السبت 18 مايو 2024
مجتمع

مغاربة "ربحة ولا ذبحة".. مقامرون يعرفون أسماء وأعمار وأوزان "جولي" و"سيليكي" أكثر من أبناءهم

 
 
مغاربة "ربحة ولا ذبحة".. مقامرون يعرفون أسماء وأعمار وأوزان "جولي" و"سيليكي" أكثر من أبناءهم

أي قدر هذا الذي قادهم إلى ذلك المصير المجهول؟ أهو التورط في مطب أمنية الربح السريع؟، أم التسلي بنشوة ترقب النتائج؟، أم الفراغ المسيطر على مجمل فترات وقتهم؟. وكيفما كان التبرير، فإن الجميع ممن يشكلون هذه الشريحة يتقاسمون فضاء المقهى لممارسة طقوسهم الخاصة. وهم يغوصون في فك رموز تلك القوائم البيضاء المخططة بالأسود، وكأنها شهادات حياة أو أكثر، يتشاورون حول الأرقام والخيل والعربات والكلاب، لكنهم يحرصون بعناية أن لا يرمق الواحد منهم الآخر عندما يملؤون الخانات. ورغم أن هناك مستشارون محترفون يجالسون مدمني اللعب في أي مقهى، ويقدمون تقريبا نفس النصيحة لكل واحد منهم حسب قوة الحصان وجودة فارسه، إلا أن اللعب لا يحلو دون بعض المخاطرة التي أثبتت غير ما مرة أنها كانت أكثر جدوة من الحسابات العقلانية. "أنفاس بريس" كانت لها زيارات متعددة لهذه الفضاءات المشهودة باستقطاب هؤلاء المتشبثين باللعب إلى آخر رمق، لتخلص إلى الأسباب الحقيقية التي جعلت شعارهم الدائم "ربحة ولا ذبحة"، وكانت وراء تحملهم لكل مظاهر الإقصاء والنبذ الأسري بعد أن صاروا متمكنين من أسماء وأعمار وأوزان ونوعية الحلبات إن الصلبة أو الرطبة ل "جولي" و"باما" و"صالصا" و"سيليكي"، أكثر مما يعرفونه عن أبناءهم. 

إنهم أنماط بشر هاربون من عيون الأهل، ومن الحياة، ومن أنفسهم. يبحثون عن ازدحام تضيع فيه وجوههم التي تتألق بفرح خائف. ففي هذه المقهى يسود جو يعبق بدخان السجائر وروائح العرق والقهوة والشاي. الأصوات متداخلة، حينا تكون كالهمس، وحينا كالصراخ. بعضها يدب إلى الأذن فتلتقط جزيئات منه، وبعضها يتبعثر في المكان الواسع ليضيع مع الضجيج. في الزاوية اليمنى كان يجلس رجل كمشت التجاعيد وجهه، يرتشف "قهوة كحلة فالطاس"، بينما يغرق وجهه في "بروكرام" لحظة، ويتيه بعينيه في اللاشيء لحظة أخرى. إنه عبد الكريم المعتاد على ارتياد هذا الفضاء المبتعد عن مقر سكناه بنحو 15 دقيقة مشيا، حيث يجد بعض أصدقاء اللعب الذين يتعاونون معه على ملء القسائم التي يشارك بها في بعض السباقات. فمنذ 20 سنة وهذا الكهل المقبل على الستين من عمره مواظب على متابعة سباقات الخيل والمشاركة في رهاناتها حتى ولو كلفه الأمر آخر نقوده، رغم أنها لم تعطف عليه بعد بفوز عظيم يعوضه خساراته المتتالية منذ زمن. إذ يدخل هذا المراهن المتمرس في قائمة المدمنين على سباقات الحظ، إلى درجة لا يمكنه التوقف عن إهدار ماله ومدخرات زوجته وأولاده في اللعب الذي أصبح أساس حياته وكينونته. فقد فشلت كل محاولاته ومحاولات عائلته للكف عن اللعب وإنهاء كم مشاكله المادية الكثيرة، والتي تكاد أن تكلفه استقراره الأسري الذي أصبحت تتقاذفه حوافر "جوني" و"إلكا" في سباقات البوديوم. وعند محاولتنا الحديث إليه، ظل عبد الكريم مترددا قبل أن يقتنع بعفوية النقاش، ويعبر عن حبه الشديد للعب، مع إيمانه العميق بقدرته على خلق المفاجأة والفوز وإن جاء متأخرا. فلطالما عانى طيلة حياته من عدم تقبل محيطه لهوايته المكلفة، ورفض أقرب المقربين إليه شغفه بالمراهنة. يقول: "يمر الناس من أمام المقهى وينظرون إلينا باشمئزاز وشفقة، وكأنهم يرمقون المرشحين المقبلين على العذاب الإلاهي. فمازال جل المغاربة يعتبرون اللعب ذنبا عظيما يعاقب عليه الله. رغم أن مكاسب المغربية للألعاب والرهان التعاضدي الحضري المغربي هي التي تدفع أجور موظفي الدولة بمن فيهم أئمة المساجد التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية".

