الجمعة 19 إبريل 2024
سياسة

القاضي المسعودي: قرار إحالة حامي الدين أسقط الشجرة التي تخفي الغابة بوحوشها وسباعها

القاضي المسعودي: قرار إحالة حامي الدين أسقط الشجرة التي تخفي الغابة بوحوشها وسباعها ذ محمد مسعودي، الباحث في صف الدكتوراه، وعضو الودادية الحسنية للقضاة
استمرارا في النقاش القانوني حول "الدفوعات" التي أثارها قرار إحالة المتهم عبد العالي حامي الدين، القيادي في حزب العدالة والتنمية، بشأن عدم جواز متابعة شخص بتكييف قانوني جديد من أجل نفس الواقعة المدان بها بموجب مقرر قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به.
وبعد مساهمة الأستاذ حكيم وردي، عضو نادي قضاة المغرب، تنشر جريدة "أنفاس بريس"، وجهة نظر قانونية للأستاذ محمد مسعودي، الباحث في صف الدكتوراه، وعضو الودادية الحسنية للقضاة:
 
لم يكن يدري السيد قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس الأستاذ الطويلب المشهود له بالكفاءة والمهنية وهو يصدر أمرا في نطاق صلاحياته القانونية والقضائية بإحالة متهم من اجل تورطه في ارتكاب جناية المساهمة في القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد بناء على ما توافر لديه في ملف القضية من وسائل إثبات كافية لإحالة المعني بالأمر على غرفة الجنايات الابتدائية لمحاكمته طبقا للقانون، أن هذا الأمر القضائي سيثير زوبعة إعلامية بعد أن جر عليه سخط وتذمر بعض الفعاليات الحكومية والبرلمانية بتدوينات وبلاغات نزلت تباعا كسيل المطر المنهمر.. بالاندهاش والخرق والعدمية تارة، واعتبار الأمر انتكاسة حقوقية وردة ونكوص إلى الخلف يشي بانقلاب في مسار العدالة في المغرب تارة أخرى..
 
الطعون السياسية، سابقة في القضاء المغربي
حيث إن أقصى ما اعتاده السيد قاضي التحقيق أن يطعن في أوامره من أطراف التحقيق ذوي المصلحة طبقا للقانون امام الجهة القضائية المختصة التي تتولى البت فيها إما بالتأييد أو الإلغاء أو التعديل، لكن ما لبثت تساؤلات واستفهامات صاحبنا أن تبددت وتلاشت بعد أن اطلع على مضمون التدوينات والبلاغات المذكورة ليفهم أن الشخص الذي أمر بإحالته ليس شخصا عاديا أو هكذا أريد له أن يكون وإلا لما حظي بكل هذا الدعم.. ليرسم حينها على شفتيه ابتسامة عريضة متبوعة بتنهيدة من الأعماق لسان حالها لماذا لا يحظى جميع المتهمين بهكذا دعم وتضامن ألأنهم ليسوا شخصيات عمومية أو لأنهم لا ينتمون لأحزاب سياسية .. أسئلة كثيرة دارت ببال السيد قاضي التحقيق المحترم وهو يقلب بين يديه الأمر بالإحالة الصادر عنه ووثائق قضية المعني بالأمر عله يجد مسوغا أو سببا قانونيا او واقعيا يشفع لكل هذا الجدل حول أمر قضائي عادي أصدره كغيره من مئات الأوامر الأخرى دون أن يجد جوابا، قبل أن يقرر إغلاق دفتي الملف مرتاح البال بعد أن اقتنع انه أدى واجبه المهني بكل تجرد وموضوعية ومسؤولية وأن قدره ربما هو إصداره لأمر قضائي في عز استقلالية السلطة القضائية وتوطيد دعائمها بتأسيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، هذه الاستقلالية في الممارسة القضائية التي يبدو أنها باتت تقض مضجع البعض الذي لا زال يحن لتبعية القضاة للسلطة التنفيذية حيث قاعدة السياسي يوجه القانوني حسب ما تتلمذنا عليه في مدرجات كليات الحقوق عند مواد دراسة المدخل لدراسة القانون والقانون الدستوري والعلوم السياسية لمن اختار منا تخصص القانون العام..
هكذا تخيلت السيد قاضي التحقيق مندهشا لاندهاش منتقديه وهو يطلع على ردود الأفعال حول الأمر القضائي الذي أصدره، والذي للأمانة لا أعرفه شخصيا ولكن أسمع عنه كل خير داخل الوسط القضائي الذي يشهد له فيه بالكفاءة والاستقامة والنزاهة الفكرية... وأتمنى أن ألتقيه عن كثب لأقول له سلمت يداك لأنك بأمرك هذا أسقطت الشجرة التي تخفي الغابة بوحوشها وسباعها.. والتي كثيرا ما رسمها لنا البعض أنها منبع احترامهم وتقديرهم لهيبة القضاء وسمعته وحرمته ولكنها يا حسرة مجرد شجرة "نويل" كناية عن "بابا نويل" لا جذور لها ولا أصل لها مزخرفة بلعب وحلويات أطفال انطفأت وخفت بريقها بمجرد نهاية رأس السنة...
وبعيدا عن السياسة التي لها ساستها وسائسيها وكواليسها ودهاليزها، كما يصفها لنا دكتور ومعلم الأجيال محمد الإدريسي العلمي المشيشي من أصل ساس يسوس سياسة وسوسا والتي كما تعني القيادة والإدارة والتدبير لها معنى سلبي وهو السوس أو التآكل بفعل بعض الحشرات أو طول القدم المفضي إلى الانهيار ثم التحول إلى غبار قبل اختفائه بفعل الانتهاء، فمن الواضح أن عوامل كثيرة تعرض السياسة إلى الضعف والاعوجاج وكأن السوس قد نخرها.(د.محمد الإدريسي العلمي المشيشي-عرض ألقي بالرباط بتاريخ 08/11/2012 أمام الهيئة العليا لإصلاح منظومة العدالة حول موضوع سياسة التجريم الواقع والآفاق، منشور بسلسلة المعارف القانونية والقضائية: قراءات في المادة الجنائية/الجزء الأول منشورات مجلة الحقوق، نشر المعرفة، صفحة: 9 وما يليها).
 
