الجمعة 29 مارس 2024
كتاب الرأي

د. رضوان زهرو: التدبير الحر للشأن الترابي

د. رضوان زهرو: التدبير الحر للشأن الترابي

يبدو محمد السادس مقتنعا بأن التنمية المستدامة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال النهوضباللامركزية وتكريسالحكامة الترابية وإرساء قواعد ومبادئ حسنالتدبير. واقتناعه هذا سيزداد بالتدريج، مع مرورالوقت، إلى أنتم الإعلان عن ورش الجهوية المتقدمة؛ فلا يكاد أي خطاب ملكي يخلو من الحديث عن ضرورة "... ترسيخ اللامركزية في اتجاه إفراز مجالس محلية وإقليمية وجهوية تجمع بين ديمقراطية التكوين وعقلانية التقطيع ونجاعة وشفافية وسلامة التدبير، والتوفر على أوسع درجات الحكم الذاتي الإداري والمالي، من شأنه جعلها تنهض بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية...")محمد السادس) "...وكل ذلك في إطار استحضار واع لما دعونا إليه، من تغييرفي قوانين اللامركزية واللاتمركز ووفق مفهوم جديد، يجعل من السياسةالتعاقدية أداة أساسية لبلورة تصور مجالي توافقي..." )محمد السادس) "لذلك قررنا، بعون الله، فتح صفحة جديدة في نهج الإصلاحات المتواصلة الشاملة التي نقودها، بإطلاق مسار جهوية متقدمة ومتدرجة، تشمل كل مناطق المملكة، وفي مقدمتها جهة الصحراء المغربية، مؤكدين عزمنا الراسخ على تمكين كافة ساكنتها وأبنائها من التدبير الديمقراطي لشؤونهم المحلية ضمن مغرب موحد"محمد السادس)، وهوما مهدبالفعل للإقرار في النهاية بأن "التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة")الفصل الأول من الدستور(.

ويمثل مبدأ التدبير الحر للشأن الترابي أحد أهم مظاهر هذه اللامركزية، في بعدها الحكامتي، والتي أقرها الدستور، في أكثر من موضع، حيث يخول بمقتضى هذا المبدأ لكل جماعة، في حدود اختصاصاتها، سلطة التداول بكيفية ديمقراطية، وسلطة تنفيذ مداولاتها ومقرراتها، طبقا لأحكام القانون التنظيمي والنصوص التشريعية والتنظيمية المتخذة لتطبيقه، مما سيمكن الجماعات الترابية من تدبير شؤونها،بكيفية ديمقراطية وحرة، و"يحدد ميثاق للمرافق العمومية قواعد الحكامة الجيدة المتعلقة بتسيير الإدارات العمومية والجهات والجماعات الترابية والأجهزة العمومية" (الفصل 157 من الدستور)، كما أن"...الجماعات الترابية أشخاص معنوية، خاضعة للقانون العام، وتسير شؤونها بكيفية ديمقراطية..." (الفصل 135 من الدستور)، و"يرتكز التنظيم الجهوي والترابي على مبادئ التدبير الحر، وعلى التعاون والتضامن؛ ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم، والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة" (الفصل 136 من الدستور)، و"تحدد بقانون تنظيمي بصفة خاصة... قواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر..." (الفصل 146 من الدستور)؛ كقاعدة للديمقراطية المحلية، التي تجعل من المنتخب المحلي مصدر سلطة وصاحب قرار، ويمكنه الاستجابة لطموحات وتطلعات السكان. وسيبقىمبدأ التدبير الحر للشأن الترابي غير كاف في غياب الموارد البشرية الكفأة، التيتستطيعبلورته على أرض الواقع وإخراجه إلى حيز الوجود. وإذا كان للموارد البشرية أهمية بالغة في تكريس هذا المبدأ، فإن الموارد المالية تعتبر هي الأساس؛ إذ كيف يعقل أن يسود التدبير الحر، إذا كانت الجماعات الترابية لا تتوفر على الموارد المالية اللازمة والكافية لذلك.

