السبت 4 مايو 2024
كتاب الرأي

محمد بنظاهر: مقاربة تحليلية حول العقلية الفقهية و إشكالية التكفير

محمد بنظاهر: مقاربة تحليلية حول العقلية الفقهية و إشكالية التكفير محمد بن الظاهر، باحث في فلسفة الأديان

صفحات بالدماء ملطخة، منسية في سجل التاريخ، طمست عنها الأعين؛ إنه تاريخ البطش و الحياة البهيمية، تشوبه صراعات مستميتة بين رجال الدين و الفلاسفة، طرف يصارع بالسيف وآخر يجابه بالحجة. فهل نأخذ بالفريضة الأولى أم نتبع الفقهاء الذين يلغونها؟.

فيما سيأتي سنحيل للقارئ مقاربة بين إطارين زمنيين مختلفين من حيث الخصائص ومنه نبني استنتاجاً يجمع بينهما:

الزمن الأول: لا يخلو التاريخ المسيحي من صنوف القتل و إطفاء أي بصيص نور يريد أن ينقل الفرد من التفكير الميثولوجي (mythos)،إلى أنوار العقل و العلم (logos)، وسنعرج إلى شواهد نسند إليها لبناء موقفنا؛ سيظل مقتل شهيدة العلم في جبهة التاريخ لا يمحوه الزمن هيباتيا، التي قتلها غُمار من المسيحيين، إبان رجوعها إلى منزلها بعد ندوة ألقتها، و إذ ذاك جردوها من ملابسها، وجروها من شعرها بحبل حتى سلخ جلدها، وقاموا بسلخ الباقي بالأصداف، حتى صارت جثة هامدة و أحرقوها، وعندما أخرجت الكنيسة رفات العالم الفلكي وكليف من باطن الأرض، وأمرت بسحق عظامه و نثرها في البحر، حتى لا يدنس الأرض. ولقد تم إعدام جوردانو برونو أو برونو دي نولا حرقاً، وغاليليو و نيوتن و بعدهم ديكارت في العصر الحديث و فولتير، هذا على سبيل المثال لا الحصر، هؤلاء حرمت الكنيسة قراءة كتبهم و كفرتهم فدفعوا حياتهم ثمناً لأفكارهم.

الزمن الثاني:  تُقدم للناس الحضارة الإسلامية على  أنها حضارة لا تشوبها شائبة، وتخلو من الزلل وتعد أحداثها من طابو Tabou لا يمكن الطعن و الجرح في أعلامها، ووضع الأحداث تحث مجهر النقد و التحليل و الفحص. لكن من يصفح التاريخ يقف على مكامن العيب فيها، فرجال الدين لا يقلون عن إخوانهم _السلك الكهنوتي_ إجراماً، فمنذ بداية (عصر الترجمة) وبالخصوص في عهد العباسين بدأ بشكل كبير مهرجان التكفير و التقتيل، فلقد أنشأ المأمون سنة 215ه "بيت الحكمة" مهمته الإشراف على ترجمة كل ما يصل إلى أيدي المسلمين من الثرات اليوناني و غيره من الأمم غير العربية، وكان من كبار المترجمين، يعقوب بن إسحاق الكندي(252ه)، وثابت بن قرة (228ه)، وقسطا بن لوقا(300ه)، ويحيى بن عدي (363ه)، وكلهم دون استثناء لحقهم التكفير و نعتوا بالمنجمين، وابن المقفع الذي قتله سفيان بن معاوية، حيث قام بصلبه وتقطيع لحمه قطعة قطعة، وشيها في النار أمام ناضريه، وصلب الحلاج و اتهام المعري و الفارابي و ابن سينا بالزندقة و الكفر، و الرازي و الخوارزمي و الجاحظ و ابن الهيثم و الطوسي و الطبري و ابن بطوطة و ابن باجة و مسكويه و ابن الطفيل و ابن جبير و ابن شاكر و جابر بن حيان و الرابعة العدوية، و طه حسين بسبب كتابه"في الشعر الجاهلي"، و علي عبد الرزاق كذلك"الإسلام و أصول الحكم"، ونصر حامد أبوزيد "نقد الخطاب الديني"، و فرج فوده، وغيرهم الكثير، هذا حسب مصادر و مراجع من قبيل  "إغاثة اللهفان" و "فيض الباري"،" شدرات الذهب"،"درءالتعارض"،"لسان الميزان"، "البداية و النهاية"....

إلى هنا يمكن القول مما استطردناه آنفاً، من خلال المقاربة بين إطارين زمنيين مختلفين، نجد أن السمات التي يطبعهما لا تختلف بالمرة؛ ولنقل بصيغة صريحة أن دين رجال الدين يختلف تماماً عن الدين الذي ينتمون له، فالقتل و التكفير سلاح لمن لا حجة له. إن الظغينة التي يحملها رجال الدين بغض الطرف عن اختلاف الطوائف والأديان، ضد العلماء و الفلاسفة واحدة؛ وهي تسطيح الوعي وتخذيره بخطابات عاطفية تستميل القلب و الوجدان، ولديدرو قولا " لم يسبق لفيلسوف أن قتل رجل دين، لكن رجل الدين قتل الكثير من الفلاسفة".لكن موضوعية التاريخ تخلد العلماء و تقبر مكفريهم.

هؤلاء الفلاسفة و العلماء اعترف غيرنا بعبقريتهم قبلنا، ونصبوا تماثل لهم أمام الجامعات، وهنا  المستشفيات تحمل أسمائهم و شوارع و الساحات، تخليداً لذكراهم، و الآن ودعنا العالم البريطاني ستيفن هوكينغ، ترك (للغرب)  إرثاً يستقون منه علماً اصيلاً و هنا تركنا بين مكفرين له و متعاطفين معه و لا أحد يبادر بالإمعان في كتبه و مألفاته.

يقول فتحي التريكي في مقال له (الوعي بالحاضر و تحرير الكيان): "فالوعي السلفي الذي يسود اليوم في المعقولية العربية هو وعي مغلق و متحجر يقوم على عبادة الأسلاف و يرفض كل إبداع و كل تفكير عقلي مشفوع ببرهان بما أن برهانه الوحيد هو ما أتى به السلف وبما أن ثقافته ثقافة تكفير و ليست ثقافة تفكير" (مجلة الفيصل،عدد 498،ص111) ،فالعقلية الفقهية خربت العقل العربي، ودين الله يختلف عن دين الفقهاء، فما الداعشية سوى ثمرات الطائفية التي كرسها رجال الدين، و ما خلا النص القرآني من ألفاظ تدعوا لإعمال العقل و عدم التسليم بالأحكام الجاهزة و الأوثان التي تعشعش داخل لاوعينا. فما هذا التمزق بين المعرفة الدينية الحقة و أقوال "رجالها" ؟.

سيظل في كل عصر إسلامويين يحشون الجماجم بدينٍ ذكوري النزعة و متشدد الأحكام، ويكفر كل من يريد أن يحرك مياه الفكر الراكدة. ويمكن القول خلاصة إسلام ضد الإسلام.