الثلاثاء 24 سبتمبر 2024
مجتمع

رشيد لبكر:لقد آن الأوان لتحويل العمل الإحساني إلى عمل مؤسساتي له قواعده القانونية

رشيد لبكر:لقد آن الأوان لتحويل العمل الإحساني إلى عمل مؤسساتي له قواعده القانونية

"إلى أين تقف حدود الإحسان ومبادرات المحسنين ؟ وكيف هو حال مؤسسة الإحسان في المغرب؟  وهل يمكن أن تنحصر المبادرات الإحسانية على الجانب  التعبدي ذي المرجعية الدينية  فتقتصر على  بناء المساجد فحسب ؟و كيف يفسر التهافت على هذا النوع من الإحسان؟ أسئلة تطرح اليوم إذا نظرنا إلى  المفهوم الواسع للإحسان بحمولته الاجتماعية والتي  تجعل قاعدة إنفاق ذوي الفضل والسعة شاملة أيضا لجوانب أخرى تهم السلوك والمعاملات؛ وتتعلق أساسا بالعمل على  دعم شرائح هشة ومحرومة  من المجتمع تعيش  في وضعية وظروف صعبة  و عاجزة عن توفير متطلبات الحياة من صحة وتعليم وسكن وشغل الخ ، "أنفاس بريس"، اتصلت  بالدكتور رشيد لبكر أستاذ القانون العام بكلية الحقوق بسلا وأدلى بقراءة في الموضوع  ضمن الورقة التالية  :

فعلا هو سؤال مهم،  ومن الواجب طرحه بالنظر إلى وضعية الفقر الكارثية التي يكتوي بنارها العديد من  أبناء هذا الوطن...فإذا كان من الواجب إشاعة روح التضامن من أجل تقديم يد العون لإسعاف هذه الشرائح الواسعة من المجتمع، فالسؤال  الذي يجب طرحه مرتبط بمنهجية الإحسان ذاته وبطرائقه المتبعة في بلادنا، حتى لا يتحول الفعل الإحساني، من هدفه النبيل إلى مجرد هدر مالي في إطار ما يمكن تسمتيه بـ " البذخ" الإحساني، وهذا هو الحاصل الآن،  في أغلب الحالات، مع كامل الأسف...

أعتقد أن لهذا الموضوع صلة كبيرة بأنماط الثقافة المجتمعية السائدة والملتبسة كثيرا بنظرتنا إلى الدين وإلى التدين، فالعبادة في نظري، غير مقترنة بالفروض النسكية وبالشعائر العقدية فقط ، بل لها  ارتباط أكبر بالجانب المعاملاتي، إذ " الدين المعاملة"،  كما أن نصوصنا التراثية، تحفل بالعديد من النتف  الرائعة، الذي تعكس هذا الواجه الساطع للدين، ضدا على الدين يحاولون طمس معالمه البراقة في كليشيهات تعبدية ضيقية، بسبب فهمهم الضيق أو الخاطئ لتعاليم الشريعة الغراء (مع افتراضنا المبدئي لحسن النية لدى  الأغلبية من "المحسنين").

 وعليه، لكي نصحح هذه الثقافة الاختزالية للدين، لا بد لبنيات التنشئة الاجتماعية في شقها الديني، أقصد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والهيئات التابعة لها، من النهوض بمسؤولياتها التوعوية في هذا الجانب، حتى لا يتحول هذا الإحسان إلى نوع من الريع، يبذله  ذوي النيات الحسنة بدافع التقرب إلى الله، لكن  البعض الآخر يتلقفه كغنيمة تحرره من  مسؤولياته المقررة قانونا في بناء المساجد والسهر على رعايتها.

 لعلنا نجد في  تراثنا الديني، دلائل كثيرة تعكس الحس الإنساني المذهل و النفحة الروحانية العميقة للدين في نظرته إلى الإنسان، مقدما عن أي شيء أو مادة أخرى أيا كان شكلها،  أ ولم يرد في تراثنا  خبر عن رجل دخل الجنة بسبب إرواءه لكلب أهلكه العطش؟، فإذا كان دين كهذا، يقدس المخلوق ويرفع من قدر كل ذي روح، فالأولى التأسي بهديه والتشبع من نبعه في تكريم أنفس مخلوق و أعلاه قدر وهو الإنسان. أوليس أحب الناس إلى الله أنفعهم للخلق كما ورد في الحديث، وأن من مقاصد شريعتنا الكبرى جلب المنفعة ودرء المفسدة..

  فما معنى منفعة الناس إذن؟ و أين تتجلى مصلحة الوطن اليوم؟ هل في  بناء المساجد و الإسراف في تنميقها و"تزويقها"، أم إغاثة مواطنيه،  ممن هم الآن في أمس الحاجة إلى  مساعدات  ترفع عنهم  النقمة وتزيح عن حالهم  غمة الفقر والخصاص... لا سيما وأن هناك وزارة رسمية في البلاد، تخصص لها اعتمادات من ميزانية الدولة و ترصد لحسابها مداخيل حبسية لا  حصر لها، هي المعهود إليها رسميا التكفل ببناء أماكن التعبد وتجهيزها ورعايتها....