إضاءات قانونية حول ملف حامي الدين
دفعتني ردود الأفعال أعلاه، حول الواقعة موضوع الأمر الذي أصدره السيد قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس، في مواجهة شخص من اجل تورطه في جناية المساهمة في القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد طبقا للفصول 128 و392 و393 و394 و395 من القانون الجنائي، قيل أنه سبق أن حوكم من اجل نفس الوقائع سنة 1993 من أجل جنحة المساهمة في مشاجرة أدت إلى الوفاة طبقا للفصل 405 من نفس القانون، إلى التساؤل كرجل قانون وممارس قضائي حول الإشكال القانوني الذي تطرحه هذه الواقعة حول مدى جواز متابعة شخص من اجل وقائع سبق أن حوكم وأدين من اجلها بموجب مقرر قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به، أو بعبارة أخرى ما مدى حجية التكييف القانوني للحكم بالإدانة الحائز لقوة الشيء المقضي به هل تنحصر هذه الحجية في تكييف الواقعة التي فصل فيها الحكم النهائي أم تتعداها لجميع التكييفات القانونية الأخرى المحتملة للواقعة، وماذا لو تعلق الأمر بأفعال جديدة des actesغيرت من حدود ونطاق وتفاصيل ومضمون الواقعة fait المحكوم بها هل نكون أمام نفس الواقعة أم أمام واقعة جديدة تحتمل تكييفا قانونيا مستقلا وتنشأ عنها دعوى عمومية جديدة وما هو الإطار القانوني الذي يحكم هذه المسألة؟؟؟
يستدعي الجواب عن الإشكال القانوني أعلاه وما ينبثق عنه من أسئلة فرعية تناول الموضوع من خلال محورين اثنين:
أولا، مفهوم حجية الحكم الجنائي
ثانيا، حجية التكييف القانوني للحكم الجنائي القاضي بالإدانة
وأنا هنا لا أدعي الاطلاع على الملف والإحاطة بكافة تفاصيله ولكنها مجرد وجهة نظر قانونية شخصية انطلاقا مما تأتى من لملمة بعض مما نشر على الفضاء الأزرق والشبكة العنكبوتية من أوراق ومعلومات ومعطيات ذات صلة بملف القضية، مع تسجيل احترامي التام والمطلق لقرينة البراءة المكفولة قانونا للشخص المعني بالأمر موضوع الأمر بالإحالة الصادر عن السيد قاضي التحقيق طبقا لما تنص عليه مقتضيات المادة 1 من قانون المسطرة الجنائية، ويقيني المطلق بأن كلمة الفصل والحسم في القضية تعود وحدها للجهة القضائية المعروض عليها الملف طبقا للقانون.
 
 
أولا، مفهوم حجية الحكم الجنائي:
تستدعي الإحاطة بمفهوم حجية الاحكام الجنائية بيان ماهيتها ومضمونها والأساس الذي تستند عليه
1-ماهية الحجية ومضمونها
أ-ماهية حجية المقرر القضائي:
يقصد عموما بماهية الحجية أن المقرر القضائي كيفما كان نوعه أمرا أو حكما أو قرار يكتسب بمجرد صدوره نوعا من الحرمة يعتبر بمقتضاها قرينة قانونية لا تقبل الدليل العكسي على أنه قد صدر صحيحا من حيث إجراءاته، وان ما قضى به هو الحق بعينه من حيث الموضوع[1].
وهو ما نصت عليه صراحة مقتضيات الفصول 450 و451 و453 من قانون الالتزامات والعقود لما اعتبرت الحجية التي منحها القانون للشيء المقضي تعتبر قرينة قانونية تعفي من تقررت لمصلحته من كل إثبات ولا يقبل أي إثبات يخالفها، ولا تثبت إلا لمنطوق الحكم ولا تقوم إلا بالنسبة إلى ما جاء فيه أو ما يعتبر نتيجة حتمية ومباشرة له، شريطة أن تتحقق فيها مجموعة من الشروط:
1-أن يكون الشيء المطلوب هو نفس ما سبق طلبه
2-أن تؤسس الدعوى على نفس السبب
3-أن تكون الدعوى قائمة بين نفس الخصوم ومرفوعة منهم وعليهم بنفس الصفة.
وتكتسي حجية المقرر القضائي أهمية خاصة في المادة الجنائية لثلاثة أسباب، أولها أن الإجراءات الجنائية بحسب طبيعتها تمس بالحرية الشخصية، فلا يمكن السماح بمباشرتها بغير قيد أو أجل محدد، وثانيها أن الإجراءات الجنائية تتميز بالطابع القضائي فهي إما يباشرها القضاء نفسه وإما تخضع تحت إشراف القضاء، وثالثها أن الإجراءات الجنائية بوصفها أداة لتطبيق قانون العقوبات تعمل في نطاق مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات[2].
وحجية المقررات القضائية نوعان أولا، حجية الشيء المقضي به، وهي تثبت لجميع المقررات القضائية القطعية بمجرد صدورها سواء كانت ابتدائية أو استئنافية أو نهائية، وثانيا قوة الشيء المقضي به، والتي لا يكتسبها المقرر القضائي إلإ بعد صيروته باتا أي بعد استنفاذه لدرجات الطعن العادية وغير العادية (النقض) أو بعدم الطعن فيه داخل الآجال القانونية المحددة لذلك.
 
ب-مضمون حجية المقرر القضائي الجنائي:
ينحصر مضمون حجية المقرر القضائي الجنائي في مبدأين:
الأول يتمثل في في منع المحاكم من إعادة النظر في الدعوى العمومية من جديد بناء على تكييفات جديدة للواقعة، والثاني يتمثل في افتراض الحقيقة فيما قضى به الحكم.
حيث يمثل المبدأ الأول الجانب السلبي للحجية ويعبر عنه بقاعدة عدم جواز المحاكمة مرتين من أجل نفس الواقعة، فإذا حوكم متهم من أجل فعل، فصدر في شأنه حكم أنهى الدعوى الجنائية قبله، فلا تجوز محاكمته ثانية من أجل الفعل نفسه، وتتمثل الصورة العملية للجانب السلبي للحجية في صورة الدفع بعدم قبول الدعوى لسبق الفصل فيها. بينما يمثل المبدأ الثاني جانبها الإيجابي ويعبر عن ذلك بقاعدة أن الحكم عنوان الحقيقة، ويتم ذلك عمليا عن طريق التمسك بحجية الأمر المقضي.[3]
 
