لماذا كل هذا التضامن مع باريس؟ سؤال يعترضنا ابتداء؛ ذلك أنّ الكثيرين لم يتمكنوا من إخفاء شعورهم بالغبن إزاء ما يبدو كأنه نوع من أنواع العنصرية والحيف:
لماذا كل هذا الاهتمام الإعلامي والتضامن الدولي مع باريس، في حين أن عواصم أخرى عربية وشرق أوسطية تئن منذ سنوات تحت وطأة الإرهاب الذي يحصد يوميا العشرات من الأرواح دون أن تحظى بنفس القدر من التضامن والاهتمام؟
لقد تجرّأ البعض على توصيف الأمر كأنه عنصرية لفائدة الرّجل الأبيض.
قد يبدو الشّعور بالغبن رد فعل غريزي مبرر، غير أن استيعاب الأحوال يقتضي الانتقال من المستوى الغريزي إلى المستوى العقلاني. هل حياة ضحايا الإرهاب في بغداد وبيروت أرخص وأبخس من حياة ضحايا الإرهاب في باريس أو نيويورك أم أن هناك معطيات أخرى تصنع الفارق بصرف النظر عن هوية وعرق وجنسية الضحايا؟
لا يليق بنا أن ننسى هذا، الاعتداء الإرهابي على السياح الأوروبيين في سوسة بتونس لم يتم اعتباره، بأي حال، اعتداء على الإنسان الغربي أو الأوروبي أو المسيحي أو حضارة الرّجل الأبيض، لقد كان الأمر اعتداء على تونس، وكان التضامن وقتها مع تونس باعتبارها هي المستهدف بصرف النظر عن طبيعة الضحايا.
كما أن الاعتداء على السياح في أحد فنادق باماكو أسبوعا بعد اعتداءات باريس، كان اعتداء على جمهورية مالي بصرف عن النظر عن جنسيات الضحايا. لكن، هنا أيضا قد يقال، طالما الأمر يتعلق بسوسة أو باماكو وليس باريس أو لندن، فقد حظيت تونس ومالي بتضامن واهتمام أقل مما حظيت به فرنسا. وهذا صحيح. لكن دعنا نستنتج أوّلا بأن التفاوت يتعلق بالأمكنة وليس بالضحايا. لا شك أن دلالة المكان تختلف. ويصدُق هذا حتى داخل البلد الواحد، دون أن يحيل الأمر إلى أي شكل من أشكال الحيف بين المناطق.
مقصود القول، هناك معطى يفرض علينا الكثير من التواضع: يبقى الإرهاب نفسه سواء في بغداد أو بيروت أو باريس، ويبقى الإنسان الذي يقتله الإرهاب نفس الإنسان سواء أكان اسمه آدم أو أنطوان (رغم أن آدم قد يكون أميركيا وأنطوان قد يكون لبنانيا). لكن أثر الأجوبة ومدار تأثيرها يختلفان باختلاف المكان والزمان أيضا، وكذلك فإن الأثر الاجتهادي للعقل السياسي على الحضارة المعاصرة يختلف من بلد إلى بلد، وأيضا فإن الهزات الارتدادية للضربات الإرهابية تختلف بدورها من منطقة إلى أخرى.
مرّة أخرى علينا أن نتواضع أمام حقيقة أن جغرافيتنا الممتدة من المغرب إلى باكستان، رغم حجم المشاكل التي تثيرها والكثافة السكانية التي تشبه “غثاء السيل” كما ورد في حديث نبوي مشهور، فإنها لا تملك الريادة في صياغة أجوبة كونية، أو على الأقل ليس بعد.
بكل بداهة، فأنت لا تستطيع أن تثير اهتمام العالم إذا كنت لا تستطيع أن تجيب عن أسئلة العالم. هنا يكمن الفرق. إننا بعبارة واضحة نثير مشاكل كونية لكننا لا نملك أجوبة كونية، بل لا نملك حتى أجوبة محلية. وبعبارة أشد وضوحا فقد حوّلنا الإسلام من مسألة شرقية إلى مشكلة عالمية، لكنها مشكلة لا نملك إزاءها أي حلول مقنعة، عدا جمل إنشائية مكررة.
فعلا، بعد كل اعتداء إرهابي تأتي مرحلة التفكير في تغيير القوانين والسياسات، يحدث هذا في كل مكان، سواء في بغداد أو القاهرة أو الرباط، لكن تغيير القوانين والسياسات في باريس أو لندن أو واشنطن يُحدث أثرا عالميا، بل قد يؤثر على مصير الحضارة المعاصرة برمتها. باريس ليست الجنة بكل تأكيد، ولا نيويورك، ولا ستوكهولم، والحداثة نفسها مشروع لم يكتمل كما نوه يورغن هابرماس، أي أنها لا تزال معركة مفتوحة، لكن بالنظر إلى أكثر من نصف الكرة الأرضية، وحتى بإضافة العملاق الصيني، لا تزال باريس تمثل أفق حياة أفضل، إنها أفق الهجرة للعمال والفلاحين المغاربيين والجنوب صحراويين، أفق اللجوء لطالبي الحريات، أفق الحياة الكريمة بالنسبة إلى زوجات المهاجرين، أفق حرية التعبير بالنسبة إلى عشرات المثقفين والإعلاميين اللاجئين إليها من الشام والخليج العربي والمغرب الكبير، إنها أفق حركة التاريخ بالنسبة إلى مجتمعات القدامة كافة. وحتى لا نقع في الخلط واللغط، باريس ليست الحلم الأجمل لكنها بكل تأكيد الواقع الأفضل بالنسبة إلى ملايين الناس جنوب وشرق البحر الأبيض المتوسط.