يسعى مبدأ التدبير الحر للشأن الترابي إلى منح المجالس المنتخبة سلطة التداول وسلطة تنفيذ مقرراتها بكيفية ديمقراطية (القانون التنظيمي للجهات) طبقا لقواعد الحكامة المتعلقة بحسن تطبيق مبدأ التدبير الحر لشؤون الجهة، من خلال احترام العديد من القواعد المجسدة في المساواة بين المواطنين في ولوج المرافق العمومية التابعة للجماعة، وكذا الاستمرارية في أداء الخدمات وضمان جودتها وتكريس قيم الديمقراطية والشفافية والمحاسبة والمسؤولية وترسيخ سيادة القانون والتشارك والفعالية والنزاهة، مع احترام مجموعة من المبادئ في التدبير والخضوع في ذلك لتقييم الأداء والمراقبة الداخلية والافتحاص، انسجاما مع المقتضيات الدستورية التي تؤكد على ربط المسؤولية بالمحاسبة، مما يؤكد أن مبدأ المسؤولية يعد مبدأ استراتيجيا في الحكامة المحلية الجيدة (القانون التنظيمي للجهات) .

ولقد عمل المشرع التنظيمي على تحديد مجموعة من التدابير التنفيذية لمبدأ التدبير الحر، حيث اشترط، لاحترام حسن تطبيقه مجموعة من المبادئ العامة (القانون التنظيمي للجهات)، من قبيل المساواة بين المواطنين في ولوج المرافق العمومية التابعة للجهة، الاستمرارية في أداء الخدمات من قبل الجهة وضمان جودتها، تكريس الديمقراطية والشفافية والمحاسبة والمسؤولية، ترسيخ القانون، التشارك والفعالية والنزاهة. وبذلك تكون للمجالس المنتخبة كامل الصلاحية والحرية في تحديد وبلورة اختياراتها وبرامجها في احترام للمقتضيات القانونية والتنظيمية، بمراعاة الإمكانيات التمويلية المتاحة.

كل هذه المقتضيات الدستورية والقانونية تمثل ضمانة أساسية لانخراط المجالس المنتخبة في اعتماد مبادئ الحكامة والديمقراطية والتدبير الحر، كأساس لتدبير شؤونها، وتبني اختياراتها وبرامجها وتنزيل الاختصاصات التي خولتها لهاالنصوص التنظيمية (وهنا لا بد من التمييز بين مفهوم الاختصاصات الذي يحمل معاني التحديد والضبط والدقة ومفهوم الصلاحيات الذي كان يفتح الباب أمام الكثير من السلطة التقديرية)، وذلك من خلال الاعتراف للمجالس المنتخبةبالاستقلالية في تدبير شؤونها، دون تدخل سلطات الرقابة، إلا في الحدود التي يتيحها القانون، وكذلك بإقرار ممارستها للسلطة التنظيمية المحلية، والتي تنصب على اتخاذ القرارات والقيام بالإجراءات التي يتطلبها حسن سير المرافق العمومية بكيفية منتظمة وبغية الحفاظ على النظام العام.

لقد شكل الدستور بالفعل تطورا هاما بمنحه هذه الصلاحية للجماعات الترابية،مما يشكل ضمانة أساسية لها، لاتخاذ التدابير اللازمة التي يتطلبها الحفاظ على النظام العام داخل النفوذ الترابي لها، الشيء الذي سيمكنها، بما تتمتع به من اختصاصات ذاتية ومشتركة مع الدولة ومنقولة من هذه الأخيرة لها، من تنظيم مجالها الترابي، بما يتوافق مع جوهر سلطتها التنظيمية. هذه السلطة التي قيد الدستور ممارستها بشروط؛ "...شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية الأخرى لشؤونها بكيفية ديمقراطية، وعدد أعضاء مجالسها، والقواعد المتعلقة بأهلية الترشيح، وحالات التنافي، وحالات منع الجمع بين الانتدابات، وكذا النظام الانتخابي، وأحكام تحسين تمثيلية النساء داخل المجالس المذكورة؛شروط تنفيذ رؤساء مجالس الجهات ورؤساء مجالس الجماعات الترابية الأخرى لمداولات هذه المجالس ومقرراتها، طبقا للفصل 138؛ شروط تقديم العرائض المنصوص عليها في الفصل 139، من قبل المواطنات والمواطنين والجمعيات؛ والاختصاصات الذاتية لفائدة الجهات والجماعات الترابية الأخرى، والاختصاصات المشتركة بينها وبين الدولة والاختصاصات المنقولة إليها من هذه الأخيرة طبقا للفصل 140..." (الفصل 146 من الدستور)، حيث "للجماعات الترابية، وبناء على مبدإ التفريع، اختصاصات ذاتية واختصاصات مشتركة مع الدولة واختصاصات منقولة إليها من هذه الأخيرة"، و"تتوفر الجهات والجماعات الترابية الأخرى، في مجالات اختصاصاتها، وداخل دائرتها الترابية، على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها"(الفصل 140 من الدستور). وبذلك يتمتفادي مشكلتداخل الاختصاصات بين الجماعات ومختلف وحدات اللامركزية الترابية، أو بينها وبين الدولة.