2-أساس حجية المقرر القضائي الجنائي:
انقسم الفقه الجنائي فيما يخص تحديد الأساس القانوني لحجية المقررات القضائية الجنائية إلى مذاهب متعددة، نتطرق لأهمها:
أ-نظرية الاستقرار القانوني:
أنصار هذه النظرية، على فكرة مؤداها أن قاعدة حجية المقررات القضائية الجنائية تستند على فكرة الاستقرار القانوني وثبوت المراكز القانونية، على اعتبار أن المشرع راعى عند تقريره لحجية المقررات القضائية اعتبارات الصالح العام التي تهدف إلى وضع حد إلى للمنازعات القضائية بغية استقرار مراكز الخصوم وحتى لا يصيبها القلق إلى ما لا نهاية[4].
وقد سبق لمحكمة النقض المصرية، أن قضت في هذا الشأن في إطار القضاء المقارن في قرار لها (نقض 26 أبريل سنة 1960، منشور بمجموعة أحكام محكمة النقض، س 11، رقم 77، ص: 370) بما يلي:
"أن الشارع قد قصد بغير شك أن يجعل لطرق الطعن الممنوحة للمتهم والمذكورة في القانون على سبيل الحصر حدا يجب أن تقف عنده الأحكام ضمانا لحسن سير العدالة واستقرار للأوضاع النهائية التي انتهت إليها كلمة القضاء.
ب-نظرية العدالة:
يستند أصحاب هذه النظرية على اعتبارات العدالة التي تقضي بأن من ارتكب جريمة لا ينزل به جزاؤها إلا مرة واحدة. ويعني ذلك أنه بمجرد انقضاء الدعوى العمومية بصدور حكم بات في شانها، فإن الطريق يغلق أمام توقيع أي جزاء ثاني من أجل نفس الواقعة أو الجريمة التي صدر بشأنها الحكم، لأن مبدأ العدالة يأبى أن تجدد مرة أخرى الإجراءات الجنائية ضد شخص من أجل واقعة او جريمة فصل فيها بحكم بات وتحدد لها الجزاء الملائم طبقا للقانون[5].
ج-نظرية كفالة الحريات الفردية:
يذهب أنصار هذه النظرية إلى أن سند حجية المقررات القضائية يقوم على كفالة الحريات الفردية، من خلال حصر نفوذ السلطات العامة في مجال محدود والاعتراف للفرد بحصانة في ذات نطاق، فإذا انقضت الدعوى بحكم بات انقضى كذلك سلطان السلطات المختصة الناشئ عن الجريمة، لم يعدلها سبيل عن المسؤول عنها سوى تنفيذ ما قضى به هذا الحكم[6].
ثانيا، حجية التكييف القانوني للحكم الجنائي القاضي بالإدانة
تطرقنا فيما سبق أعلاه، للأحكام العامة التي تنظم حجية المقررات القضائية الجنائية، سواء من حيث بيان ماهيتها ومضمونها وشروط تحققها أو من حيث استعراض أساسها والأسانيد التي تعضدها.
فما هو إذن أثر هذه الحجية على التكييف القانوني للجريمة موضوع الحكم البات القاضي بالإدانة والذي أصبح حائزا لقوة الشيء المقضي به، هل يجوز متابعة المحكوم عليه من جديد متى احتملت الوقائع المدان من اجلها تكييفات قانونية أخرى، والقول بالتالي أن حجية المقرر القضائي الجنائي تنحصر في حدود التكييف القانوني الذي فصل فيه، ام أنه لا مجال للتسليم بأية متابعة متى تعلق الأمر بنفس الواقعة المحكوم بها ؟ وما هو المقصود بالواقعة التي تقوم بها سبقية البت وشروطها ؟
وماذا لو تعلق الأمر بأفعال جديدة des actes غيرت من حدود ونطاق وتفاصيل ومضمون الواقعة fait المحكوم بها هل نكون أمام نفس الواقعة أم أمام واقعة جديدة تحتمل تكييفا قانونيا مستقلا وتنشأ عنها دعوى عمومية جديدة ؟؟
غير إن أهم تساؤل يتعين الجواب عنه والذي تتعلق به جل الأسئلة المثارة أعلاه، هو ما إذا كان قانون المسطرة الجنائية المنظم للإجراءات الجنائية خلال كافة مراحل الدعوى العمومية، ينظم في إطار الشرعية الجنائية الموضوعية والإجرائية حجية الحكم القضائي الجنائي في ضوء النازلة وكيفية إثارتها والبت فيها، وهو ما يستدعي منا بداية بيان طبيعة الإطار القانوني المنظم لحجية الحكم الجنائي وأثره على التكييف القانوني، قبل أن نخلص إلى إبراز بعض التطبيقات القضائية لهذا المبدأ.
 
1-الإطار القانوني لحجية المقرر القضائي الجنائي وأثره على التكييف القانوني:
تحيل قراءة متأنية لمقتضيات مواد قانون المسطرة الجنائية، على مادتين رئيسيتين اثنين:
أولاها، تتعلق بالمادة 369 الواردة في الباب الثاني المتعلق بالأحكام والقرارات والأوامر وآثارها، من القسم الثالث المتعلق بعقد الجلسات وصدور الأحكام، والتي تنص في فقرتها الثانية على ما يلي:
" كل متهم حكم ببرائته أو بإعفائه لا يمكن أن يتابع بعد ذلك من أجل نفس الوقائع ولو وصفت بوصف قانوني آخر"
ثانيها، تتعلق بمضمون المادة 4 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على ما يلي:
" الدعوى العمومية بموت الشخص المتابع، وبالتقادم وبالعفو الشامل وبنسخ المقتضيات الجنائية التي تجرم الفعل، وبصدور مقرر اكتسب قوةالشيء المقضي به.
وتسقط بالصلح عندما ينص القانون صراحة على ذلك.
تسقط أيضا بتنازل المشتكي عن شكايته، إذا كانت الشكاية شرطاً ضرورياً للمتابعة، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك."
لتشكل بذلك المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية السند الشرعي الموضوعي لحجية المقرر القضائي الجنائي، في حين تشكل مقتضيات المادة الرابعة من نفس القانون السند الشرعي الإجرائي للدفع بها وإثارتها.
أ-شروط تطبيق المادة 369 من ق م ج كسند شرعي موضوعي للحجية
تسمح القراءة الظاهرية لصريح نص المادة 369 بالقول بأن شروط تحقق الحجية للمقرر القضائي الجنائي، تتمثل في شرطين رئيسيين:
 
