الخميس 18 إبريل 2024
فن وثقافة

أيام في القاهرة.. من قبر عبد الناصر إلى أثر المغاربة بحي الغورية.. مصر ليست تلك الحزينة التي يرسمها لنا البعض

أيام في القاهرة.. من قبر عبد الناصر إلى أثر المغاربة بحي الغورية.. مصر ليست تلك الحزينة التي يرسمها لنا البعض الكاتب والصحافي لحسن العسبي أمام قبر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر

حين تجد أن الصفوف طويلة لأسبوع كامل، أمام محلات "العبد" لبيع الحلويات المصرية الأصيلة (الزلابية، لقمة القاضي، أم علي، صوابع زينب، البسبوسة، كاشو، ملبن، اللوزية، المنين والقطايف)، وأن الفوز بطبق حلوى، يتطلب منك صبر انتظار بالساعات، تدرك أنه فعلا، كما تؤكد ذلك مقولة مصرية، فإن أول من بنى القاهرة حلواني. ويجعلك فضولك المعرفي، المتأسس على رواسب لمنهجيات علم الاجتماع، تغوص في محاولة تفكيك "الحقيقة القاهرية" كممارسة للحياة، مختلفة، تنتجها جماعة بشرية، فوق أديم قطعة أرض ممتدة، فائضة بكلمترات مربعة، على ضفتي وادي النيل (الأسلم أن يسمى "بحر النيل" لشساعته الهائلة).

قطعة أرض تبدأ من الأهرامات غربا، حتى قلعة صلاح الدين الأيوبي ومرتفع "المقطم" المغبر شرقا، ثم من مدينة نصر والمطار الدولي، حتى كرداسة والمنصورية، ومن المرج وشبرا وعين شمس شمالا، حتى جنوب المدينة في اتجاه المعادي. مثلما تجد نفسك، تكاد تكرر ما سبقك إليه رحالة وكتاب وفقهاء مغاربة، في القرون 17 و18 و19، من تدوين مشاهداتهم حول "رحلاتهم المصرية والحجازية" في طريقهم إلى الحج، وكيف أن إغراء المكان والناس، قد دفع البعض منهم للاستقرار نهائيا بالقاهرة، منذ نهايات عقد تسعينات القرن 17 (أساسا منذ 1689). ما يدفعك إلى محاولة تسقط أثر أولئك الأجداد المغاربة، من عائلات الشرايبي، جسوس، العلمي، بن مشيش، بناني، العشوبي، القادري، السقاط وبنجلون (وكلها عائلات مدينية من طنجة، تطوان، فاس، مكناس، مراكش، سلا والرباط)، التي استوطن أغلبها حي الغورية ومنطقة الجمالية وخان الخليلي، وأسسوا دورا تجارية شهيرة هناك.

- القاهرة.. الممكن من المستحيل

تغيرت القاهرة، في سنة 2017، مقارنة بحالها خلال السنوات الخمس الأخيرة، لكن الذي لم يتغير هم المصريون والقاهريون. لا تزال التفاصيل الإنسانية السلوكية، للطيبة والنكتة والمرح والأمل الذي بلا ضفاف، هي ذاتها التي نجدها نائمة في بطون تلك الكتب المغربية القديمة، التي من بينها الكتاب القيم "الرحلة الحجازية" للعلامة الشيخ ماء العينين سنة 1858 ميلادية. ولعل ملامح التغيير الجديدة اليوم، آتية من ذات الباب الذي انتبه إليه المؤرخ المصري الأشهر (تلميذ العلامة ابن خلدون المغاربي)، تقي الدين المقريزي، الذي عاش بين سنوات 1364 و1442م، صاحب الكتاب الأشهر "شذور العقود في ذكر النقود"، الذي يعتبر أول مقاربة تحليلية مالية اقتصادية لأزمة الحضارة العربية في زمن اندحارها في القرن 15، التي اعتبرها كامنة في أزمة السوق، وأن الجواب كامن في التجارة، وليس بالضرورة في رؤية فقهية أصولية.

