الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

عادل قنيبو:فصل الخطاب فيما بين حملة المقاطعة واللغو من أعطاب

عادل قنيبو:فصل الخطاب فيما بين حملة المقاطعة واللغو من أعطاب عادل قنيبو
أثارت موجة المقاطعة التي عرفتها بلادنا مؤخرا لبعض المنتوجات ردود فعل مختلفة و متباينة سواء من طرف مدراء و مسؤولي الشركات المعنية أو بعض الشخصيات الفاعلة في المشهد الفني و السياسي و الجمعوي، و حتى بعض المؤسسات الرسمية للدولة بما فيها الحكومة. و على الرغم من اختلاف المواقف و جانب التقديرات التي تبنتها و صرحت بها كل جهة بخصوص حدث المقاطعة هذا، الذي صار موضوع حديث و تداول يومي بين شرائح واسعة من المجتمع المغربي و فئاته، أطفال، شباب، شيوخ...و أيضا أطيافه الفكرية و السياسية و المهنية ... امام هذه الحيثيات فرض فعل المقاطعة نفسه كواقع معطى جديد، ليس على النسيج الاقتصادي الوطني فقط ، بل على مجال المعاملات داخل السوق بخصوص العرض و الطلب لهذه المنتوجات أيضا. و هو الواقع الذي يستدعي و يتطلب على المستوى النظري أدوات و وسائل منهجية للتعامل معه و طرق تحليل تستطيع استقراء دلالات الحدث و رهاناته، لأجل استطلاع أفاقه المستقبلية و توقعات امتداده هذا من جهة. و من جهة ثانية كيفية الحفاظ عليه كمكسب و كآلية للمواجهة و كسلاح للمقاومة، تواجه و تدافع به الفئات المتضررة و المستضعفة جشع و استغلال المتغوّل الرأسمالي على المستوى الواقعي، و تتصدى لمخططاته الانتقامية القائمة على اﻻحتكار و الزيادة المتواصلة و المتصاعدة في ثمن الأسعار كما هي الحالة الحاصلة عندنا. يتلعلق الأمر في هذا المقام بنوع من المزاوجة و الربط الجدلي بين المستوى النظري (البنية الفوقية) و المستوى الواقعي (البنية التحتية) كما يشدد على ذلك التحليل الماركسي في بعده المادي التاريخي، كما أن المناولة المفاهيمية لهذا الموضوع يستحيل فصلها عن جهازه المفاهيمي المرتبط بآليات التحالف الطبقي المهيمن و المسيطر فكريا و اقتصاديا والذي يستحضر في العمق من هو المحدد الأساسي لقلب معادلة التغيير لواقع ما ؟ الوعي ( منظومة الأفكار ) أم السلعة و البضاعة ( الاقتصاد) أم الاجتماعي (السياسي)؟. من هذا المنطلق يستمد هذا الأخير راهنيته و جدته في التوظيف و التحليل أمام موضوع من هذا النوع. إن كل تحليل في اعتقادي ما لم يشخص بشكل واضح واقع و فعل المقاطعة كمعطى "قائم الذات"، وما لم يحدّد الاطراف المستفيدة ( صاحب الرأسمال المنتج)، في مقابل الفئات المتضررة منه ( المستهلك الزبون)، وأيضا تلك التي بإمكانها أن تلعب دورا محوريا في اعطاء نفس ما لطبيعة هذه المقاطعة و تحويل مسارها في اتجاه معين، سواء بالدفع بها للاستمرار و الامتداد لمقاطعة مواد أخرى أو تكسير مداها نحو التراجع و النكوص، سيبقى تحليلا اختزاليا سطحيا يفتقر للنظرة الشمولية التي بوسعها أن تعطي صورة متكاملة نسبيا عنه، و غير قادر على امدادنا بالفهم الكافي بجوانب هذه القضية في جل تقاطعاتها و أبعادها. في هذا السياق بالذات سأحاول تقديم بعض الملاحظات المرتبطة بنفس الموضوع من خلال استقراء حملة المقاطعة كأسلوب احتجاجي ابداعي جديد عبر إثارة الأسئلة التالية: عن ماذا تعبر المقاطعة؟ و ما دﻻﻻتها و تعبيرها السياسي و الاجتماعي؟ من يقاطع من؟ و ما معنى أن نقاطع؟ و لماذا نقاطع ؟ و من هم المقاطعون تحديدا؟ وما أهم التوقعات المحتملة التي يمكن أن يتجه فيها مسار هذه الحملة و أفاقه؟؟.