1-الشرط المتعلق بصدور حكم صادر بالبراءة أو بالإعفاء
تقضي المحكمة بالبراءة حسب مفهوم المادة 389 من قانون المسطرة الجنائية عندما يتبين لها بأن المتهم لم يرتكب الفعل أو أن الفعل لا يكون مخالفة للقانون الجنائي، حيث تصرح حينها بعد الحكم بالبراءة بعدم اختصاصها للبت في الدعوى المدنية، وتبت عند الاقتضاء في رد ما يمكن رده.
وتقضي بالإعفاء إذا كان المتهم يستفيد من عذر يعفي من العقوبة حسب ما مفهوم الفصل 143 من القانون الجنائي، الذي ينص على أن:
"الأعذار هي حالات محددة في القانون على سبيل الحصر، يترتب عليها، مع ثبوت الجريمة وقيام المسؤولية، أن يتمتع المجرم إما بعدم العقاب، إذا كانت أعذارا معفية، وإما بتخفيض العقوبة، إذا كانت أعذارا مخفضة."
وكذا ما تنص عليه مقتضيات الفصل 145 من نفس القانون، التي تنص على ما يلي:
" يترتب على الأعذار المعفية منح المؤاخذ الإعفاء المانع من العقاب، غير أن القاضي يبقى له الحق في أن يحكم على المعفى بتدابير الوقاية الشخصية أو العينية ما عدا الإقصاء."
وبالرجوع إلى موضوع النازلة، يتضح أن المعني بالأمر الصادر في مواجهته أمر بالإحالة عن قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس لم يسبق أن حكم عليه بالبراءة أو الإعفاء بالمعنى المتحدث عنه أعلاه، وإنما تمت إدانته بعقوبة مخففة من أجل جنحة المساهمة في مشاجرة ارتكب أثنائها عنف أفضى إلى موت طبقا للفصل 405 من القانون الجنائي، فهل يصح القول إذن بأن الدفع بسبقية البت وصدور مقرر قضائي حائز لقوة الشيء المقضي به قاضي بإدانة المحكوم عليه وليس ببرائته أو إعفائه، يحول هو الآخر دون متابعة هذا الأخير بواقعة تحتمل تكييفا قانونيا آخر ؟؟؟
يبدو أن لهذا الرأي أنصاره ولا سيما لدى الممارسين القضائيين، حيث يذهب البعض إلى القول بأن المشرع كان صائبا عندما حصر قائمة المستفيدين من سبقية البت في المحكومين بالبراءة والإعفاء دون باقي المتهمين المدانين والمحكوم عليهم، بعلة أن الشخص المدان بعقوبة مالية أو سالبة للحرية هو شخص مذنب في نظر القانون، وإعادة محاكمته ممكنة مرة أخرى، إذا ما ظهرت أدلة وقرائن تؤكد أنه تحايل على القضاء أو أنه تنصل من إثباتات أو أدلة كانت قائمة وقت محاكمته، وذلك على خلاف المحكومين بالبراءة أو الإعفاء فهم غير مذنبين في نظر القانون، وبالتالي إعادة محاكمتهم تبقى غير ممكنة من أجل نفس الأفعال التي تمت تبرئتهم أو إعفاؤهم منها.
في حين يذهب البعض الآخر، إلى القول بأنه ولو لم ينص المشرع صراحة على الحكم بالإدانة كسبب من الأسباب التي تحول دون المتابعة من جديد من أجل نفس الواقعة كما فعل بالنسبة للحكم بالبراءة والإعفاء، فإن بعض قواعد الاتفاقيات الدولية المعناة بحقوق الإنسان تبقى واجبة التطبيق، ولا سيما منها المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والتي نصت صراحة على أنه لا يجوز تعريض أحد مجددا للمحاكمة أو للعقاب على جريمة سبق أن أدين بها أو برئ منها بحكم نهائي وفقا للقانون والإجراءات الجنائية في كل بلد.
وبمراجعة سريعة لمضمون التدوينة والبلاغات التي صدرت كرد فعل على أمر السيد قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس موضوع النازلة، يتضح أن أصحابها من أنصار هذا الرأي، بحيث أنهم تفادوا الإشارة إلى أي مقتضى تشريعي جنائي وطني يعضد موقفهم، متفادين بذلك صراحة مقتضيات المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية المنوه بها أعلاه.
وإذا كنا لا نجادل في كون المملكة المغربية وحسب ما ورد في تصدير الدستور، تتعهد بصفتها العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، بالتزام ما تقتضيه مواثيق هذه المنظمات، من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها عالميا، ولا سيما بجعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة.
فإن الأمر يبقى في نظرنا المتواضع في كل الأحوال محتاجا لتدخل تشريعي صريح لمواءمة مقتضيات المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية مع أحكام المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية المنوه بها أعلاه، وحتى ذلك الحين يبقى المعني بالأمر موضوع الأمر الصادر عن السيد قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس بإحالته على غرفة الجنايات الابتدائية غير مستفيد من أحكام المادة 369 المذكورة لكون الحكم الجنائي البات المستدل به، يتعلق الإدانة وليس بالبراءة أو الإعفاء.
وحيث إن ما يعضد هذا الرأي، هو أنه بالرجوع إلى دليل المحاكمة العادلة الصادر عن منظمة العفو الدولية كمنظمة دولية في طبعته الثانية لسنة 2014، نجده قد نص في الفصل 26/6 منه على إمكانية إعادة المحاكمة استناداً إلى اكتشاف وقائع جديدة، وفق ما يلي:
" توفر العديد من البلدان، والمحاكم الجنائية الدولية، الفرصة لإعادة فتح ملفات القضايا الجنائية عقب صدور حكم قطعي فيها، إذا ما اكتُشفت وقائعجديدة تستدعي إعادة النظر. ولا يعتبر ذلك جزءاً من عملية الاستئناف.
وعلى وجه العموم، يستطيع أي من المتهم أو الادعاء طلب إعادة فتح القضية بسبب اكتشاف حيثيات لم تكن معروفة من قبل على الرغم مما بذلهالطرف المستدعي من عناية واجبة، وكان من الممكن أن تكون حاسمة في مسار القضية.[7]
وقد اعترفت غرفتا الاستئناف في محكمتي رواندا ويوغوسلافيا الجنائيتين، من بين الأدلة الإضافية، بواقعة جرى تدارسها أثناء المحاكمة ومعلوماتجديدة لم تنظر في سياق المحاكمة (سواء أكانت موجودة أم لا فيما سبق( وأوضحت المحكمتان بأن الأمر الحاسم في هذا الصدد هو ما إذا كانت المعلوماتجديدة، وما إذا كانت تشكل عاملاً حاسماً فيما جرى التوصل إليه من قرار في القضية. والغرض من هذا الإجراء هو الحفاظ على مصلحة العدالة وتجنبتفاقم ما يقع من إخفاق للعدالة. "
وهو ما يعني بأن إعادة المحاكمة إزاء شخص صدر في حقه حكم جنائي بات ولو بالبراءة أو الإعفاء أو حتى الإدانة متى تعلق الأمر بوقائع مختلفة عن الوقائع موضوع الحكم المذكور أمر مشروع بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ولا يمكن المزايدة عليه.
فما هو المقصود إذن بالوقائع المماثلة أو المختلفة التي تشكل فيصلا بين إجازة إعادة المحاكمة ولو تعلق الأمر بحكم جنائي سابق حائز لقوة الشيء المقضي به، وبين عدم ذلك ؟
 