التغيير اليوم في القاهرة ومصر، آت من حال العملة المصرية (الجنيه)، بعد قرار تعويمها منذ أكثر من سنة، حيث تراجعت قيمة العملة الوطنية المصرية مع توالي الشهور، أمام العملات الدولية، خاصة الدولار واليورو (في نونبر 2016، كان يورو واحد يمنحك 15 جنيها. في نونبر 2017، يورو واحد يساوي 20 جنيها). بكل ما أدى إليه ذلك من تراجعات على مستوى القدرة الشرائية لغالبية الشرائح الاجتماعية ببر مصر. لكن، صبر الناس وثقتهم في المستقبل، يكاد يشكل لوحده، موضوعا جديا للبحث، كونه يقدم الدليل، على مدى الوعي الشعبي المصري بضرورة الانتصار لما هو أهم اليوم. أي، سلامة مصر البلد والوطن، ضمن بحر مصطخب في محيطها الجغرافي، حيث المخاطر آتية من الصحراء الغربية على طول الحدود مع ليبيا، وآتية من الحدود الشمالية مع إسرائيل وقطاع غزة بسيناء، وآتية من الجنوب حيث منابع النيل. الناس في مصر، في الشارع العام، تؤجل كل شئ من أجل صون بيضة الجماعة المصرية، وهناك أمل سادر أن نتائج عمل ينجز ستؤتي أكلها بعد سنوات. كما لو أن الأمر عندهم، لا يعدو أن يكون مجرد "السنوات العجاف" في تفسير الحلم الذي قدمه النبي يوسف بن يعقوب لعزيز مصر. دون إغفال معطى سوسيو تاريخي، هو أن الذهنية المصرية، قد تراكمت عبر التاريخ، من خلال التماهي مع نموذج "القائد المنقذ"، أي مع معنى وصورة "عزيز مصر". وحين تستفز المواطن المصري من مختلف الشرائح الإجتماعية، بالسؤال عن صعوبة الحال، يجيبك بيقين المؤمن: "حا تتحسن إن شاء الله.. شوية صبر وحا نعبر". لتكتشف مع ذاتك، أن هناك "مصران"، واحدة تلك التي تحملها معك من الخارج، التي تبنيها الأخبار المتواترة في مصادر إعلامية مختلفة هناك وهناك، لهذا الحساب السياسي والمهني أو ذاك. ومصر أخرى، مختلفة، تمارس الحياة بمقاومة وصبر في الداخل. لتدرك أن "السد العالي" للبلد، ليس النظام السياسي، بل الناس.

في كتابه "الرحلة الحجازية" (1858 م.)، يستعرض الشيخ ماء العينين، الصحراوي المغربي، دفين تزنيت بالجنوب المغربي، باني مدينة السمارة بالصحراء الغربية للمغرب، المنحدر من بلاد شنقيط (موريتانيا الحالية)، رجل السياسة والفقيه العالم الورع، الذي قاد معارك ضد الاستعمارين الفرنسي والإسباني بالجنوب الصحراوي المغربي. في كتابه القيم ذاك، استعرض ما أسماه بـ "الغرائب المصرية"، التي هي عنده: "بابور البر" (أي القطار والسكة الحديد)، والتلغراف، وتعبيد الطريق بين القاهرة والسويس، ثم حفر ترعة النيل باتجاه الإسكندرية، وحفر قناة السويس (التي قدم حولها معلومات دقيقة حول السبب في تفضيل العمالة اليهودية والمسيحية على العمالة المسلمة، لأن الأولى متعلمة وتقنية والثانية أمية أكثر)، ثم أخيرا ما أسماه "رحى الإسكندرية" التي هي أكبر مخبز بمصر حينها، تطحن وتغربل وتخبز وتنضج الخبز لوحدها بقوة الريح. وواضح أن "الغرائب المصرية" لا تزال متواصلة اليوم أيضا، من خلال مشاريع عملاقة جديدة ببر مصر، ليس أقلها توسيع قناة السويس، مشروع الضبعة النووي الضخم مع الروس، إعادة هيكلة المجال الترابي في مصر لفك الاكتظاظ عن القاهرة. أي مشروع نقل الثقل الاقتصادي للبلد صوب الشمال المتوسطي وصوب الشرق الأحمر. بالتوازي مع إعادة هيكلة مدينة القاهرة القديمة.

