الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الرحمان سحمودي: عن القضاء واستقلاله

عبد الرحمان سحمودي: عن القضاء واستقلاله الدكتور عبد الرحمان سحمودي
لأسباب تاريخية معروفة تكرس لدى أغلبنا فهم مجتزئ لمبدأ استقلال القضاء، هو المختزل في ضرورة منع السلطتين التنفيذية والتشريعية من التدخل في عمل القضاء وقد شاع هذا الاجتزاء لكون القضاء في تجربتنا التاريخية كان دائما هو ضحية تدخل باقي السلطات في عمله.
أما اليوم، وقد اشتد عود القضاء ببلادنا وصار سلطة مستقلة قائمة الذات، فإننا نعتقد أن هناك راهنية لعرض مفهوم استقلال القضاء كاملا بإدراج الجزء الثاني الذي لا يقل أهمية وهو منع القضاء أيضا من التدخل في عمل السلطتين التشريعية والتنفيذية أو عرقلته.
إن المبدأ الديمقراطي السليم يقتضي أن القاضي يقول رأيه في القوانين بعد صدورها وليس قبل ذلك، فالقاضي يطبق القوانين السارية المفعول وقد يفسرها فيتوسع أو يضيق في التفسير وقد يؤولها لملء البياضات التي يتركها المشرع .....لكن ليس من حق القضاء مطلقا التدخل في عملية انتاج القوانين والتصويت عليها لأن هذه مهمة خالصة للسلطة التشريعية وبها ترتبط مبادئ ديمقراطية كبرى باعتبار القانون تعبير عن إرادة الأمة وهناك سبل دستورية لتنزيل هذه الإرادة من جملتها الشرعية الانتخابية والتمثيلية ....وحين يتدخل القضاء في انتاج التشريع يهدم كل هذا من أساسه ونصبح في سياق التأسيس لتجارب هجينة : تجارب القضاء المشرع le jurislateur أو حتى شكل من أشكال حكومة القضاة gouvernement des juges.
إن التشريع هو عملية سياسية بالأساس، وما لم يكن في نية القضاة ممارسة السياسة فيجب عليهم تفادي حشر الجسم القضائي في المخاضات التشريعية. وليس المقصود هنا طبعا أنه ليس من حق القضاة التعبير عن آرائهم بحرية بخصوص مشاريع القوانين وفق ما تتيحه حريتهم في التعبير، بل المقصود أنه ليس من الملائم ابتداع آليات لتعطيل المسطرة التشريعية أو الضغط على المشرعين أو توجيه التصويت ...
ان استقلال القضاء الذي صار اليوم أمامنا واقعا ملموسا، لم ينزل صدفة ولم يربحه السادة القضاة في اليانصيب، بل هو صيبرورة ابتدأت بتضحيات الرأي العام الحقوقي وقوى المجتمع الحية ثم صار واقعا دستوريا بإرادة المشرع الدستوري وأعلى سلطة في البلاد ثم استوى واقعا تشريعيا ومؤسساتيا بإرادة السلطة التشريعية التي أقرت القوانين التنظيمية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والقانون الأساسي للقضاة ... وإذن فهذه الإرادة السياسية و الدستورية والتشريعية التي أوصلت القضاء إلى ما هو عليه اليوم تستحق أن تكون محل ثقة لاستكمال ورش الإصلاح دون حاجة لتدخل الحسابات الصغيرة التي قد تغذيها الذوات الفئوية. كما أن استقلال القضاء الذي ضحى من أجله الرأي العام الحقوقي وكرسه المشرع الدستوري هو في فلسفته حق من حقوق المواطن والمجتمع وليس امتيازا مهنيا للقاضي أو غيره، وحين نحيد عن هذا الفهم نصبح أمام خطورة أن يتحول القضاء من سلطة دستورية ضامنة للحقوق والحريات العامة الى لوبي مصالحي فئوي.
لقد تمكن المغرب بنجاح من بلورة نموذجه القضائي الخاص، و الذي يسوقه الجميع اليوم للعالم بالكثير من الفخر والاعتزاز، وهو النموذج الذي يملك الكثير من مقومات التفرد والريادة لكنه في نفس الوقت لازال في بداياته ويحتاج الى رجال دولة من العيار الثقيل لقيادته وإنجاحه، ومن دون ذلك سيختنق النموذج في اتون الحسابات الصغرى والشكليات البيروقراطية .