2-الشرط المتعلق بوجود وقائع موضوع الحكم بالبراءة أو بالإعفاء
لا يكفي لتحقق الحجية، أن يكون الحكم الجنائي السابق قاضيا بالبراءة أو بالإعفاء مع ما يترتب عن ذلك من عدم جواز إعادة متابعة ومحاكمة الشخص مرتين، بل يجب أن يقترن هذا الشرط بشرط آخر لا يقل عنه أهمية، ويتعلق بأن تكون الوقائع المزمع المتابعة من اجلها من جديد لو بتكييفات قانونية أخرى، هي نفسها الوقائع التي صدر فيها سابقا الحكم الجنائي بالبراءة أو الإعفاء.
فما هو المقصود بمصطلح "نفس الوقائع" التي استعملها المشرع في المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية، هل يقصد بها الواقعة القانونية le fait juridique أي التكييف القانوني أم يقصد بها الواقعة المادية le fait matériel؟
من الواضح من خلال الصيغة التي أورد بها المشرع المغربي مقتضيات المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية، أنه يقصد بالوقائع مفهومها المادي أي الوقائع المادية وليست وصفها القانوني أو التكييف القانوني، بدليل أنه نص على عدم جواز متابعة المحكوم بالبراءة أو الإعفاء من اجل نفس الوقائع ولو وصفت بوصف قانوني آخر. وكان سيختلف الحال لو أنه لم يذكر عبارة " ولو وصفت بوصف قانوني آخر"، وسيكون حينها الباب مفتوحا لإعمال المتابعة من جديد بتكييفات قانونية أخرى ولو تعلق الأمر بنفس الوقائع.
ويعضد هذا الأمر مقتضيات المادة 365 من قانون المسطرة الجنائية، التي أوجب من خلالها المشرع أن يحتوي كل حكم أو قرار أو أمر لمجموعة من البيانات من بينها: البيان المتعلق ب " الوقائع موضوع المتابعة وتاريخها ومكان اقترافها؛" أي أنه ميز بين الوقائع وبين المتابعة كوصف قانوني.
فإذا كانت إذن كلمة الوقائع تعني الوقائع المادية، فإن المقصود بهذه الأخيرة هي الأفعال الصادرة عن المتهم في شكل سلوك مادي ونشاط إجرامي قد يكون في صورة عمل أو فعل إيجابي كما قد يكون في صورة امتناع أو فعل سلبي باعتبارها هي أساس ومحل المؤاخذة جنائيا، وليست الوقائع في حد ذاتها التي هي بالشمولية بما كان لا تنحصر فقط في الأفعال المادية الصادرة عن المتهم بل تهم مكان الجريمة ومحتوياته وزمان الجريمة والمجني عليه وشهود العيان وغيرها من التفاصيل الأخرى الزمكانية المحيطة بالجريمة والمجرم، لتكون بذلك الأفعال أو الأعمال الصادرة عن المتهم actes عبارة عن جزء من كل وهو الوقائع les faits
وحيث يعضد هذا القول مقتضيات فصول القانون الجنائي التي لا تتحدث عن الوقائع وإنما عن الأفعال والأعمال، بدليل ما يلي:
الفصل 1: " يحدد التشريع الجنائي أفعال الإنسان التي يعدها جرائم، بسبب ما تحدثه من اضطراب اجتماعي، ويوجب زجر مرتكبيها بعقوبات أو بتدابير وقائية."
الفصل 3: " لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون."
الفصل 4: " لا يؤاخذ أحد على فعل لم يكن جريمة بمقتضى القانون الذي كان ساريا وقت ارتكابه."
الفصل 5: " لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لم يعد يعتبر جريمة بمقتضى قانون صدر بعد ارتكابه. فإن كان قد صدر حكم بالإدانة، فإن العقوبات المحكوم بها، أصلية كانت أو إضافية، يجعل حد لتنفيذها."
الفصل 110: " الجريمة هي عمل أو امتناع مخالف للقانون الجنائي ومعاقب عليه بمقتضاه."
وحيث قضت محكمة النقض في نفس المعنى بموجب قرارها عدد 163-10 المؤرخ في 28/01/2009 ملف جنحي عدد 17002-6-1 -08 (منشور بمجلة قضاء محكمة النقض في المادة الجنائية للدكتور عمر أزوكار ص 12):
"أنه لتحديد سبقية البت ومدى الزامية المحكمة بسقوط المتابعة يتعين الركون إلى الفعل موضوع المتابعة لا إلى تواريخ المحاضر المحررة للواقعة"
فهذا القرار كما يلاحظ على مستوى صياغته، أقام تفرقة على المستوى الاصطلاحي بين (الفعل) كنشاط مادي صادر عن المتهم وبين الواقعة الإجرامية ككل.
وحيث ينبني على ما ذكر، ضرورة الإقرار بأن المعيار المعول عليه لتحديد ما إذا كانت الوقائع المزمع المتابعة بشأنها هي نفسها موضوع الحكم بالبراءة أو الإعفاء، وبالتالي انتفاء المتابعة بشأنها من جديد ولو احتملت تكييفات قانونية أخرى، أن يتعلق الأمر بنفس الأفعال الصادرة عن المتهم، إما إذا تبين فيما بعد صدور الحكم واكتسابه حجية الشيء المقضي به وجود ادلة على صدور أفعال وأعمال أخرى عن المتهم غير التي حوكم من أجلها، فيجوز حينئذ المتابعة من اجل هذه الأفعال ولا مجال لإعمال مقتضيات المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية أو الدفع بسبقية البت طبقا للمادة 4 من نفس القانون.
وهذه النتيجة هي وحدها الكفيلة بتحقيق العدالة وعدم الإفلات من العقاب، وبالتالي فإنه بالرجوع إلى نازلة الحال، يتضح أن الأمر بالإحالة الصادر عن السيد قاضي التحقيق في مواجهة المعني بالأمر بني على ثبوت ارتكاب هذا الأخير أفعالا وأعمالا جديدة، لم تكن ماثلة وثابتة في القضية التي صدر بشأنها الحكم الجنائي الأول سنة 1993 والتي لم يكن هناك حينها أي دليل يؤكد ثبوتها وإلا ما تمت مؤاخذة المعني بالأمر من اجل جنحة فقط، أما وقد ثبت الآن لقاضي التحقيق وجود دليل جديد مستند على تصريحات شاهد أدلي بها في قضية معروضة على غرفة الجنايات الابتدائية بفاس بتاريخ لاحق على الحكم الأول المذكور وبالضبط في 26 دجنبر 2016 يتعلق فحواها بقيام المعني بالأمر بوضع رجله على رأس المجني عليه والمساهمة في قتله عن سبق إصرار وترصد، وبالتالي فإن إجراءات متابعة هذا الأخير والتحقيق معه والأمر بإحالته على غرفة الجنايات الابتدائية بناء على ما استجد من أفعال وأعمال صادرة عن المتهم غير التي حوكم من اجلها، تبقى صحيحة ومستندة للشرعية والمشروعية ولا مجال للدفع بسبقية البت وإعمال مقتضيات المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية لانتفاء شروطها.
وحتى نقرب الصورة أكثر، نضرب مثالا قريبا من النازلة، ونفترض أنه في سنة 1993 عثر على ضحية هتك عرض واغتصاب مضرجة في دمائها لفظت أنفاسها متأثرة بجراحها والعنف الذي طالها أثناء ارتكاب الجريمة لعدم اسعافها في الوقت المناسب، وبعد البحث تبين أن "عمر " كان حاضرا بمكان الجريمة وشاهد المجني عليها أثناء الاعتداء عليها من طرف جانيين مجهولين تمكنا من الفرار لحظتها ولم يسعفها، وبناء على هذه المعطيات تمت متابعة السالف الذكر من اجل جنحة الإمساك عمدا عن تقديم مساعدة لشخص في خطر طبقا للفصل 431 من القانون الجنائي، وصدر حكم بمؤاخذته ب6 أشهر حبسا نافذا اكتسب قوة الشيء المقضية به، غير إنه في سنة 2016 ظهر شاهد يتوفر على تسجيل مرئي للواقعة ككل، وتبين أن صاحبنا "عمر" المحكوم عليه كان من ضمن الجناة الذين واقعوا المجني عليها واغتصبوها وهتكوا عرضها حسب الظاهر من تسجيل الشريط، فهل يصح القول هنا بأنه لا يجوز متابعة المعني بالأمر من جديد على أساسه ارتكابه جنايات المساهمة في هتك العرض بالعنف والاغتصاب بالاستعانة بشخصين والقتل العمد المسبوق بجناية طبقا للفصول 485 و486 و487 و392 من القانون الجنائي، لأنه صدر في حقه حكم –ولنفترض أنها البراءة أيضا وليست فقط الإدانة- حاز قوة الشيء المقضي به من أجل نفس الفعل ؟؟؟
وهل من العدالة في شيء أن نسمح في هذه الحالة لمغتصب وقاتل بأن يظل حرا طليقا في منأى عن العقاب؟ وماذا عن آلام ومعاناة ذوي حقوق المجني عليها المستمرة في الزمان؟
الجواب بداهة بالنفي، فلا المنطق القانوني ولا حتى الفطرة السليمة تسمحان بذلك، لأن الأمر يتعلق بفعل جديد يخرج عن نطاق تطبيق مقتضيات المادة 369 من ق م ج كما تم شرح ذلك بتفصيل أعلاه.
ناهيك عن أن دستور المملكة الجديد في فصله 110 أصبح يفرض على القضاة المعنيين بإنفاذ القانون، التطبيق العادل للقانون، وهو ما يعني النفاذ إلى روح القانون وجوهره وتطبيق على نحو يحقق العدل وليس شيئا آخر.
وفي نفس السياق يضرب لنا الدكتور عبد الواحد العلمي مثالا قريبا، بحالة الشخص الذي يبرأ بعد متابعته بسرقة منقولات معينة طبقا للفصل 505 من القانون الجنائي، وبعد انبرام الحكم يتابع من جديد عن إخفائه لذات الأشياء باعتبارها متحصلة من السرقة طبقا للفصل 571 من القانون الجنائي، حيث تكون البراءة السابقة بحسب نظر أستاذنا الجليل غير مانعة من نظر الدعوى الجديدة القائمة على سبب مختلف عن السبب الذي أقيمت عليه الدعوى الأولى التي فصل في موضوعها بكيفية مبرمة.
ب-شروط تطبيق المادة 4 من ق م ج كسند شرعي إجرائي لإثارة الحجية
 
