"لا غالب ولا مغلوب": هذه المعادلة ليست إسقاطاً لبنانياً، إنما هي عنوان عريض لمقال في صحيفة "لوموند" الفرنسية الرصينة، يتناول فيه صاحبه، توماس وايدر، نتائج الانتخابات الإقليمية الفرنسية. وأولى كلماته هي، حرفياً: "اليمين ربح، ولكنه يخطئ إذا تبجّح. أما اليسار فأنقذ ماء وجهه، ولكن ليس هناك ما من شأنه أن يحسبه منتصراً. فيما اليمين المتطرف تلقّى ضربة، ولكن لم يكن يوما على هذه الدرجة من القوة".
ما حصل هو أنه منذ ثلاثة أسابيع، جرت انتخابات إقليمية في فرنسا. في دورتها الأولى، فاز حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف، بقيادة مارين لوبن، بغالبية الأقاليم. فدبّ الذعر وسط الحزبَين التقليديَين: اليميني واسمه "الجمهوريون"، بقيادة نيكولا ساركوزي، واليساري "الاشتراكي"، الحاكم، بقيادة فرنسوا هولاند. وأخذ الاثنان يحشدان جمهورهما للدورة الثانية، الذي لبّى حوالي تسعة بالمئة منه نداءهما. الحزب الاشتراكي اتخذ قراراً بالانسحاب من الأقاليم الضعيفة، مجيّراً أصواته لحزب "الجمهوريين"، مع عصيان قليل. أما حزب "الجمهوريين" فقرّر العكس: أصرّ على عدم الانسحاب، وشهد، أيضاً، عصياناً في قياداته. فكانت الدورة الثانية، ونتيجتها المتوخاة: لم يربح حزب "الجبهة الوطنية" المتطرف أياً من الأقاليم، فاز حزب "الجمهوريين" بسبعة أقاليم، وعادت خمسة منها إلى الحزب الاشتراكي. فتنفّست فرنسا الصعداء، وخلص أحد الساخرين، بأن "فرنسا أخافت نفسها من لا شيء".
وبعد ذلك، خرجت قيادات الحزبين التقليديين، اليميني واليساري، إلى الجمهور، بابتسامات مرتبكة، تدّق ناقوس الخطر الذي يتربّص بفرنسا. حزب "الجبهة الوطنية" لم ينل إقليما واحداً، ولكنه تهديد جدي لانتخابات 2017 الرئاسية. والحزبان مذعوران من إمكانية "صمود" رئيسته مارين لوبين في الدورة الثانية من هذه الانتخابات: الاشتراكيون يخافون أن تستقر على منافسة بينها وبين نيكولا ساركوزي. و"الجمهوريون" يخشون ان تتم هذه المواجهة بين فرنسوا هولاند ومارين لوبن. فهما لا يتوقفان عن تعداد الأصوات التي نالتها في مجمل الاراضي الفرنسية، والتي كادت أن تبلغ سبعة ملايين، وعن قياس وتيرة صعود حزبها، فيجدون ان عدد الأصوات المقترعة لها تضاعفت ثلاث مرات خلال خمس سنوات فقط. وكان عليهم أن "يراجعوا" سياساتهم.
فماذا فعل كل منهما؟
نيكولا ساركوزي كان درسه السياسي من وحي سياسة حسني مبارك: كما حارب الرئيس المصري "الإخوان المسلمين" أمنياً، وسايرهم أيديولوجياً، يتبارز نيكولا ساركوزي الآن مع مارين لوبن انتخابياً، بتبني أفكار حزبها ومقولاته، خصوصا تلك المتعلقة بالمهاجرين وبالأمن وبالهوية الأصلية الخ. أما فرنسوا هولاند وهيئة أركانه، فأعلن عن "خطط" لمحاربة البطالة، وغمْغم بخصوص "مراجعات" سياسية، تنقصها الدقة والمصداقية. ومن طلائعها، أن وزير الدفاع إيف لودريان، فاز برئاسة إقليم، ولم يلزمه صديقه هولاند بالاستقالة من منصبه كوزير للدفاع، عملاً بقرار كان اتخذه، بعدم تولي أي "مسؤول" أكثر من منصب رسمي واحد.
تلك هي بشائر "السدّ" الذي ينوي بناءه أساطين الحزبين التقليديين اليميني واليساري. وهي تنبئ عن فراغ فكري، عن عجز وفقر في المخيلة. اليميني، المفلس يبحث في تضاريس اليمين المتطرف ما يداوي تراجعه. واليساري، الذي تبنى سياسة اقتصادية ليبرالية، مخالفة لتوجهاته، والمفضية إلى زيادة التقشّف والبطالة، لا يجد غير "مشاريع" مستقبلية لمحاربة البطالة، يسخر الفرنسيون من تمْتماتها.
والشباب هم الخطر الأعظم: ثلث مقترعيهم صوتوا لليمين المتطرف. وهذه سابقة مروّعة في بلد، هو الذي اخترع ثورة الشباب السياسية (ماي 1968)، هو الذي حافظ على تقاليد الارتباط الحميم بين اليسار وبين الشباب. وكما هو حاصل عندنا، حيث الشباب يتمردون على أهلهم الحداثيين بأفكار ظلامية، يرنو الشباب الى مخالفة أهلهم، اليمينيين أو اليساريين، بأفكار اليمين المتطرف العنصري. صحيح ان ثلثي الشباب لم يصوِّت، ولكن الثلث الذي اقترع إلى تزايد، هو أيضاً. وهذا الأمر المقلق، يفسره المحللون بغياب أي أفق مستقبلي، بأي أمل. ما يسهّل انجرار أولئك الشباب وراء الحزب الذي يريد أن يجري قطيعة مع "نظام" الحزبين التقليديين، اليميني واليساري. الشباب طالتهم قضايا، كلها شائكة، من البطالة والأمن والهوية، الاسلام، المسيحية، وفي لغة لوبن التبسيطية والصريحة يعتقدون أنهم وجدوا ضالتهم. وهم مجايلون لشباب آخرين، اختاروا القطيعة مع "النظام" عبر قيامهم بالجهاد، فذهبوا الى سوريا، واستوحوا من داعشيها سبل هذه القطيعة التي تتلخص بالقتل المنظّم. هؤلاء المجايلون من الشباب الجهادي يضخون أصواتا إضافية على لائحة مارين لوبن، هم حلفاؤها الموضوعيون. وهذا النوع من "التفاعل" سوف يكون، أو صار، جزءا من مشهد الخرابة التي يتسبّب بها الإرهاب، و"الحرب على الإرهاب".
هكذا، تدخل فرنسا نادي الـ "لا غالب ولا مغلوب" من أوسع أبوابه...
(عن جريدة "المدن" الإلكترونية اللبنانية)