قد لا يخفى على عدد كبير منا أن كلمة " المقاطعة" ليست لفظا غريبا عن قاموسنا التداولي اليومي ، وهي عادة ما تستحضر في الذاكرة الجمعية للمغاربة و أذهان كثير منهم، المكان الفضاء الذي يرتبط بالتصميم و الهندسة الجغرافية للمستعمر أي بالتوزيع و التقسيم الموروث عن الحقبة الاستعمارية. و هو الفضاء الذي تقدّم فيه بعض الخدمات الإدارية المرتبطة بتسليم بعض الوثائق كتسجيل المواليد الجدد أو منح بعض الشواهد كشهادة الحياة، شهادة العزوبة، شهادة الوفاة...و على ذكر " شهادة الحياة" هذه ربما قد نكون الشعب الوحيد في العالم الذي ينفرد بهذا الاستثناء الذي يفرض عليك أن تتوجه لهذه الإدارة كي تشهد على نفسك بأنك فعلا حي ترزق، و لا زلت على قيد الحياة. حتى و إن كنت مضطرا للكذب إكراها و تشهد الزور ظلما ضد نفسك للحصول عليها، المهم أن تكون حيّا لا يهم كيف تحيا أو تعيش؟ و لا يعني أحدا أن يتدخل ليعرف ظروف أو شروط عيشك؟ و لا مستوى الحياة الذي كنت تحلم به. إلا في بعض الاستثناءات الخاصة التي تجد فيها الطفيليون يترصدون خطواتك واحدة تلو الأخرى، دون علم منك و دون أن تدري، طبعا قد يكون لكل واحد منا قصة أو حكاية مع المقاطعة التي نتوجه إليها كلما اقتضى الأمر ذلك لقضاء بعض الأغراض الإدارية منها، قد يتعلق بعضها بالتسويف أو التماطل أو الاستفزاز أو المشاحنة و الشجار مع أحد العاملين هناك أو شابهه، لكن ربما قد لا يصل الموقف أكثر طرافة من ذاك الذي دفع يوما ما بأحد المواطنين لإحضار مواد البناء لإغلاق بابها الرئيسي ما دام أنها حسب روايته لا تقدّم خدماتها للزبائن بشكل أفضل و على وجه السرعة و بأحسن صيغة ممكنة. كما لا تتوقف قصة المغاربة مع "المقاطعة" أقصد المقاطعة كبناية إدارية قائمة عند هذا الحد فقط. بل يمتد مداه كذلك إلى مجال العلاقات الإنسانية إذ نلقى تأثير هذا الامتداد لا ينحصر في دائرة كون شخص مثلا يقاطع زميل له في العمل، أو شريك في المهنة أو السكن و غيرها....بل يتسرّب حتى لأقرب المقربين لبعضهم البعض، حتى و إن تعلق الامر بالعلاقات الأكثر عاطفية و حميمية، فنجد الزوج يقاطع زوجته لأنها هي بدورها تفعل ما إن تتاح لها الفرصة ، و بالمثل يفعل الابن فيقاطع أخته أو ابوه، و كذلك قامت الجدة منذ سنين مع جاراتها، و مثل ذلك فعل العم مع صهره الذي خان ثقتهما المتبادلة و هكذا دواليك...المهم أن أسباب المقاطعة و دواعيها قد تختلف بين أتفه الأمور وأكثرها جدية بالنسبة لكل طرف. و كم سيكفينا من الوقت والمؤلفات و الكتب إذا ما أردنا حقا تشخيص واقع " المقاطعة" هذه لنعرف أثر وقعها على مستوى العلاقات الإنسانية بين الأفراد داخل النسق الاجتماعي. بالإضافة الى ما سبق كان للمغاربة أيضا خلال مرات عديدة موعدا مع "المقاطعة" من خلال مقاطعة صناديق الاقتراع أثناء المحطات الانتخابية اقتناعا منهم بعدم جدوى و فعالية هذه العملية التي لا تغدو أن تكون أشبه بلعبة قمار يتقن معظم محترفوها الغش و التدليس و لا تكرّس إلا المزيد من البؤس السياسي. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كان شعار "المقاطعة" حاضرا بقوة ضد التصويت على الوثيقة الدستورية أثناء التعديل الأخير على أساس أنها لا تؤسس لمدخل البناء الديمقراطي الحقيقي . من هنا نفهم بأن ثقافة المقاطعة تعبر عن سلوك وتصرّف متأصل في علاقات المغاربة و عادتهم على المستوى الاجتماعي، و عن وعي جنيني للرفض و الامتناع و قول "لا" على المستوى السياسي، و كم من مرة، تكرر هذا القول على مسامع أذاننا حتى كاد أن يفقدنا حاسة السمع " لا للرشوة" "لا للحكرة" "لا للفساد" "لا للزبونية" "لا للغش" "لا للاحتقار" "لا للعنصرية" " لا للخوصصة" ... تعدّدت المسميات و ظلت "لا" واحدة، منتصبة قائمة، نافية مطالبة برفض ما بعدها، لكن يبقى السؤال هنا كيف نحشد هذا الوعي و نعطيه زخما أشد و أقوى؟ . و سواء قصدنا معنى المقاطعة بالمستوى الأول أو الثاني أو أقمنا الربط بينهما، فالمقاطعة التي سنتحدث عنها في هذا السياق لا تبتعد عنهما و لا تنفصل إلا من حيث شكلها و مظهرها عن الاشكال السابقة أي مقاطعة بعض المنتوجات و المواد الاستهلاكية. وعليه ستنتقل هذه الأخيرة من المستويين المشار إليهما أعلاه إلى مستوى الاقتصاد أي مجال التبادل و التوزيع و المنافسة المرتبطة بالعرض و الطلب و الاحتكار و تراكم رؤوس الأموال، و حملة المقاطعة التي انتشرت مؤخرا بخصوصها صور و ملصقات عبر مختلف وسائط التواصل الاجتماعي معبرة عنها، تأتي في هذا السياق. أي سياق الامتناع عن اقتناء بعض المنتوجات و رفض التعامل مع الشركات المنتجة لها، و رفع شعارات معبرة عن هذا الرفض ضدها مثل " خليه يريب" "سير شربو" "سير حرقو"....
بدون الدخول في التفاصيل و الجزئيات و أيضا القلاقل و حتى الاشاعات المغرضة التي صاحبت عملية المقاطعة منذ لحظة انطلاقتها الأولى من قبيل: من هي الأطراف التي دعت إليها؟ و ما الهدف منها؟ و من هو المستفيد؟ و لماذا الاقتصار على هذه المنتوجات الثلاث بعينها دون الأخرى؟ و هي الأمور التي كان من المتوقع أن تصب في التوجه الذي يخدم مصلحة المقاطَعون و ليس المقاطِعون، ليتم الدفع بها الى خندق المزايدات الفارغة المحدودة الأفق. و هو العنصر الذي كان في الإمكان استغلاله بالمقابل في الاتجاه المضاد لتشتيت التعاطف معها و بالتالي تبديد معه كل حلم مأمول من ورائها لإجهاضه عند بداية ولادته. يهمّنا أن نفهم هنا تحديدا بنوع من القراءة المتأنية، ما القراءة التي تقديمها لحملة المقاطعة هذه سواء كرد فعل جماعي ضد واقع ما أو كرفض و امتناع عن اقتناء بعض المنتوجات ؟ وعن ماذا تعبر حملة المقاطعة بهذا الشكل الجديد؟
أعتقد أنه للعثور على جزء من الجواب عن هذا السؤال يكفي أن نقف عند حجم الزيادات المتكررة التي طالت مجمل المواد الاستهلاكية، لا سيما تلك التي تدخل في خانة الاستعمال و الاستهلاك اليومي للأغلب العائلات و الأسر المغربية ( زيوت، دقيق، توابل، قطاني، خضر، فواكه، لحوم ، الملابس، الادوية...). و الملاحظ أيضا انه حجم الارتفاع المهول في ثمن الأسعار لم يتوقف عند هذه القائمة فقط . بل تعدى مداه ليصل الى الحاجيات الأخرى المرتبطة بحياة المواطن بشكل عام، بما فيها خدمات اجتماعية أساسية كالصحة و التعليم، السكن، العقار و مواد البناء المرتبطة به ، الماء، الكهرباء، الضرائب، و حتى تذاكر السفر و الطوابع التي تلصق على ظهر الأظرف لم تعفى من الزيادة، زادوا في كل شيء و لم يستثنى من هذه الزيادات المباركة إلا شيء واحد هو "الأجر" الى