الأربعاء 8 مايو 2024
كتاب الرأي

محمد بوبكري:لا حرية فردية في الإسلام السياسي

محمد بوبكري:لا حرية فردية في الإسلام السياسي محمد بوبكري
ليس الدين اليوم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا  مجرد معتقد، إذ حرص فقهاء السلفية الحنبلية ومحدِّثوها على إقحامه في كل شيء بما في ذلك أشد الأمور حميمية عند الإنسان، وذلك في وقت يتعين علينا أن ننخرط في الثقافة الكونية التي فصلت بين الدين والسياسة ومكنت الفرد من  حقوقه كافة بما هو فردٌ، وبنت مجتمعات مدنية وسياسية. وهذا طريق  كوني لا يمكن أن يكون أي تطور مجتمعي بدونه.   
وقد تبنّت هذه الثقافة الكونية  روح النقد والفحص، ما مكّنها من  تفكيك الأصولية المسيحية وتحرير المجتمعات الغربية من محاكم التفتيش والدوغمائية العقائدية المؤدية إلى التحجر والانغلاق والجمودالذي لا ينجم عنه سوى الاقتتال والحروب الطائفية، كما أن هذه الثقافة قد أبدعت  العقلانية العلمية وبنت المؤسسات  الديمقراطية....
 وتكمن المشكلة عندنا في أن جماعات الإسلام السياسي الحنبلي تسعى إلى تحويل الإيمان الديني إلى  أداة ومؤسسة رغم أن ذلك يشكل عدوانا على الإنسان ، إذ يجرده من حريته ويحرمه منها.              
فعندما أقرأ النص القرآني، أَجِد أنه يخاطبني باعتباري فردا. فأنا مع حرية التديّن، والمجتمع الذي لا يعترف بذلك، ولا يعترف بالتعددية الدينية ولا بحرية المعتقد، هو مجتمع لا تديّن له، لأنَّ الإيمان يبقى شأنا فرديا، بل يجب ألا يتحول إلى مؤسسة، أو إلى نظام يٌفرٓض على الآخرين بالإكراه أو العنف.
لا يمكنني أن أفرض تأويلي الخاص للقرآن الكريم على الآخرين، لأن ذلك يشكل اعتداءا على حريتهم الفكرية. فلا ضمانة ولا حجة لي تجعلني أقبل التأويل الخاص للقرآن المجيد لأي كان بأنه الحقيقة المطلقة.  
لذلك، يجب التخلص من قيام المجتمع على ثقافة دينية. ولا يعني ذلك أنني ضد الإيمان الديني؛ فالتدين شبيه بالحب كما عاشه المتصوفة، والإنسان في حاجة إلى الدين لتنظيم علاقته بالغيب، ومن ثمة فهو  حاجة كيانية، ولكن مع جماعات الإسلام السياسي وأحفاد ابن تيمية لا حرية للفرد في أن يفكر بحرية. 
فقبل عصر الانحطاط الذي ابتدأ في القرن الثالث عشر الميلادي ، كان الإسلام  منفتحا وديناميكيا ، وأبدع المفكرون المسلمون الكثير من الكنوز الفكرية، لكنه، وبفعل  ففقهاء الانحطاط  المتحجرين، تحوٌّل إلى قوانين شكلية فارغة قسرية وجامدة لا روح فيها. ومع بداية عصور الانحطاط،عرف العالم العربي والإسلامي   انقلابا في القِيَّم، حيث كان الإسلام في عصره إلذهبي  يتسم بنزوع كوني، لأنه انفتح عَلى كل الثقافات والحضارات وتفاعل معها واستفاد منها، ما مكّٓن المفكرين المسمين  من إنَّتاج مؤلفات عظيمة  شكلت تراثا عربيا إسلاميا رائعا. ونتيجة فترة الانحطاط تقوقع الإسلام  وانغلق على  نفسه وضاق  أققه وسقط في العنصرية . إضافة  إلى ذُلك، فقد سمح الإسلام في عصره  الذهبي بتعددية الآفكار والآراء والمعتقدات والمذاهب ،قصار مع عصور الاتحطاط لا يقبل الاختلاف في الرأي وتعدد العقائد والمذاهب والاتجاهات. وبذك انتقل  من قبول الحرية إلى ممارسة الإقصاء وفرض الانصياع والطاعة والعبودية. هكذا،فبعد أن كان الإسلام في عصره الذهبي  دين الانفتاح ،صار  في عصور الانحطاط دين الانغلاق والقتل والتفجير وتفتيت الأوطان... ...