1-شروط تحقق سبقية البت كسبب مسقط للدعوى العمومية
تشكل المادة 4 من ق م ج كما سلف الذكر، السند الشرعي الإجرائي للدفع بمقتضيات المادة 369 من نفس القانون، وإثارتها أمام الجهة القضائية المختصة، غير إنه لتحقيق هذا الأمر لا بد من توافر شروط قانونية لذلك، كما تناولها شراح قانون المسطرة الجنائية (انظر مؤلف وزارة العدل/شرح قانون المسطرة الجنائية-الجزء الأول، صفحة 56 و57[8]) باعتبارها من القواعد الأساسية التي تقوم عليها أسس المحاكمة العادلة، ويتعلق الأمر بالشروط التالية:
1-أن يتعلق الأمر بحكم قضائي صادر عن سلطة قضائية، وقد عبرت المادة الرابعة بلفظ مقرر، والمقرر في مفهوم قانون المسطرة الجنائية هو الحكم أو القرار أو الأمر الصادر عن هيئة قضائية حسب مفهوم المادة 364 من نفس القانون.
 
2-أن يكون الحكم حائزا لحجية الشيء المقضي به، أي غير قابل للطعن فيه بالتعرض أو الاستئناف أو النقض إما لأنه كذلك بطبيعته وإما لأنه قد استنفذ طرق الطعن فيه، وإما لفوات مواعيد الطعن.
أما إذا كانت المتابعة السابقة لم يصدر فيها بعد أي حكم أو صدر فيها حكم قابل للطعن أو مطعون فيه فعلا، فإن المتابعة اللاحقة لا تسقط، بل تستمر الدعويان معا في الإجراءات، ولكن يحق لكل من النيابة العامة والمتهم او المطالب بالحق المدني أن يطلب من المحكمة الأعلى درجة أن تفصل في تنازع الاختصاص وأن تعلن عن المحكمة او قاضي التحقيق المختص وتأمر المحكمة الأخرى أو قاضي التحقيق الآخر بالتخلي عن مواصلة الإجراءات لفائدة الجهة المختصة[9].
 
