السبت 27 إبريل 2024
كتاب الرأي

زاوي: من وحي مونديال روسيا.. شعبية كرة القدم بين الاستثمار الاقتصادي والاستغلال السياسي

زاوي: من وحي مونديال روسيا..  شعبية كرة القدم  بين الاستثمار الاقتصادي والاستغلال السياسي عبد القادر زاوي

مع توالي المنافسات في كأس العالم يتأكد يوما بعد يوم أن كرة القدم تواصل تربعها على عرش الرياضات باعتبارها اللعبة الشعبية الأولى في العالم؛ الأمر الذي يجعل الدول والأنظمة توليها اهتماما كبيرا، وتحرص بقوة على تطويرها من جميع الجوانب.

غير أن تحليل أنواع هذا الاهتمام من طرف الدول قاطبة حتى تلك التي ليس لشعوبها شغف تلقائي بالكرة يشير إلى وجود سياسات كروية مختلفة، وآمال وطموحات من وراء ذلك أكثر اختلافا بحسب طبيعة الأنظمة السياسية ومدى درجة توافقها وانسجامها مع كافة مكوناتها الاجتماعية.

ففي الدول الديمقراطية الغربية جرى تنظيم كافة مقومات اللعبة، تم تشييد بنية تحتية متنوعة تراعي مختل

 الأعمار والفئات وتستجيب لشغف كل الطبقات الاجتماعية، تم تكوين الأطر الإدارية والفنية، وسن قوانين تضمن نزاهة المنافسات بعيدا عن التدخلات، ومراعاة هذا أو ذاك من الحساسيات السياسية والشخصيات، فضلا عن تنظيم مجال المراهنات لدوره في مضاعفة المداخيل.

ولهذا لم يكن مستغربا أن تتطور كرة القدم في هذه الدول لتصبح نشاطا اقتصاديا من أنشطة قطاع الخدمات (القطاع الثلاثي)، تقدم الفرجة، توفر وظائف لليد العاملة، وتشكل مصدر دخل إضافي لمالية وميزانية تلك الدول وجماعاتها المحلية عن طريق مختلف الضرائب المفروضة على عناصر اللعبة كلها (الملاعب ومرافقها، أجور اللاعبين والمدربين والإداريين، صفقات الانتقالات وغيرها..).

وطبيعي أن هذا التنظيم سينعكس على مداخيل كثير من الأندية الأوروبية التي باتت مؤسسات اقتصادية ضخمة بإمكانها استقطاب أحسن المواهب، وأكبر الكفاءات الإدارية والتدريبية والصحية؛ مما جعلها في الحقبة الأخيرة تستحوذ سنويا على كأس العالم للأندية بعد أن كانت تنافسها من قبل على ذلك أندية أمريكا الجنوبية ؛ كما سينعكس على تحقيق هذه الدول نفسها لإنجازات كروية فذة.

هكذا منذ أن بدأ الطابع الاقتصادي والتجاري  يطغى على منافسات كأس العالم، والذي يؤرخ له بمونديال اسبانيا 1982 حين ارتفع عدد الدول المشاركة من 16 إلى 24 اكتسحت الدول الأوروبية لائحة التتويج بالكأس الذهبية، إذ على مدار تسع مونديالات عاد الفوز للأوروبيين  6 مرات مقابل 3 لدول أمريكا الجنوبية، تعود كلها لبروز مواهب كروية خارقة في تلك الدول (مارادونا مع الأرجنتين 1986، روماريو مع البرازيل 1994 و رونالدو سنة 2002).