  مواطنو مغرب اليوم، في حاجة ماسة إلى  محسنين يساعدون في مجالات متعددة على غاية من الأهمية،  لارتباطها بواقع حال الإنسان وبمعيشه وبجودة حياته،  هذا الإنسان، هو الآن في أمس الحاجة إلى مراكز استشفائية وتعليمية في المجال المعدود غير  نافع، حيث ما زال أقصى ما يتمناه الفرد فيه، حزمة حطب تقيه لسعة برد قارص، حاجة البلاد إلى مساكن في المستوى تحفظ للمواطن كرامته، إلى طرق  ومسالك  لفك العزلة عن مواقع عدة من ترابنا الوطني، إلى صناديق إحسانية لدعم تمدرس أبناء الفقراء عبر مختلف المستويات وفي كل الجهات، إلى جلب المياه الصالحة للشرب أو مد خطوط الكهرباء، إلى برامج مدرة للدخل و مثمنة لجهود المرأة في العالم القروى والحضري على السواء، إلى مراكز لإيواء العجزة والمشردين ومن لا سقف لهم، إلى وحدات لاستقبال المهاجرين وإدماجهم، إلى تمويل حملات تثقيفية وتكوينية  في شتى المجالات لتنوير العقول وتعقيمها ضد الانحرافات الفكرية والسلوكية والصحية و الدينية، إلى خزانات عمومية ومؤسسات وسائطية تساير العصر وتربطنا بركب الحضارة...

 ورد في القرآن الكريم، في الآية 60 من سورة التوبة، قول الشارع تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم" ، بتأملنا في هذه المعاني، نلاحظ أن الخالق عند تصنيفه لأوجه الصرف الإحساني، منح أسبقية الاستحقاق للإنسان، فقيرا كان أو مسكينا أو غارما أو عابر سبيل، ولم يخص البناء بشيء، إذ من فلسفة هذا الدين، أنه جعل الأرض كلها مسجدا لمن أراد العبادة... وعليه، فالأولى التشبع بمضمون هذه الرسالة، الرامية في عمقها إلى تكريم الإنسان،  وصون عرضه وكرامته وحقه في الحياة، وتلك،  في اعتقادي، هي الصدقة الجارية الحقيقية، فلا معنى،  وبدعوى الإحسان، إنفاق مال في بناء مسجد فخيم، جوار حي يفتقد أهله لأبسط شروط العيش الكريم، ولا معنى أيضا، لمن يضاعف  عدد حجاته لتصل إلى العشرات وفي بلده أشخاص لا يجدون ثمن حقنة تخفف عنه الأنين والوجع...

أشير أخيرا، أن المواد: 174 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات، و 189 من القانون التنظيمي رقم 111.14 المتعلق بالجهات، و 165 من القانون التنظيمي رقم 112.14 الخاص بالعمالات والأقاليم،  نصت على أن من موارد هذه الوحدات الترابية هناك أموال  المساعدات والهبات والوصايا،  لكن يبدو مع كامل الأسف، أن هذه النصوص لا يتكلم عليها أحد وأنها أضحت مجرد لازمة معتادة في التنصيص القانوني ولا أثر لها على أرض الواقع ( لأسباب يطول شرحها)، وأعتقد أن الوقت قد حان،  للانكباب على هذه النصوص وتفعيلها حقا، من خلال استصدار مقتضيات تشريعية أو جماعية لتنظيمها وتقنينها وحث المحسنين على المساهمة فيها وإقناعهم بجدواها، عن طريق إطلاق حملات تواصلية لتبيان المشاريع والبرامج الجماعاتية التي من الممكن أن ترص أموال الإحسان فيها، حتى لا تبقى هذا المبادرات التضامنية ارتجالية..  ولم لا؟، الوصول إلى مستوى مأسسة العمل الإحساني وتنظيمه وتأطيره، وفي هذا الصدد، آمل أن يحمل القانون المرتقب المتعلق بالعمل الجمعوي ( المغير لظهير 1958) مقتضيات جديدة مستوعبة لهذه الفكرة ومتفاعلة مع هذا المطلب المجتمعي، كما  أتمنى أن يدفع هذا القانون في اتجاه رفع الاحتكار  الذي تحظى به بعض الجمعيات المحظوظة  والمتعلق ب "صفة المنفعة العامة" المبيحة لمطلب "التماس الإحسان العمومي"،  عبر فتح هذه القناة التمويلية وتوسيع قاعدة الجمعيات المتحررة من هذا الحجر القانوني، بناء على ضوابط تشريعية واضحة وشفافة، تكون مؤطرة بمبدأ "  ربط المسؤولية بالمحاسبة"...شخصيا، أعرف العديد من الجمعيات الإحسانية، ولدوافع الانتماء والقبيلة،  قامت بمجهودات جبارة في عدد من القرى والبوادي النائية، وتمكنت بفضل تظافر جهود أبنائها وتعاون المسؤولين المحليين الواعين بالمبدأ التضامني، من فك العزلة عن عدد من الدوائر وتمتيعها بشبكات الربط وغيره، لكن عملها هذا، سيصنف من حيث المبدأ، وعلى الرغم من أهميته، خارجا عن القانون، بدعوى أنها لا تتوفر على صفة " المنفعة العامة" التي تخول لها حق " جمع المال"، فهل هذا يعقل؟ لا أعتقد طبعا، إذن فقد آن الأوان لتحويل العمل الإحساني إلى عمل مؤسساتي له قواعده ومرتكزات القانونية،  يحظى بثقة الجميع،  ويندمج في النسيج الاجتماعي للمساهمة في قضاء مصالح الناس الحيوية،  المكفولة باسم الدين ثم بالقانون وبواجب المواطنة.