عادت ظاهرة الاحتجاجات الاجتماعية لشوارع العيون بعد هدوء نسبي وحذر كان سببه الوعود التي قطعتها الجهات الرسمية لتسوية الملفات ذات الصلة، تبين لذويها -حسب رأيهم- إن الهدف من وراء تلك الوعود كان فقط كسب المزيد من الوقت.. وعادت معها مظاهر التوتر والتواجد المكثف لقوى الأمن بأهم الفضاءات العامة بالمدينة.
وعادت أيضا حناجر المحتجين تصدح بتعبيرات وشعارات الرفض والاستنكار على ما اعتبروه -هم والكثير من الملاحظين والمهتمين بالشأن المحلي والجهوي بالصحراء- إقصاءا ممنهجا، لولوج سوق الشغل في أكبر المؤسسات الاقتصادية بالمنطقة وذلك من خلال الشروط التعجيزية التي أعلنتها، لتقديم طلب شَغل 500 منصب.
يأتي كل ذلك بعد الخطاب الملكي بالعيون وإطلاق ما اصطلح عليه "المشروع التنموي المندمج للأقاليم الجنوبية"، والذي كان كافيا في نظر الكثيرين لتهدئة الأوضاع ورفع منسوب الأمل للساكنة ككل وبالخصوص لهذه الفئات الغاضبة، التي تطمح أن تجد لها موقعا في دورة الإنتاج والتقسيم العادل للثروة والحياة الكريمة. غير ان إعلان المؤسسة المعنية لمعايير مجحفة كان النقطة التي أفاضت كأس الغليان والإحتقان، وضع الدولة وتقسيمها الجديد "الجهوية" في مواجهة مباشرة أقرب للخصومة وامتحان حقيقي لمصداقية مشاريعها التنموية مع الفئات الشعبية وفي المقدمة منها فئة المعطلين حملة الشواهد.
فمنذ 1999، تاريخ تكسير حاجز الخوف لدى الشارع المحلي، لم تعد الاحتجاجات شيئا غريبا على اهم الشوارع والفضاءات العمومية بالعيون؛ والتي تتنوع بين المطالبة بأبسط الحقوق الأساسية إلى أخرى لا سقف لمداها. وظلت الاحتجاجات بالصحراء سجينة النظرة الأمنية الضيقة التي طالما حاولت إلصاق صفة العصيان والتمرد السياسي وتعكير صفاء الأمن والاستقرار والسلم الإجتماعيين بنشطائها، فالكل يعلم الترابط بين الحقوق وكذا التماس الكبير بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي بالصحراء مع تواجد أطراف في كل الفرقاء ليس وارد لديها هذا التمييز.
غير أن الملاحظ في التركيبة البشرية النوعية والعمرية لهذا الحراك الشعبي، كون الشباب والمرأة هما محرك هذه الاحتجاجات، لما تحمله مرحلة الشباب من الرغبة في التغيير والثورة والتمرد على الأنماط التقليدية السائدة ورفض كل أشكال مظاهر الإقصاء، خاصة إذا ما صاحب ذلك تكوين معرفي ووعي اجتماعي وإدراك سياسي وحس جَمعي وهَم جماعي؛ كل ذلك يجد تفسيره أيضا كون الشباب هم الفئة الأكثر تضررا خصوصا المعطلين حملة الشواهد؛ بالتقاطع مع ما تعيشه المرأة من تهميش وإقصاء مضاعف ومركب من فرص الشغل بالتزامن مع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي يعرفها المجتمع الصحراوي.
وتستهدف هذه الاحتجاجات الأسباب البنيوية والسلوكية التي تقوم بها الدولة، باعتبارها المسؤولة عن التوزيع المتباين للثروات المادية والرمزية (الريع)، الشيء الذي يكرس إعادة إنتاج اللامساواة وعدم وصول الحقوق لمستحقيها؛ دليل ذلك أزمة الأولويات في التعاطي مع الملفات الملحة من خلال نهجها مقاربات تتسم بالتردد تفتقد للإرادة السياسية الحقيقية الواضحة مما يوسع فجوة انعدام الثقة في الدولة؛ بسبب تأبيد الإنتظارية وتآكل رصيد مقولات وشعارات ووعود الحلول الشاملة الناجعة والفورية لهذه الملفات الاجتماعية الملحة والآنية، وفي القلب منها مطالب السكن والشغل.
بالمقابل ما يلاحظ على حركة المعطلين بالعيون، باعتبارها قاطرة هذا الحراك، البلقنة التي يعرفها مشهدها ينعكس ذلك على غياب مخاطب موحد بالإضافة لافتقادها للمشروع – الرسالة، وعدم قدرتها على تعبئة قاعدة جماهيرية كبرى تآزرها، وبالتالي تكون هذه الاحتجاجات عبارة عن انفعالات وردود أفعال فورية ولحظية وغير ممتدة زمنيا، حيث يسود (حسب رأي البعض ممن جالستهم من المعطلين) منطق التخوين والمؤامرة والتردد، وأحيانا أخرى منطق الوصولية والانتهازية واستعجال النتائج؛ غير أن كل ذلك لا يسقط قدسية وراهنية حق الشغل الكريم لكل أطياف وحساسيات هذه الحركة الاجتماعية الحية.
واتساقا مع ما سبق يواجه هذا الحراك من لدن السلطات المعنية بتعامل زجري أمني صرف، وأحيانا احتواء استباقي لكل اشكال الاحتجاج والتجمهر في الشارع العام مع صمت مريب لحد التواطئ لأغلب من يعتبرون أنفسهم أوصياء على الساكنة (النخب التقليدية)، ما يصطلح عليهم لدى البعض "الأعيان"؛ نفس الموقف ينسحب على أغلب الهيئات المدنية والسياسية وباقي القوى الفاعلة وفي مقدمتها جل المنتخبين المحليين والجهويين وحتى البرلمانيين مع تسجيل بعض الإستثناءات الفردية المعزولة والمحتشمة، مع غياب شبه كلي للمثقفين وللاعلام الرسمي رغم ان أغلب هذه الوقفات لا تحمل شعاراتها أي حمولة سياسية وسقف مطالبها محدد سلفا على الأقل لحد الآن..
وبالتالي يبقى هذا الحراك مفتوحا على جميع الاحتمالات إذا ما حافظ على إيقاعه وانضباطه والتزامه وسلميته، خاصة بعد اتساع رقعته لتشمل فئات ومداشر أخرى في الصحراء يغذيه وجود حاضنة شعبية واستمرار ممارسات وسياسات تكرس تمثلات المظلومية، الحكرة، الغبن، الحيف والاقصاء لدى هذه الفئات ولدى عموم الساكنة، يتزامن كل ذلك ودخول النزاع السياسي حول المنطقة منعطف حرب دبلوماسية وقانونية شرسة يشكل الوضع الداخلي مادتها الجوهرية.