درجة وصل معه التهكم بخصوص الزيادات التي عممت بهذا الشكل المهول إلى نعت الحكومة بحكومة "بن زيدان" بدل نعته باسمه الحقيقي. و الملفت للانتباه أن هذا لم يحدث حتى أثناء سنوات التسعينات العجاف التي عانى المغرب فيها من الجفاف و ندرة بعض المواد كالقمح مثلا عندما اضطرته الوضعية آنذاك لاستيراده من دول أخرى. وما يدعو للاستغراب أكثر هو أن كل هذه الزيادات حدثت و تحدت أمام صمت مطبق من الجهات المسؤولة المختصة بمراقبة الجودة و حماية المستهلك التي اكتفت ببلع لسانها و كأنها غير معنية بما يحدث و مسؤوليتها لا تنحصر إطلاقا في هذا الجانب. ماذا يمكن أن نفهم من موجة الزيادات المتواصلة هذه؟ نفهم أولا أن حجم الزيادة هذا يمتد بشكل مباشر لجيب المواطن البسيط ويستهدف استهدافا مقصودا ضرب قدرته الشرائية لأنه بكل بساطة تحمل أكثر مما ينبغي الزيادات. و ما على المواطن البسيط الذي صار منهك و أعزل في سوق المساومة بين مطرقة الرفع في الأسعار وسندان الاستهلاك إلا الاستسلام و تحمل عناء الاكتواء بنار الزيادات، دون أية حماية تذكر. من هذا المنطلق يبدو الاقتناع واضحا بأن تدبير و تصريف الازمات التي تصيب عصب مؤسسات وشركات الرأسمال عادة ما يتم على عاتق المستهلك و أن مصلحة الزبون هي اخر همّ يفكّر فيه مسؤولي تلك المؤسسات. و خير دليل على ما نقول مضمون التصريحات التي أدلى بها كل واحد منهم في تعليقه على حملة المقاطعة، التي وصلت الى درجة التخوين، وأوصاف نعتت المنخرطين فيها بالمداويخ و المجهولين و غيرها من النعوت... من هنا يتضح بوضوح كاف كم يكنون هؤلاء السادة من التقدير و الاحترام لزبناء شركاتهم العملاقة. ففي الوقت الذي كنا نسمع فيه بان الزبون "ملك" مع الشركات التي تحترم نفسها، أضحى هذا الأخير مع الاستثناء المغربي مصدرا لمضاعفة الثروة و الاستغناء.
على هذا الأساس ينبغي فهم أن حملة المقاطعة هذه، ما هي إلا امتداد لسلسلة الاحتجاجات السابقة و الاخيرة التي اندلعت بعدد المدن ( سيدي إفني/ صفرو/ تازة/ الحسيمة/ زاكورة/ جرادة...) ضد واقع اجتماعي مجهول الأفق غير قادر على تحديد الخيارات والبدائل و الأولويات الكفيلة بإرساء نموذج تنموي حقيقي يستطيع اخراج المواطن من دوامة التخبط بين النهوض الاجتماعي المؤجل إلى مستوى الرقي الجماعي المعجل. وهي بهذا المعنى تعبير عن تبلور و ميلاد وعي اجتماعي و سياسي ذو بعد احتجاجي جديد غايته ابلاغ صوت من لا صوت لهم، من خلال ابتكار طرق إبداعية للمجابهة اتخذت من وسائط التواصل الاجتماعي وسائل لها، و التي استطاعت في ظرف وجيز أن توصل صوتها و تبليغ رسائلها بأقل تكلفة و بدون مجهود أو خسائر. هذا الوعي الذي يمكن أن يشكل أداة للتصدّي و آلية للضغط و الرفض و الامتناع لدى جماعات الضغط الجديدة هذه، لكل اشكال الاستنزاف و الابتزاز الذي يتعرض له الناس بشكل متواصل و مستمر من طرف مالكي الرأسمال. و هي الخطوة التي تسمح بقراءة أن التغيير المأمول و تحقيق المطالب المرتبطة به، ممكن أن يكون اقتصاديا بمحاصرة الاحتكار و منع زواج السلطة بالمال عن طريق حملة مقاطعات أخرى موازية من هذا النوع.
                                        عادل قنيبو،أستاذ الفلسفة، عضو المجلس الوطني للحزب الاشتراكي الموحد