أما في الدول والأنظمة الأخرى على اختلاف مسمياتها فبرز توجهان اثنان في التعامل مع تطور كرة القدم، يمكن حصرهما فيما يلي، مع الإشارة إلى وجود اختلافات ولو في التطبيق داخل كل توجه على حدة تبعا لخصوصية هذا البلد وذاك، وتبعا لكفاءة القائمين على التنفيذ:

        *التوجه الأول اختصت به بعض دول شرق آسيا ( اليابان، كوريا الجنوبية ثم الصين الشعبية ) التي كانت تمارس فيها كرة القدم بشكل خجول، ولكن الدولة هناك انتبهت إلى أهميتها فشرعت في تطويرها على أسس علمية وبقواعد إدارية ومالية مستوحاة من أوروبا الغربية استعدادا للدخول في منافسة الأوروبيين أنفسهم في هذا المجال وعلى جميع الأصعدة من حيث التسيير والنتائج أيضا.

لا غرو إذن أن نرى هذه الدول تحث كبريات شركاتها ذات البعد الدولي (سامسونغ، طويوطا، هيونداي وغيرها) على ولوج هذا المجال بالرعاية ثم بالاستثمار محليا وحتى في شراء الأندية الأوروبية لعقد اتفاقات شراكة معها، ناهيك عن استقطاب النجوم واستضافة الملتقيات الكبرى لتشجيع الناشئة على ممارسة كرة القدم. 

        *التوجه الثاني ميز تعامل معظم دول العالم الثالث مع الكرة بما في ذلك دول أمريكا الجنوبية رغم تفوقها تقنيا ومهاريا وفي إدارة فرق الكرة أيضا عن غيرها من الدول الإفريقية والآسيوية الأخرى. ففي هذه الدول جرى توظيف كرة القدم سياسيا عن طريق السعي إلى إلهاء الشعوب بكثرة الحديث عن الكرة وأخبارها إما للتعتيم عن القضايا الأخرى الأكثر أهمية في المعيش اليومي للمواطنين ( الصحة، التعليم، الشغل... ) أو لتلميع صورة الأنظمة بإظهارها متجاوبة مع رغبات الشعوب.

ولذلك نجد الآية هنا معكوسة بشكل كامل في بعض الدول وبشكل جزئي في أخرى، ولكن في معظم الحالات تتولى الدول والأنظمة عن طريق الحكومة مباشرة أو عن طريق الجماعات الترابية المختلفة دعم عالم الكرة، إذ تبني الملاعب وتوفر لها الصيانة، تدعم الأندية وتدفع رواتب المدربين ؛ بل وتوعز باختيار هذا أو ذاك من المسيرين تقريبا بنفس منهج اختيار المسؤولين القائم على أسبقية الولاءات على الكفاءات.

مع مرور الوقت أدى هذا الوضع إلى خلق ريع رياضي عشوائي غير قابل للمحاسبة نجم عنه تهافت كبير على عملية التسيير للاستفادة من الريع ماديا ومعنويا،  حتى من طرف من لا يعرفون أبجديات الكرة ؛ الأمر الذي فاقم مشاكلها، وعقدها اكثر بدلا من المساعدة في تطويرها وتيسير أمورها.

وبوضعية كروية كهذه من المستحيل أن تطمح هذه الدول إلى مقارعة الكبار، وإن حصل وحققت نتيجة إيجابية يوما ما فذلك مرده للصدفة ليس إلا، ولا يمكن أن يتكرر أكثر من مرة. وأمام فشل سياساتها الكروية عمدت بعض هذه الدول ممن تصر على توظيف الكرة أو الرياضة عموما في توسيع شعبية أنظمتها أو مواصلة إلهاء شعوبها إلى: إما الاستعانة بأبناء جالياتها في أوروبا ممن ولدوا وترعرعوا وتعلموا الكرة هناك أو إلى التجنيس.

وفي كلتا الحالتين، ورغم أن الروح الوطنية واحدة لدى الجميع في الداخل والخارج ولا يمكن المفاضلة بين المواطنين على أساسها، نحن أمام حلول مؤقتة وليست جذرية لا يمكنها أن تحجب إفلاس المنظومة الكروية بالداخل، إلا لمن يعاند ويكابر لأنه يستفيد من الوضع المتردي. فهل نستمر كالنعامة ندس رؤوسنا في الرمال؟.