الثلاثاء 23 إبريل 2024
كتاب الرأي

حسن برما: ضربة عين ذكية في "ضربة في الرأس" لهشام العسري

حسن برما: ضربة عين ذكية في "ضربة في الرأس" لهشام العسري حسن برما

يمكن للسينما المغربية المراهنة على المخرج المشاغب هشام ألعسري لاعتبارات كثيرة من بينها، أنه لم يأت لهذا المجال صدفة وسنطيحة، بل بحمولة ثقافية محترمة ورؤية فنية تستند على مرجعيات سمحت له بتقديم إنتاجات منحازة أساسا لجنون الإبداع والشهادة.. ودعامة هذا الحكم هي أني تابعت الكثير من أعماله السينمائية وكبسولاته المتمردة على السائد الرتيب، وأيقنت بأن هذا الولد الجميل يملك عين مبدع تحترم فنه وجمهوره المفروض فيه أنه يمتلك وعيا حادا وذكاء يسمح له بتأويل المنجز السينمائي وقراءته بعين تتفاعل مع الصورة وتوابعها عوض الاستهلاك الغبي الكسول .

تتحرك أحداث الفيلم فوق قنطرة غريبة الشكل لا نعرف لها بداية ولا نهاية، تنتقل إلى محيط سكني يصنف ضمن خانة المدن السفلى وفضاء الكاريانات والبناء العشوائي، والزمن السردي موزع بين شخوص ووقائع تحلينا على حقبة ثمانينات القرن الماضي، وما اصطلح على تسميته بسنوات الجمر والرصاص.. مباشرة بعد تلقي الشرطي لأوامر الالتحاق بالجسر والمرابطة هناك لتأمين مرور الموكب الملكي، تظهر شخصيات تجسد المعاناة الوجودية لنماذج بشرية مقهورة في عالم سريالي التمظهرات والأحاسيس، فوق الجسر يحضر الشرطي ومقدم الدوار ومردة والعاهرة والطفل المتسكع وصاحب الحصان، وبمتاهات الدوار البئيسة تعيش الأسر الفقيرة موتها البطيء وتلوك أحزانها الدفينة والمعلومة، وفي جرح الحكاية تداعيات أحداث احتجاجات صيف 1981 وما تلاها من اعتقالات واغتيالات ودفن سري ورعب جماعي مرصود .

فوق الجسر/ الرمز، وبمحيطه المترب، تتقاطع حيوات كائنات بشرية تعيش الانتظار المأساوي بمرارات مفجعة، مصائر متناسخة تحيا عيشة التخلف والقهر والحرمان، تتوحد جميعها في كونها تعاني من تبعات القمع ورعب ما بعد احتجاجات 1981، وأهمها :

ــ الشرطي البئيس (عزيز حطاب) منفذ التعليمات الفوقية .

ــ مقدم دوار كوكا (بنعيسى الجراري) عين السلطة التي لا تنام والمنفذ بغباء لكل الأوامر.

ــ الأمازيغية (لطيفة أحرار) زوجة الغائب المعتقل إثر المظاهرات الدامية .

ــ رجل القوات المساعدة/ مردة (عادل أبا تراب) العازب المتسلط الذي سيصاب بكسر في قدمه اليمنى .

عبر سيناريو محبوك بإتقان، تقدم لنا حكاية الضربة يوميات فئة اجتماعية يحكمها الفقر المعرفي والعجز المادي مع ما يستتبع ذلك من طفولة مشردة وبؤس وعطالة، فيما تتكرر لقطة "حولاء" عن تسجيل اللاعب خيري لأهدافه الخرافية بالمكسيك 1986 وصراخ المذيع المبحوح.

هي إذن واقعية عجائبية رمزية تصيب فاقدي الذوق الفني وثقافة الصورة بالدوار وعسر الفهم ، فالشريط لا ينتمي إلى تلك الإنتاجات التي تخدر الحواس وتجلب النوم، وهو ما يعني أن جمهور "ضربة في الرأس" يشترط فيه الذكاء وحسن التقاط مكونات الصورة وفك شفرتها والتأمل في حمولتها الدلالية.

وتأسيسا على ما سبق، كل لحظات ولقطات الفيلم دالة ومعبرة وتحتاج إلى قراءات مستفيضة للوقوف على عمق وجمالية الفيلم برمته، خصوصا وأن هشام قد نجح في اختيار ممثلين وممثلات جسدوا أدوارهم بحرفية عالية وتفاعل ملموس بدا عاشقا وفيا ومتفهما لكتابة المخرج السينمائية.