3-أن يكون الحكم قطعيا، أي حاسما في موضوع النزاع مما يحول دون عرضه على القضاء من جديد.
وانطلاقا مما سبق، فإنه متى تبث أن الأفعال المزمع متابعة الشخص من أجلها من جديد، هي نفسها الأفعال التي سبق حكم من أجلها بموجب مقرر قضائي حاز قوة الشيء المقضي به، جاز لهذا الأخير أن يثير سبقية البت في ضوء مقتضيات المادة 4 من قانون المسطرة الجنائية، ملتمسا التصريح بسقوط الدعوى العمومية.
غير إنه يطرح التساؤل بالنسبة لمدى صلاحية قاضي التحقيق للبت في سبقية البت، وما إذا كان يتوفر على سند قانوني إجرائي يخوله ذلك ؟
2-مدى صلاحية قاضي التحقيق للبت في الدفع المتعلق بسبقية البت والتصريح بسقوط الدعوى العمومية:
ينقسم عمل السادة قضاة التحقيق من حيث الممارسة القضائية في هذا الشأن بين اتجاهين، حيث يذهب اتجاه أول للقول بأن قاضي التحقيق لا يحق له قانونا أن يصرح بسقوط الدعوى العمومية بصفة عامة، انطلاقا من كون المشرع حدد له الأوامر القضائية بشأن انتهاء التحقيق التي يحق له إصدارها على سبيل الحصر وهي:
-الأمر بالإحالة طبقا للمادتين 217 و218 من ق م ج
-الأمر بعدم المتابعة كليا في حالات محددة طبقا للمادة 216 من ق م ج
-الامر بعدم المتابعة جزئيا طبقا للمادة 219 من ق م ج
-الأمر بعدم الاختصاص طبقا للمادة 215 من ق م ج.
وليس من بينها التصريح بسقوط الدعوى العمومية التي يرجع حق النظر فيها بحسبهم لقضاء الموضوع.
في حين يذهب اتجاه ثان راجح، وهو الموافق للقانون على أساس أن قاضي التحقيق يحق له التصريح بسقوط الدعوى العمومية إما بناء على أمر مستقل لعدم وجود نص يمنع من ذلك[10]، أو بناء على الأمر بعدم المتابعة طبقا للمادة 216 من ق م ج بسبب كون الأفعال لم تعد خاضعة للقانون الجنائي، وهي الحالة التي يمكن أن تستغرق طلب أو دفع سبقية البت على فرض تحقق شروطها إذا كان قد تم استنطاق المتهم بطبيعة الحالة تفصيليا.
عن أن التصريح بسقوط الدعوى العمومية في حالة ثبوت توافر أسبابها تعتبر في المادة الجنائية من النظام العام، يتعين على القاضي الزجري بصفة عامة إثارتها تلقائيا في أية مرحلة من مراحل الدعوى ولو امام محكمة النقض لتعلقها بالنظام العام[11].
2- بعض التطبيقات القضائية لحجية الحكم الجنائي وأثره على التكييف القانوني:
يتوفر التشريع الفرنسي على نص مماثل للمادة 369 من قانون المسطرة الجنائية المغربي، حيث ورد في المادة 368 من قانون المسطرة الجنائية الفرنسي التنصيص على ما يلي:
Aucune personne acquittée légalement ne peut plus être reprise ou accusée à raison des mêmes faits, même sous une qualification différente.
ومن هذا المنطلق يكون حريا بنا الاستدلال ببعض التطبيقات القضائية للقضاء الفرنسي في ضوء النازلة، وكيف تعامل معها، والتي اكد من خلالها على جواز متابعة الشخص من جديد ولو في ظل وجود حكم سابق يكتسب حجية الشي المقضي به، متى تعلق الأمر بوقائع أو أفعال جديدة لم تكن موضوع الحكم المذكور ولم يفصل فيها،
حيث سبق في هذا الإطار لمحكمة النقض الفرنسية أن قضت بأن إدانة شخص بجنحة القتل الخطأ لأنه أدنى من سرير زوجته مصباحا في حالة سيئة فامتدت منه النار إلى جسمها فاحترقت، هذه الإدانة لا تحول دون اتهامه وإدانته من اجل جناية القتل العمد من أجل فعله ذاته، إذا ثبت أنه قد سكب البترول عمدا على شعر المجني عليها ثم أشعل فيه النار فأصابتها حروق خطيرة أدت إلى وفاتها، وقد عللت المحكمة قضاءها بأن جناية القتل العمد التي تتطلب اتجاه الإرادة إلى إحداث الوفاة ليست مماثلة سواء من حيث عناصرها الواقعية أو القانونية لجنحة القتل غير العمد التي تفترض تخلف هذا الاتجاه الإرادي، وعلى هذا النحو فإن وحدة الواقعة في الدعويين تعد غير متحققة إزاء هذا الاختلاف الأساسي، ومن ثم لا يقبل الدفع بقوة الشيء المحكوم به أمام محكمة الجنايات (cass.25 mars 1954. Affaire thibaud.s 1955.1.39.note.brouchot).
كذلك بأن إدانة المتهم بمخالفة السماح بركوب عدد من الأشخاص في سيارته يزيد عن العدد المسموح به لا تحول دون محاكمته عن جنحة الإصابة غير العمدية التي نتجت عن انقلاب العربة لزيادة حمولتها (cass.3 juill 1874. D 1847.4 84).
كما قضت بأنه إذا أدين شخص في جنحة صيد محظور لإتيانه فعله في وقت لا يجوز فيه ذلك، وعن طريق أداة غير مسموح بها جاز بعد ذلك اتهامه أمام محكمة الجنح عن فعله نفسه، باعتباره اعتداء على حق الصيد الذي لمالك الأرض الذي ارتكب الفعل فيها (cass.2 avril 1864.D.1.324)
وفي ذات الاتجاه قضت محكمة النقض الفرنسية، بأن إدانة شخص بمخالفة إقلاق الراحة العامة أثناء الليل لإطلاق عيارا ناريا لا تحول دون محاكمته أمام محكمة الجنايات عن فعله نفسه باعتباره شروعا في قتل إذا ثبت أنه كان موجها العيار الناري إلى شخص بنية إحداث وفاته، وقد بررت المحكمة قضاءها بقيام الواقعة أمام محكمة المخالفات على عناصر مختلفة عن تلك التي قامت عليها أمام محكمة الجنايات، فمحكمة المخالفات فحصت الواقعة في مادياتها فحسب باعتبارها مجرد إطلاق عيار ناري، ولكن محكمة الجنايات تنظر فيها باعتبارها إطلاق عيار في اتجاه شخص بنية إحداث وفاته، ويعني ذلك أن إقامة الدعوى امامها كان من أجل واقعة تختلف عن الواقعة التي صدر في شأنها حكم محكمة المخالفات (cass.18 avr.1873.D.1873.1.164).
فمن خلال سبق، يتضح أن محكمة النقض الفرنسية أوردت قيدا على قضائها مؤداه أنه يشترط لجواز المحاكمة الثانية من اجل نفس الواقعة أن تكون المحاكمة الجديدة مستندة بالإضافة إلى التكييف الجديد إلى عناصر جديدة، لم يتح للقاضي الذي أصدر الحكم الأول أن يتكشفها (cass31 oct 1895.D.1897.1.334.5 AOUT 1926. S 1926.1.377 NOTE ROUX. 28 FEVR.1935).
 