الحقيقة، إن العاصمة المصرية، تقدم واحدا من النماذج في العالم، حول أزمة شكل تدبير المدن الكبرى. ذلك، أن التجارب العالمية الأشهر قد جعلت، تدبير "مدن/ دول"، مثل نيويورك، ساو باولو، لندن، باريس، موسكو وروما، يقدم النموذج حول معنى أن يكون التدبير المحلي العنوان الأسمى لمعنى ممارسة الديمقراطية، حيث فطنة تنظيم الخدمات للناس هو المقياس حول مدى التقدم الحضاري لتلك الشعوب. وأن تجربة القاهرة خلال الأربعين سنة الماضية، إلى جانب نيودلهي الهندية، تقدم الوجه الآخر للعملة، حيث الفشل في حسن تنظيم الخدمات العمومية، يقود إلى الفوضى، والفقر المركب، والغرق في التدبير اليومي، بدون بوصلة. اليوم، كما لو أن هناك إعادة نظر في مصر، لمعنى المدينة ولمعنى القاهرة، ولما تريده الدولة من عاصمتها. نعم القاهرة "مدينة/ دولة"، ولقد ظل الخطأ التدبيري الساري فيها، كامنا في أنها ظلت تدار بمنطق مركزي، لا يعير كبير قيمة للمشاركة الشعبية على مستوى القرار، أي من خلال العملية الانتخابية المحلية. مما أفقر البلد على مستوى خلق نخبة تدبيرية محترفة، بذات المقاييس المتحققة في كبريات "المدن/ الدول" بالبلدان المتقدمة بالعالم، وخلق فقط الموظفين التقنيين، الذين يسقطون في النهاية في تكلس البيروقراطية الإدارية، ولا يحركهم حافز الإبداعية، تلك التي يشحذها، عادة، منطق المحاسبة الانتخابية الشعبية.

إن الجديد، الذي تلمست ملامح له هناك، كامن في دور جديد غير مسبوق للمجتمع المدني، يراكم فعلا مؤثرا على مستوى دفع قرار الدولة المركزي، لإعادة هيكلة القاهرة، من خلال إعادة ترميم عمرانية ومجالية وجمالية وبيئية. وهذه خطوة مهمة، قد تفرز نخبة محلية شابة جديدة هناك. هنا، فإن مشروع "تأهيل القاهرة الخديوية"، كمثال فقط، واعد في هذا الباب. وأهميته آتية، من أن القاهرة لا معنى لها، بدون أصلها الهندسي، الذي هو بالتحديد "الخريطة الخديوية" التي منحتها لأول مرة معنى للمدنية بمعناها الحديث، في كل العالم العربي والإسلامي، خاصة على عهد الخديوي اسماعيل، في النصف الثاني من القرن 19. ففي تلك القاهرة الخديوية، التي حاولت تتبع أثر العائلات التجارية المغربية، بحي الغورية، من خلال قصة وكالات تجارية ناجحة بها، احتكرت تجارة النسيج والحرير والبن، وأنها ربطت الصلة لعقود بين حاجة المغرب للسكر في القرن 19، وحاجة مصر لتوابل مغربية ومنتوجات فلاحية مغربية (خاصة القطاني)، كما تؤكد ذلك وثائق رسمية إنجليزية. أقول ففي تلك القاهرة الخديوية، تكتشف معنى خريطة القاهرة كمدينة، في جغرافيات موزعة على ضفتي النيل، ومرتفعة قليلا عنه، احتياطا من فيضانات النيل السنوية الجارفة. حيث تكتشف أن حي القلعة مثلا، وحي الغورية وكل قاهرة المعز الفاطمية، هي أماكن تم استحضار سرير النيل وفيضاناته. مثلما أن هندسة أحياء شبرا والجمالية وخان الخليلي، ووضع هندسة مضبوطة لفكرة الشوارع الجديدة وملتقيات الطرق والمداراة بها، ووضع شبكة إنارة عمومية، قد شكل واحدا من عناوين إعادة تحديث القاهرة، زمن الخديوي اسماعيل، ثم بناء دار الأوبرا ودور التجارة الحديثة والمسارح وبناء جسور جديدة أشهرها جسر قصر النيل الضخم، وجسر آخر لم يعد موجودا اليوم، هو جسر أبو العلا، الذي أنجزه المهندس الفرنسي غوستاف إيفل، صاحب تمثال الحرية بنيويورك وصاحب برج إيفل بباريس.

اليوم، هناك محاولة لإعادة تنظيم شمولية للقاهرة، من خلال إعادة إصلاح كل عناوين مدنيتها القديمة، وإخراجها من تحت غبار التلف والنسيان، وفك أسباب الاكتظاظ عن وسط المدينة المختنق بكل أسباب التلوث (البيئي، العمراني، الجمالي). وأن ذلك يتم من خلال محاولة تحرير وسط البلد من كل المؤسسات الإدارية التي تجعل ملايين القاهريين، يضطرون للنزول إلى قلب المدينة لقضاء أغراضهم الإدارية، بدليل المشروع الذي تأجل أكثر من مرة، لإزالة مجمع التحرير، كمثال فقط، ونقله إلى أطرف العاصمة الجديدة. على أن أكبر الملفات التدبيرية العمرانية التي تتحدى مسؤولي المدينة، هي الشساعات الممتدة للأحياء العشوائية، التي تعتبر عنوان أزمة مركبة هناك، تتطلب ما يشبه مشروع مارشال خاص ومستقل، وتتطلب رؤية إرادية شجاعة، مثل تلك التي حكمت رجالات زمن الخديوي إسماعيل. ففي أحياء أمبابة وشبرا والمقطم والجيزة، تكمن أكبر أعطاب القاهرة وأخطرها.

