الجمعة 26 إبريل 2024
كتاب الرأي

عبدالالاه حبيبي: أثر اضمحلال مفهوم السلطة كبنية نفسية في ظهور الجنوح عند اليافعين والمراهقين...

عبدالالاه حبيبي: أثر اضمحلال مفهوم السلطة كبنية نفسية في ظهور الجنوح عند اليافعين والمراهقين... عبدالالاه حبيبي
صادم مشهد المربين وهم يتلقون اعتداءات جسدية من لدن بعض التلاميذ المنحرفين أو الغاضبين على شيء يعتبرونه حقا من حقوقهم المكتسبة.
إن الأمر  يستفحل ويزيد اضطرادا خاصة مع دور وسائل الإعلام التكنولوجية التي تنشر مثل هذه الأحداث وتعززها باستجوابات وردود من جهة الضحايا وأسر المعتدين، وفي هذا المستوى يتساوى المجرم بالضحية وكأن الأمر يتعلق بتبادل آراء حول شرعية أو عدم شرعية العنف الممارس في حق المربين.
كل مقاربة تلتمس الأسباب لهذه الظاهرة لا ينبغي لها أن تضع المجرمين في نفس الخانة مع الضحايا وإلا سنعيد إنتاج الموجهات التي تحكم خلفيات وأجندات الذين يروجون إعلاميا لهذه المعادلة الخبيثة المرامي والأهداف.
الملاحظة المباشرة لواقع المدرسة والأجواء التي تقع فيها أحداث العنف هي المجال الذي ينبغي حصره نظريا، وتأمله بغية استخلاص بعض الفرضيات الأولية التي بإمكانها إنتاج مقاربات دقيقة، قد تفيد في اقتراح وسائل ناجعة للحد من استفحال الظاهرة ومحاصرتها من جهة العناصر التي تغذيها، وتقدم لها الدعم النفسي والمبررات الاجتماعية لتصبح حقا يراد به باطل.
في هذا الصدد نقترح مفهوما مركزيا في الدراسات السيكولوجية  له وجاهة علمية في الكشف عن بعض ملامح الجنوح الذي يعتبر العنف المادي ضد رموز السلطة التربوية إحدى أشكاله المتعددة. يقصد بهذا المفهوم الإدراك الأولي لدلالة الممنوع والمحذور الذي ينبغي عدم إتيانه بشكل تلقائي ودون حاجة لبرهان أو دليل للاقتناع بأنه فعل مدان أصلا، ومرفوض بشكل قبلي في سياق كل أنواع التنشئات الاجتماعية التي يتعرض الاطفال وهم في رعاية أسرهم.
هو مفهوم بلغة العلم ، لكنه بنية نفسية يتم بناؤها خلال مراحل تربية الطفل على القيم والأخلاق التي تؤطر المجتمع الذي سيصبح جزء منه وفردا فاعلا فيه ومتفاعلا معه. مفهوم السلطة يعني أن هناك حواجز و حدود تقوم عليها التربية التي هي في اساسها محاولات متعددة لتدريب الطفل على الاستئناس بالممنوع والمحرم، أي أن التربية هي في عمقها مجموعة إجراءات خطابية وسلوكية  نروم منها وضع حدود للغرائز البدائية والميولات البهيمية التي تشكل جزء من لاوعينا العميق.
السلطة هي تلك اللحظة التي نتدخل فيها لمنع الطفل من العبث بمقتنيات البيت الثمينة، ونخبره بأنها هنا للزينة أو لمساعدتنا على تنظيم الحياة داخل البيت، وليست موضوعة رهن إشارته لكسرها أو تفكيكها والتخلص منها كما يفعل بلعبه. نفس الأمر يحصل عندما نمنعه بصرامة من ضرب أمه عندما لا تستجيب فورا لطلباته، أو تعنيف أخته عندما لا تحضر بسرعة لكي تشاركه لعبه.
السلطة لا تعني الغلظة على الطفل و القسوة  في مواجهة اندفاعاته البدائية، بل هي ضرورة تربوية لمساعدته على فهم العالم المحيط به، أي على إدراك أن البيت هو مجال مشترك، تنظمه قيم مشتركة، تسهر عليه رعاية الوالدين أو الذين يتكلفون بتربيته وتعليمه.
