل لأنها كذلك عرت واقعا تشريعيا ضعيفا ومترهلا أغفل عن نصوص متناقضة وأخرى حمالة أوجه، متسللة إلى مجموعات القانون والمسطرة الجنائيين، ولم ينتبه المشرع لها ففعلت ما يفعله الفيروس في ذاكرة الحاسوب.. وها هي تشعل فتيل معركة استعرت بين أقطاب تقف على عتبة التناحر، وتخوض حرب وجود وصراع بقاء، و تملك من الأسلحة ما يمكن بها سحق أو إبادة الغريم .

لا نملك المعطيات الكافية كي نفتي في واقعة إعادة متابعة حامي الدين سنة 2018 في جريمة اقترفت سنة 1993، وحوكم الرجل بشأنها وأمضى عقوبته، وموعدنا المحاكمة.. أليست  المحاكمة بقريبة؛ لكن نريد الذهاب إلى المحكمة ونحن نثق في القضاء ثقة حب واقتناع، لا ثقة خوف وانصياع، قضاء لا يجعل من نقدنا وتعليقنا عما يصدر عنه من احكام جريمة، فإذا كان القاضي يصدر الحكم ويعلله ثم يوقعه، فعليه أن يكون ذا سعة صدر لتقبل ردود فعل حيال حكمه، وإنه ليس في منطوق الحكم ما يلزم الناس بالتسليم بالحكم وألا يناقشوا وألا يجادلوا.. يبقى الشرط فقط في وجوب التقيد بالكياسة واللباقة وحسن الخطاب عند النقد او التعليق على الاحكام، ولو أن محكمة النقض تصف الأحكام الناقصة أو المنعدمة التعليل بوصف "الاحكام الفاسدة".

- محمد الشمسي، محامي بهيئة الدار البيضاء