- عند قبر جمال عبد الناصر

حين قررت زيارة قبر الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي لا يزال يشغل الدنيا والناس، هناك  ببر مصر، كانت تحضر في ذهني، مقالة شهيرة للراحل المغربي الكبير، الصحفي محمد باهي حرمة ولد بابانا (محمد حسنين هيكل المغربي). مقالة ابتدأها بمشهد لجنازة ذلك الزعيم المصري والعربي والإفريقي، حيث قدم تفاصيل عن سيدة مصرية، كانت تولول في قلب جموع الملايين التي خرجت لتوديع عبد الناصر سنة 1970، وهي تصيح بما يشبه النشيج: "بعدك يا عود الفل/ ياما حانشوف الذل". وأمام المسارات التي انتهى إليها العرب والمسلمون، حيث إنهم يعيشون اليوم واحدة من أصعب وأعقد وأخطر لحظات وجودهم في التاريخ، عنوانها الأبرز أنهم في قاع القاع، هوانا على النفس، وقيمة أمام العالمين، وعدم قدرة على الإنتاج القيمي والمادي المؤثر، ضمن حسابات عالم القرن 21. أمام تلك المسارات، ساءل الخاطر بعضه، إن لم تكن ولولة تلك السيدة المصرية، نبوءة صادقة قد تحققت اليوم؟.

كنت أكاد أقول لصديقي المصري، الزميل والناقد، مصطفى الكيلاني، إبن نخوة السويس، الذي حرص بأخوة سامية منه، أن يأخذني في سيارته لزيارة قبر جمال عبد الناصر، ما تقوله الأغنية الشهيرة لناس الغيوان:

"وَاشْ احْنَــا هُمَــا احْنــَا أَقـْلْبـِــــي وْلاَ مُحــَـــالْ

وَاشْ الدّنْيـَــــا هَكْـــــذَا أقلبـِـــــي وْلاَ مُحـَـــــالْ

مَا نْويتْ الزّمَانْ يْغـْـــدْرْ وْيْتْبْــــــدّلْ الحـَـــــــالْ

مَا انْويتْ الناس أ تْبِيــعْ عـْـــــــزّهَا بِالمَـــــــالْ

يَا نْوَاحْ الّطيرْ فْ السّمَا لله شْكُــونْ قـُـولْ لـِـــي

يْجـِـي رْسُـــولْ للخَلْــقْ وْيْجِيــــــبْ السِّلْـــــــمْ

تـْـرْجْعْ لْمْيَــاهْ للمَجْـرَى لله شْكُـــونْ قـُولْ لِــــي

يِقـَــادْ لَشْيَـــاءْ للحـُـــبْ وْيْـــــــزُولْ الغـْـــــــمْ

وَاشْ احْنـَا هُمـَـا احْنـَــا أقلبـِــــــي وَلاَ مُحــَــالْ".

إن ما أثارني مؤخرا، هو أنه تمة استعادة أخرى، هناك، في الخطاب والتحاليل والتعاليق، لرمزية جمال عبد الناصر، مثالا للقائد نظيف اليد، الوطني المخلص، الزعيم الجريئ. وعلى عكس زيارات سابقة في التسعينات وبداية الألفية، انتبهت أن صور عبد الناصر، أصبحت أكثر حضورا في الكثير من المحلات التجارية بخان الخليلي، بالسيدة زينب، بسيارات الأجرة، أو مرسومة على الحيطان بوسط القاهرة. ما يجعل السؤال يكبر: لم هذه الإستعادة الشعبية بمصر لرمزية الزعيم جمال عبد الناصر؟. أليس ذلك فرصة لإعادة قراءة مرحلة الناصرية، من موقع النقد، وليس فقط من موقع التقديس؟.