ليس الدين المحمدي هو الصورة المشوهة التي  شكلها عنه الأصوليون المتطرفون الحنبليون. لذلك،فالإسلام ليس مسؤولا عن هؤلاء، ولا علاقة له بهم، ما يقتضي  ألا يدفع أي ثمن عن ما ارتكبوه من جرائم، كما أن المسيح ليس مسؤولا عن فظاعات محاكم التفتيش والحروب الصليبية، ويجب ألا يدفع كلفة هذ ه  الكوارث.... 
ونظرا لكون الحنبلية من أخطر ما أنتجته عصور الانحطاط، لأنها تحوَّلت إلى مذهب يعتنق  القتل والتفجير، حيث لا يزال ابن تيمية   إلى الًيوم يحصد الكثير من الأرواح البشرية من قبره على يد أحفاده وأتباعه . لذلك لا يمنح الوجه السياسي للحنبلية للإنسان أية هوية منتجة ومبدعة، وإذا ما فعلَ فهو  يعطيه هوية موغلة في الانغلاق والتعصب والتدمير  والانتحار والقتل،  ما يناقض وجود الفرد. فالجمود والانغلاق هما ، من حيث طبيعتهما،ضد الفرد، وما يناقض الفرد هو قاتل لهويته، إذ لا هوية في غياب الفرد، لأنَّ الفرد هو الذي يبنيها ويبدعها باستمرار عبر عمله وإبداعه... لذلك،لا هوية في غياب  الفرد الحر  المبدع..   
مع الحنبلية لا حرية  للفرد في أن يفكر بحرية، رغم أن الدين ليس هشا،بل إنه قوي لا يمكن الخوف عليه من الانهيار  بسبب الحرية الفكرية الفردية. فالحرية تٌمٓكِّن الفرد من فهم الدين فهما أفضل، فيزداد احترامه  وتقديره له، والسياسة عموما  لا تمنح  هوية للشعوب، وكذلك الاقتصاد، بل الحرية والإبداع بشتى أنواعهما هما ما يفعلان ذلك.
فضلا عن ذلك،فالقبيلة والطائفة والأمة مفاهيم إيديولوجية لتذويب الفرد ومحوه ، كما أنها مناقضة للحرية والفردانية اللتان بدونهما لا يمكن  التخلٌّص من سلاسل  النسق التقليدي واستشراف المستقبل وبناء مجتمع حداثي، ما يجعل الفردانية تشكل مدخلا للنقد والإبداع والنمو والتضامن والتطور، وبناء مؤسسات ديمقراطية... وهذا ما يستوجب حرية الفرد التي تمكنه من إدراك ذاته والانفتاح على الآخر والتطلع إلى المستقبل عبر إتتاجاته وإبداعاته.
لا يمكننا اليوم التطور علميا إلا باعتماد عٌدّٓة منهجية متعددة ومتنوعة تمكننا من النفاذ بفعالية إلى عمق القرآن الكريم أكثر وأعمق مما قام به السلف، الأمر الذي يستوجب عدم تقديس تأويل السلف للقرآن المجيد. فلا يعني احترامي للسلف  أن آخذ  بما خلٌٓفه حرفيا وكليا، حيث توجد فيه أشياء مفيدة يمكن أن نستفيد منها، كما توجد فيه  أشياء لم تعد مناسبة لعصرنا، لأنها أصبحت متجاوزة. لذلك، فقيمة السلف لا تمكن في كونه مرجعية مطلقة بقدر  ما تتمثل في كونه  موضوعا للتساؤل والبحث والاستشراف والإبداع، ما يقتضي حرية الفرد...