في المنظور الاجتماعي، وبارتباط مع واقعنا ينتظر من الأب أن يكون هو ذلك الشخص الذي ينهض بهذه المهمة، أي هو المؤهل لتمثيل القانون داخل البيت، والسهر على النظام واحترام القواعد العامة للسلوك، وكلما كان الأمر كذلك استطاع الطفل تدريجيا تمثل هذه السلطة واستدخالها لتصبح جزء من كيانه النفسي، أي عندما يتقدم في السن سيدرك بشكل لاشعوري أن الحصول على رغبة لا يعني إيذاء الآخرين، لهذا ستتحرك هذه البينة النفسية وتقوم بمنعه وتحويل غضبه نحو القبول بالتراجع والتفكير في وسائل أخرى مقبولة اجتماعيا في سياق تحقيق الرغبات والمطالب.
من هنا يمكن فهم أن الأطفال المدللين غالبا يكونون ضحايا عدم مرورهم من هذا المسار النفسي الذي يؤهلهم ليفهموا في بداية عمرهم أن الأهداف لا تتحقق بمجرد ظهورها كرغبة، بل ينبغي التعود على الانتظار والتأجيل والصبر واحترام القواعد والمساطر والشكليات التي تنظم طريقة تحقيق الرغبات، وتحصيل الحقوق. لهذا لا ينبغي أن نفاجأ عندما نرى شابا متهورا مدللا يدوس شرطيا أو يشتم مسؤولا،  أو يحتقر علامات التشوير، لأنه ببساطة لا يتوفر على مفهوم السلطة في وجدانه، لقد تعود فقط على أن يستجاب فورا لمطالبه، وقضاء حاجياته، وإلا سيكسر ويصرخ، وكأن العالم حوله هو مجرد وسيلة لتحقيق أنانيته.
يحصل نفس الأمر مع الطفل المحروم من والده، أومن يمثله داخل البيت، حيث أن الأسر المعوزة تعاني من غياب أحد الوالدين لضرورة من ضرورات الحياة، لهذا يقل حضور السلطة في البيت، وتضعف مراقبة الرغبات والميولات التدميرية التي ترتبط بالرغبات الملحة، ويصبح الطفل في هذه الحالة محموما باستمرار، قابلا للاشتعال عندما يواجه سلطة ما حتى ولو كانت رمزية مثل سلطة المربين داخل المدرسة. لهذا فكل الاجراءات التي نتخذها ضده سيعتبرها ظلما في حقه، لأن الحدود بين المقبول وغير المقبول بين الممكن وغير الممكن، بين الممنوع والمباح لم تتهيكل بما يكفي  في وجدانه في سياق تنشئته داخل أسرته المهتزة بدورها جراء ضغط الحياة والجهل بمبادئ التربية السليمة والتوجيه الأخلاقي القويم.
الحل المقترح هو تأهيل الأسر التي تنتشر فيها ظاهرة الامبالاة بمعاني التربية ورهاناتها، والعمل معها لترسيخ هذه الآليات في صلب اهتماماتها مثلها مثل الخبز والماء والهواء، لأن النظام هو أساس المجتمع السلمي والمنتج والقادر على التفكير، حتى الفقر ليس عائقا  أمام تعلم تقدير القوانين واحترام الشرائع، والعمل وفق القيم التي تسمح لنا بالتواصل مع الآخرين والعيش معهم في سلام.
لكن لا يعني هذا أننا نؤسس لإنسان طيع، مستسلم، تابع، سلبي، بل من الضروري أولا أن نتعلم احترام القوانين حتى ولو كانت خاطئة أو ظالمة، لنتعلم فيما بعد كيف نغيرها ونرتقي بها، كما قال سقراط الذي حكم عليه ظلما بالموت، حيث لما جاءت لحظة التنفيذ كان أصدقاؤه قد دبروا له فرصة للهروب، لكنه رفض، مبررا رفضه بأنه سيتهم فعلا بتعليم الشباب عصيان القوانين، وقال أفضل الموت بقانون ظالم على خرقه بدعوة تجنب الموت والعودة لحياة بئيسة....