 
يستخلص إذن من كل الأسانيد التي تم بسطها أعلاه بالدراسة والتحليل، أن الأمر الصادر عن السيد قاضي التحقيق بمحكمة الاستئناف بفاس في مواجهة المعني بالأمر والقاضي بإحالته على غرفة الجنايات الابتدائية بعد توافر أدلة كافية على ارتكابه جناية المساهمة في القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد بناء على ما استجد وثبت من أفعال جديدة لم يفصل فيها الحكم السابق، قد أتى موافقا للقانون ومتسما بالشرعية والمشروعية في انتظار عرضه ومناقشته في جلسة علنية أمام غرفة الجنايات الابتدائية، ولا مجال للاستدلال بسبقية البت على ضوء مقتضيات المادتين 369 و4 من قانون المسطرة الجنائية لانتفاء شروط تطبيقهما.
 
 
وختاما يبدو أن الحاجة أصبحت اليوم فعلا ملحة أكثر من أي وقت مضى لإشاعة ثقافة احترام المقررات القضائية الصادرة عن السلطة القضائية التي تكرس هيبة وسلطة الدولة، مع الإيمان أنه في حالة الاختلاف مع مضمونها كأي عمل بشري قد يعترضه النقص أو القصور يتعين سلوك الاجراءات المقررة قانونا لدحضها بالطعن فيها من داخل المؤسسات وليس خارجها فليس كل متتبع للشأن القضائي قادر على التحليل والاستنتاج بنفس الميكانيزمات والأدوات التي يتوفر عليها خبراء القانون والقضاء، لأن هذا هو المسلك الوحيد والممارسة الصحية الوحيدة الكفيلة بالحفاظ على صورة المغرب الحقوقية وتعزيز دولة الحق والقانون وتعزيز ثقة المواطن بقضاء وعدالة بلاده.
تلكم أعلاه، كانت شذرات قانونية وقضائية من وجهة نظر رجل قانون قد تحتمل الصواب كما قد تحتمل الخطأ، لم أملك القدرة على كتمها وآثرت أن أقتسمها رغم دقة وكثرة الانشغالات المهنية مع صاحب كل عقل راجح وبصيرة نافذة، مساهمة مني بكل تواضع في نقاش قانوني صرف أريد له أن يكون عموميا رغم أن موضوعه يتعلق بمقررات قضائية صادرة عن سلطة قضائية في قضية لا زالت رائجة أمام القضاء ولا زال لم يفصل فيها بعد بمقرر قضائي قطعي، كان الأحرى بنا جميعا أن يتم احترامها في انتظار صدور حكم يكون هو عنوان الحقيقة.
ورحم الله رئيس وزراء بريطانيا تشرشل عندما اشتكى إليه قائد حربي تنفيذ حكم قضائي قضى بنقل مطار حربي من جوار إحدى المحاكم ببريطانيا إلى مكان آخر، عندما قال قولته الشهيرة –برغم ظروف الحرب-:
" من الأفضل أن تخسر بريطانيا الحرب على أن يقال أنها لا تنفذ أحكام القضاء".
تم بحمد الله وتوفيقه
ولكل شيء إذا ما تم نقصان
وللحديث بقية...يتبع
 
[1] د.رمزي يوسف –الوسيط في شرح قانون المرافعات المدنية والتجارية – طبعة 5، سنة 1964، ص: 735 و736.
[2] د.أحمد فتحي سرور –الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية- طبعة 4، 1971، دار النهضة العربية، ص: 1154.
[3] د.محمود نجيب حسني-قوة الحكم الجنائي في إنهاء الدعوى الجنائية-دار النهضة العربية.طبعة 2، 1977.ص: 7 و8
[4] د.محمد عبد الخالق عمر –عناصر الدفع بحجية الشيء المقضي في القانون الإنجليزي- مجلة القانون والاقتصاد. س 43، سنة 1973.ص: 100
[5] د.سمير محمود عالية –قوة الحكم الجنائي أمام القضاء الجنائي- دراسة مقارنة/رسالة دكتوراه- القاهرة، طبعة 1975.ص: 235
[6] د.محمود نجيب حسني –قوة الحكم الجنائي في إنهاء الدعوى الجنائية- المرجع السابق- ص: 26 و27
[7] المادة 84 / 1 من نظام روما الأساسي، والمادة 25 من النظام الأساسي لمحكمة رواندا، والمادة 26 من النظام الأساسي لمحكمة يوغوسلافيا
[8] وزارة العدل- شرح قانون المسطرة الجنائية-الجزء الأول، طبعة 2، العدد 2، 2004، منشورات جمعية نشر المعلومة القانونية والقضائية. صفحة 56 و57.
[9] يراجع في هذا الشأن: د.أحمد الخمليشي- شرح قانون المسطرة الجنائية-الجزء الأول، طبعة 1999، مطبعة المعارف الجديدة. ص: 111.
[10] سبق لمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء أن قضت بتاريخ 11/10/2000 في الملف الجنحي عدد 64/2000 منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 87 ص 149 وما يليها: " يمكن التصريح بسقوط الدعوى العمومية قبل إنهاء مسطرة التحقيق"
[11] د.العلمي عبد الواحد-شرح قانون المسطرة الجنائية- الجزء الأول، الطبعة الأولى، 1998، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء. ص: 121.