إذ واضح، أن استعادة مرحلة الناصرية (كأمل ورجاء) عند المصري، تستوجب في مكان ما، نقدا ذاتيا لتلك المرحلة، حتى تتم استعادة قيمها الوطنية، وقيم النزاهة التي ميزت قائدها، وأيضا عدم تكرار أخطائها. ولعل أهم تلك الأخطاء، السكن أحيانا في الشعار أكثر من الواقع، خاصة في العلاقة مع محيطها الجيو سياسي والجيو استراتيجي. وأيضا تعلم الدرس الأكبر، من أن ما يعتبر الإسمنت الصلب لحماية المشاريع التاريخية للشعوب والأمم، في التقدم والنماء والاستمرارية، هو بناء دولة المؤسسات، لا دولة الزعيم. ونموذج القائد جمال عبد الناصر (الذي يستحق فعلا صفة الزعيم)، يقدم لنا أكبر الأدلة على ذلك. لأننا نجد أنفسنا، أمام رئيس دولة من حجم وقيمة مصر، التي ثروتها الأكبر كامنة في طاقاتها البشرية، وفي ما راكمه أبناؤها في درب التحول المديني منذ أواسط القرن 19، كان مسؤولا سياسيا وطنيا، راكم مصداقية شعبية وسياسية راسخة، وأنه قاد أبناء بلده، ليكونوا ورقة وازنة في العالم (زمن الحرب الباردة)، لكنه حين غادر دنيا الأحياء، مثل كل بشري، انهار البناء كله، كما لو أنه لم يكن هناك زعيم اسمه جمال عبد الناصر.

إن السبب (وهنا معنى الدرس الذي يجب أن يتعلمه الجميع من ذلك)، كامن في أن النظام السياسي للناصرية، لم يقعد لدولة المؤسسات الديمقراطية، تلك التي تجعل المشروع يتواصل، حتى لو غادر قادته ساحة الفعل، سواء بالاستقالة أو التقاعد أو الموت. وهذا هو أكبر الدروس التي مفروض أن نتعلمها جميعا في جغرافياتنا العربية، من التجربة الناصرية.

وأنا أقف عند قبره رحمه الله، رفقة صديقي المصري مصطفى الكيلاني، والصديق السوري عامر حامد إبراهيم (من مؤسسة السينما السورية)، نقرأ الفاتحة على روحه وعلى روح زوجته الراقدة في قبر بسيط جواره، السيدة تحية كاظم، انتبهت إلى مكر القدر، كيف أن الرجل يرقد رقدته الأخيرة، في قلب مسجد يحمل اسمه "مسجد جمال عبد الناصر"، بحي حدائق القبة. وأن قبره يقع على القبلة، مما يجعل المصلين يصلون، عمليا، عليه خمس مرات في اليوم، مع كل نداء للصلوات الخمس من الفجر حتى العشاء. وهو قبر بسيط، كتبت في مقدمته عبارة "جمال عبد الناصر" مع تاريخ الميلاد وتاريخ الوفاة، الذي يجعلك تكتشف أن الرجل عاش 52 سنة فقط. وعلى جوانب القبر تقرأ آيات سور "الناس والفلق والصمد". لقد سكن الرجل سكينة الأبد، في طقس تعبدي صوفي. وواضح أن السماء تحسن خاتمة أبناء الحياة الصادقين الطيبين.

- جمهورية الأهلي

شاءت الصدفة، وأنا أزور القاهرة، لحضور فعاليات الدورة 39 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، أن أتابع حمى انتخاب الرئيس الجديد لنادي الأهلي الشهير، بمقره الرئيسي قرب دار الأوبرا، وعند منعطف حدائق الجزيرة. كان طموحي، المهني، أن أبحث عن اللاعب المغربي، الذي يشغل الناس هناك وكل وسائل الإعلام (ولو من باب النقد المتحامل عليه كثيرا)، وليد آزارو، لأن سيرته الرياضية تقدم مادة مغرية بالكتابة، منذ جاء من غبار ملاعب سوس الفقيرة، إلى فريق الدفاع الحسني الجديدي ومنه مباشرة إلى أكبر أندية إفريقيا، نادي الأهلي المصري. لكن، ظروف الانتخابات الحامية الوطيس لاختيار رئيس جديد لذلك النادي الرياضي العريق، لم تيسر لي الأمر.