شخصيا، لم يفاجئني ما أنجزه هشام العسري فنيا وجماليا، بل بدا لي أن المخرج ظل وفيا لرؤيته المشاغبة والمستفزة لتقديم صورة دالة عن واقع موبوء وحالات اجتماعية تعيش بفعل سياسات متوحشة على هامش الزمن المعاصر، تقنيا، الكاميرا عنده وفي الكثير من الأحيان متوترة قلقة فاضحة جريئة، هي ليست آلة مادية تتعامل بحياد مع الممثل والفضاء والحوار، بل هي كائن حي يتحرك ويرصد ويطارد ويلهث وراء منح المشاهد تحفيزا فنيا للغوص في عمق اللقطة وتأويل دلالاتها المفتوحة على احتمالات لا متناهية .

طبعا، بعد خروج "ضربة في الرأس" لصالات العرض، أتوقع اختلافات مفترضة فيما يخص استقباله.. معجبون مناصرون له قد يرون فيه تحفة سينمائية جريئة في تناول موضوع حساس مس فترة حرجة من تاريخ المغرب المعاصر وقت سنوات الرصاص، حيث كان المخزن مجسدا في شرطة وقوات مساعدة ومقدمين يفعلون ما يشاؤون بالمواطنين، ومعارضون غاضبون قد يرفضون الفيلم لأنه يعري ويكشف ويفضح واقع بلد يروجون عنه أنه أجمل بلد في العالم، ومن منطلق مواطنة زائفة وفهم مغلوط لطبيعة العمل الفني قد يحاربونه لأنه لم يدخل في طابور الانصياع والخنوع وينضم لجوقات المهللين ومفترسي الريع المخزني المعلوم  .

للمقارنة غير المفيدة سينمائيا، أحد الجبناء فنيا تخصص في استنزاف خزائن الدعم السينمائي وتقيؤ حقده الطبقي على الفقراء والمهمشين، يقدمهم بصورة فيها الكثير من الشماتة والتشفي والإدانة، يتاجر في أفلامه بأمراض اجتماعية تنخر جسد المنسيين والمنبوذين، ولأنه من قبيلة الذئاب، لم يجرؤ يوما ما على محاكمة المفترسين وأغنياء الأزمات .

وآخرون حملوا الكاميرا على الكتف وقبل ذلك لم يكلفوا أنفسهم عناء الإجابة عن أسئلة الخلق الفني البديهية: ماذا أقدم ولماذا وكيف ولمن؟ حالات سينمائية دخلت مجال الشاشة الفضية معتقدة أنه سهل المنال، حيث اكتفت بكتابة نصوص حكائية ساذجة وحملت الكاميرا بكسل معرفي ملموس وبنوايا مصوري الأعراس والحفلات الشعبية وهواجس مرتزقة الإعلانات السياحية التي تتوخي الإبهار وتخدير المتفرج بسحر الطبيعة وخواء المضمون .

صادفت أحدهم من صحافة زيرو ثقافة وتخصيص أنصاف الصفحات لحسناوات عاريات الصدور والأفخاذ، عانقني وسألته عن رأيه في الفيلم رغم أني أعلم مواقفه ومستوى ثقافته، قال لي لم يعجبني الفيلم، لم أندهش ولم أستغرب، لكني تذكرت ما كان يكتبه عن أفلام السَّنَاطِحَة الأميين وإعجابه الساذج بالكثير من التفاهات، ووجدت له مائة عذرا، على رأسها استعداده الخرافي للتطبيل بكل ما يخدم أهداف المخزن البليدة وإدمانه على معاداة كل عمل فني يفضح الجرح الكبير لوطن انتظر طويلا كي يخرج من ربقة زنازين سنوات الرصاص .

وخلاصة القول، فيلم "ضربة في الرأس" شريط جميل برؤيته العميقة وممتع بسخريته السوداء المرة ومثير للأمل بإصرار هشام العسري على التغريد خارج سرب المتطفلين وأغبياء الشاشة الفضية وجوقات المهادنين الكذابين الذين يقدمون المغرب في "كارط بوسطالات" بليدة تحتقر ذكاء المتفرج.. لكل هذا وغيره ضربة في الرأس عمل جاد يستحق المشاهدة.