لذلك، فإن انهيار باريس يعني انهيار مساحة شاسعة من الأفق المستقبلي للكثير من الشعوب، ومن ثم انتصار أيديولوجيات التوحش في الحساب الأخير. فوق كل ذلك فإن الاجتهادات التي أعقبت اعتداءات باريس سيكون لها أثر على العديد من المفاهيم السياسية والسياسات الدولية. وهو ما يظهر في ثلاث مسائل كبرى:
1 - نحو مضمون جديد للعلمانية:
سرعان ما تُرجمت أولى خطابات الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، عقب اعتداءات باريس، إلى إجراءات وخطوات عملية في أفق تعديل الكثير من القوانين، وربما تعديل الدستور أيضا.
وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا، إن فرنسا توشك أن تحطم أحد تابوهاتها، فقد بدأ الوعي يأخذ منحى البحث عن مضمون جديد للعلمانية.
وبالفعل، تحتاج فرنسا إلى مضمون جديد للعلمانية يسمح للدولة بالانتقال من مرحلة الحياد الديني السلبي، إلى نوع من الحياد الديني الإيجابي. تحتاج فرنسا، بلا شك، إلى علمانية فعالة تسمح للدولة بالتدخل في الحقل الديني، وضبط مسائل الميزانية والتمويل بالنسبة إلى كافة المؤسسات والجمعيات الدينية، وتجريم كل أشكال التحريض الديني على الكراهية، وذلك لأجل حماية العيش المشترك. فرنسا تحتاج إلى إسلام عصري متناغم مع مبادئها الجمهورية.
لكن السؤال، كيف يمكن للدولة الفرنسية بأجهزتها التعليمية والإعلامية أن تساهم في بناء هذا الإسلام الفرنسي، في الوقت الذي تمنعها القوانين ويمنعها الدستور من التدخل في الأديان؟ أكثر من هذا فإن القوانين الفرنسية تمنع أي إحصاء سوسيولوجي قائم على الانتماء الديني، رغم أهمية المسألة لأجل فهم مظاهر التطرف في الضواحي. عموما، وعلى الأرجح، سيتجه منحى الوعي السياسي والتشريعي الفرنسي نحو إعطاء العلمانية مضمونا أكثر فعالية.
2 - الملف السوري:
بصرف النظر عن نوايا الإرهابيين، ورهانات مرشديهم، وحسابات مموليهم، وتقديرات المتساهلين معهم، فقد قادت اعتداءات باريس إلى انقلاب في السياسة الخارجية الفرنسية بخصوص الملف السوري، انقلاب قد يؤثر على الموقف الأوروبي والرأي العام الغربي برمته. فرنسا التي كانت سباقة إلى تأييد “الثورة السورية” واستقبال المجلس الوطني السوري والاعتراف به ممثلا شرعيا للشعب السوري، والتي لعبت دورا رياديا في محاولة إقناع المنتظم الدولي بأولوية إسقاط حكم بشار الأسد، فجأة، لم تعد تعتبر سقوط بشار أولوية، وهو الموقف الذي قد يقلب الكثير من الموازين، وقد يؤثر في الأخير على مآلات الملف السوري.
3 - من الإرهاب الجزئي إلى الإرهاب الشامل، أو الخطر القادم:
في خطابه أمام الجمعية العامة يوم 19 نوفمبر الماضي، صرح الوزير الأول الفرنسي، مانويل فالس، (بنبرة لا تخلو من حذر) بأن أي هجوم بالأسلحة الكيميائية أو الجرثومية لم يعد أمرا مستبعدا.
في المقابل، يؤكد الخبراء والمختصون أن المرحلة القادمة من مراحل تطور الإرهاب العالمي، والتي يجب العمل على تفاديها بكل الوسائل المتاحة، تتعلق باستعمال وسائل قتل كيميائية وجرثومية قادرة على حصد أرواح الملايين في عملية واحدة. ما يعني أن البشرية كافة ستدخل في مرحلة من الهشاشة الكلية.
أمام كل هذه المآلات الممكنة هناك حقيقة تعنينا كمسلمين: يجب علينا أن نتصالح مع العالم الذي نعيش فيه. بكل تأكيد علينا أن نساهم في إصلاحه لكن ليس قبل أن نتصالح معه أولا، علينا أن نساهم في تغييره لكن ليس قبل أن نستوعبه أولا، وكذلك يجب علينا أن نتصالح مع العقل والجسد والمرأة والأقليات، يجب علينا أن نتصالح مع الإنسان.
لأجل كل ذلك نحتاج إلى خطاب إسلامي يخرجنا من ثقافة الكراهية وقيم الحقد ومناخ العدوان. وهذا هو المطلوب الآن.