أكثر، من ذلك، مثلما يحدث دوما في مجالنا الصحفي، حيث يحدث، لكل بحار في يم المحيطات، يرمي شباكه على نية اصطياد سمك الطونة، فيطلع له من حيث لا يحتسب سمك القرش، فإن مشروع تتبع وليد آزارو، قد غطاه الصخب المثير الذي صاحب انتخاب رئيس الأهلي الجديد ومكتبه المساعد. إذ الأمر، جعلني أقف عند معطى سوسيولوجي لا نظائر له في كل بلادنا العربية، يتمثل في تحول ناد رياضي لكرة القدم، إلى مشتل للتربية على اللعبة الديمقراطية واللعبة الانتخابية، بكل ما تستوجبه من طقوس تنافسية، من خطاطة خطابية، من تنافس برامجي، من لوائح مرشحين، ومن مشاريع محددة للمستقبل.

كانت ليلة الخميس 30 نونبر 2017، ليلة انتخابية وطنية في بر مصر، شدت أنفاس الناس هناك من أقصى البلاد إلى أقصاها. وكنت وأنا أقف لأكثر من 3 ساعات عند باب نادي الأهلي، غارقا في بحر من المواطنين المصريين بالآلاف، من مختلف الأعمار، من أطفال السبع سنوات حتى شيب السبعين سنة، نساء ورجالا، أتأمل ذلك الامتحان الديمقراطي (أشرفت عليه هيئة من القضاة المصريين المستقلين)، وكيف أنه يتم من خلال الرياضة تربية الناس على معنى التنافس الانتخابي الحر بين لائحتين كبيرتين. واحدة يقودها الفريق القديم برئاسة محمود طاهر (مهندس) والفريق الجديد برئاسة نجم الكرة المصرية محمود الخطيب. مثلما أن تلك الانتخابات قد جعلت الواحد منا، يتتبع قيمة النقاشات العالية والرصينة، عبر مختلف القنوات التلفزية والمحطات الإذاعية المصرية، التي صدر عنها كلا المرشحان (مع ما لأي عملية انتخابات عمومية من توابل تسريبات واستفزازات في حدود المعقول المحترم). كل ذلك يجعلك تكتشف كيف أن لاعبا من قيمة محمود الخطيب، مثلا، ليس مجرد لاعب كرة، بل إنه فاعل مدني، على مستوى عال من الخطابة والرصانة والهدوء والإقناع، وأيضا من الأخلاق السامية. هنا فالرجل يقدم مثالا رفيعا لأجيال كاملة من أهل مصر، وأنهم إذ يتقمصون شخصيته وسلوكه، ترتقي القيم التربوية العمومية بينهم.

لقد وجدتني، أنساق لا إراديا، بفضول الصحفي، في حرارة ذلك التنافس الانتخابي، كما لو أنها انتخابات حاسمة لمصير بلد بكامله، حتى وهي مجرد امتحان ديمقراطي لاختيار قيادة ناد رياضي. وحين وجدتني أمام أرقام خيالية لتصويت أكثر من 45 ألف منخرط، من السابعة صباحا حتى السابعة مساء، في جو مسؤول رفيع، قلت مع نفسي إنها "جمهورية الأهلي"، وليست مجرد فرقة كرة قدم. حيث النادي مدرسة تربوية سلوكية، تفرح عاليا، حين تجد أنه مؤسسة ناجحة، لها ناد ممتد على عشرات الهكتارات، به ملاعب رياضية لمختلف الرياضات من سباحة وتنس وعدو وكمال أجسام والرياضات الحربية، به قاعات مطالعة ومكتبات ومطاعم. فيأتيك النداء المنبه من بعيد، إن ذلك من حسنات إرث المرحلة الناصرية، حيث النادي يصبح مؤسسة اجتماعية يحقق التلاقي بين مختلف شرائح المجتمع، من مختلف المستويات الاجتماعية. وأن الانتماء إلى معنى الوطن، يتم من خلال سقف عائلة رمزية، هي هنا ناد رياضي، يعتبر مشتلا للتربية على قيم سلوكية عمومية، وعلى قيم التعايش وأيضا على قيم المحاسبة. ولأنه كان لابد لي من المقارنة، من باب الفضول بين "جمهورية الأهلي" و "جمهورية الزمالك"، كان لابد أن أزور أيضا مقر نادي الزمالك، هناك حيث وجدت عالما آخر مستقلا، ضخما ممتدا على هكتارات عدة، بمرافق خدمات وعمومية، لا تقل قيمة عن ما يوفره نادي الأهلي. ما يجعلك تقتنع، أن الرياضة في بر مصر، أداة تربوية فعلا، وليست مجرد حسابات سماسرة فرق كما يحدث في الكثير من جغرافياتنا الرياضية المغربية للأسف.