كان عبد الكريم يتكلم بنبرة غاضبة ولو أن السؤال لم يكن يتضمن ما يستفزه. فمجرد شرح أسباب حبه للرهان وصرفه معظم أمواله عليه، شُدت أعصابه من كثرة المشاكل التي  تتسبب بها زياراته المتكررة لمقهى الرهان. وفي ذلك يوضح: "أصبحت زوجتي وأبنائي يحذرون على محفظات نقودهم ومجوهراتهم كلما دخلت البيت، بل إنهم يقفلون على بعض الآلات الإلكترونية بالأدراج عندما يذهبون في زيارات عائلية. يحدث هذا رغم أنني عندما أحتاج لأي مبلغ مادي أطلبه منهم صراحة، لكنهم يعتبرونني دائما مقامرا لا أستحق الائتمان و الثقة". وعلى عكس عبد الكريم، فحميد لا يعاني الفقر إطلاقا، ويملك محلا لبيع أجزاء السيارات "إنها بالنسبة لي تسلية نفسية لا يمكن أن أستغني عنها.. إن جانب الانتظار في هذه اللعبة هو ما يجعلني متعلقا بها. إلا أنني أقوم بتقنين رهاناتي على أن لا تتجاوز مبلغا محددا في الأسبوع. غير أن الجانب النفسي هو الذي يحدو بي إلى أن أرتبط بهذه اللعبة.. فالجلوس في المقهى بطقوسها، وقراءة الجرائد المتعلقة بالرهانات وتبادل المعلومات مع المراهنين وقراءة البروكرام، وحالات التوتر النفسي والانفراج. كل هذه الأمور تضيف معنى جديدا لحياتي.. بالطبع أنتظر يوما ما أن أربح، لكنني لا أربط مصيري بهذا الأمل. المتعة أولا والربح ثانيا".

في هذه المقهى يكثر المتسولون والباعة. يدخلون ويخرجون مارين بالطاولات. رجال فقدوا أسنانهم وشعر رؤوسهم ولفت بهم العاهات من كل جانب. نساء عجوزات منحنيات للزمن. شباب يبيع السيديات، وآخر يحمل من السلع ما يكفي لملأ محل تجاري. شابات جميلات في مقتبل العمر يلخصن أوضاعهن في قطع ورقية صغيرة كتبت عليها تلك العبارات الشهيرة "زوجي مريض مرض خطير، ولدينا أطفال. ونكتري غرفة ب500 درهم.." والبقية تأتي.

هناك أيضا مهاجرون أفارقة قذفت بهم فتنة الحروب من بلدانهم إلى هنا للتسول أو الاتجار في الحلي و"البورطابلات". وكأغلب صدور رواد المقهى المتعبة والمثقلة بالهموم، أنَّ صدر إبراهيم في وجه أحد المتسولين "الله يسهل عليك را فايتينك غير بالصبر". وحكاية هذا المقامر أنه ورغم اشتغال زوجته وابنته البكر وتوصله بمعاش التقاعد النسبي، إلا أن أسرته لا تكاد تجد ما تقتاته بعد دفع الديون المتراكمة عليه. فمعلم اللغة العربية السابق هذا لم يتعلم شيئا من مغامراته الفاشلة مع حلبات السباق التي سبق وأن قادته في مناسبات كثيرة إلى أقسام الشرطة بسبب الشيكات التي ظل يوزعها يمينا وشمالا على معارفه كي يقرضوه ما يلزمه من مال. ديون سارعت زوجته غير ما مرة إلى دفعها عنه حتى لا يزج بأب أبنائها في السجن وتسوء سمعة العائلة أكثر مما هي عليه. يؤكد إبراهيم "حاولت كثيرا التوقف عن اللعب لكنني في كل مرة أكون متيقنا من الفوز وتعويض عائلتي عن جميع المحن المادية التي تسببت لهم بها"، مضيفا "حتى عندما أحصل على مبلغ مهم ما، أعاهد نفسي بألا أبدره على الرهان. لكن في كل مرة أجد قدماي تقوداني إلى هذه المقهى وأدفع كامل القيمة على الحصان الفافوري. والذي لا أعلم كيف أنه يفقد ميزته هذه لما أراهن عليه والعودان المحكورين كايديرو لاسيربريز".