لقد حمل الدستور تصورا جديدا للتنظيم الترابي ولمكانة الجماعات الترابية؛ إذ خصها بمبادئ تدعم التدبير الحر لشؤونها، ومن أهمها ضمانة تنفيذ مقررات المجالس الترابية، وكذا تحديث منظومة المراقبة الإدارية من طرف ممثلي السلطة المركزية، كما منحها صلاحيات تنفيذ مداولات ومقررات المجالس الترابية لرؤسائها. وتمثل هذه السلطة إحدى أهم الركائز التي ينبني عليها مبدأ التدبير الحر، وأحد أبرز خصائص اللامركزية الإدارية في بعدها المتقدم، والدستور بذلك يسعى للاستجابة لمسلسل الإصلاحات التي مرت منها التجربة اللامركزية بالمغرب، ولضرورة توسيع سلطة الوحدات الترابية. ويتيح تمتيع رؤساء الوحدات الترابية بهذه الضمانة (تنفيذ مقررات ومداولات المجالس)، اعتراف المشرع الصريح باستقلالية المجالس المنتخبة في القيام بالوظائف والمهام المنوطة بها، دون أي تدخل من قبل ممثلي السلطة المركزية في الجماعات الترابية، إلا في الحدود التي يسمح بها القانون، وانحصار أدوارهم في علاقتهم بالجماعات الترابية وعلى رأسها المجالس الجهوية، في مساعدة رؤساء هذه الأخيرة على ممارسة صلاحياتهم. وتشمل المساعدة تنفيذ المخططات والبرامج التنموية، والعمل باسم الحكومة على تأمين تطبيق القانون، وتنفيذ نصوصها التنظيمية ومقرراتها وممارسة المراقبة الإدارية، دون أن تتحول هذه الأخيرة إلى نوع من الوصاية؛ فعندما نص الدستور على مبدأ التدبير الحرّ، لم يقيده بأي شكل من أشكال الوصاية، لكن في الوقت نفسه خول الصلاحية للولاة/العمال لتقديم المساعدة اللازمة لرؤساء مجالس الجماعات الترابية، وخاصة الجهوية منها، لإنجاز المخططات والبرامج التنموية للنهوض بالوضع التنموي للجهة، حيث "يساعد الولاة والعمال رؤساء الجماعات الترابية، وخاصة رؤساء المجالس الجهوية، على تنفيذ المخططات والبرامج التنموية" (الفصل 145 من الدستور).

إن تعزيز استقلالية الجماعات الترابية يمثل التنزيل الأصح لمبدأ التدبير الحر في الاضطلاع السليم بالشؤون الجهوية والمحلية، كما يكرس القواعد التي تؤسسها اللامركزية الإدارية. ومن شأن تحصين هذه الاستقلالية من قبل المشرع، أن يضمن الانخراط في مرحلة تسمح للجماعات الترابية أن تتبوأ مكانتها الحقيقية، في تدبير فعال للمجال الترابي، بما ينسجم والمقومات الإجرائية للحكامة الترابية.

وبذلك، يتم تكريس مبادئ الديمقراطية التشاركية، عبر مجموعة من الإجراءات والوسائل والآليات الكفيلة بتحقيق مشاركة فعالة للمواطنين والمواطنات، بصفتهم المباشرة، في القرارات العامة التي تهم شؤون حياتهم،  وبالتالي تجاوز نواقص وعيوب الديمقراطية التمثيلية، التي أفرزتها تطبيقاتها العملية، من أجل تصحيح انحرافاتها وتقويمها، إذ يكمن الهدف في تعزيز أسس الحكامة الجيدة ووسائلها، والقطع مع أسلوب المركزية في اتخاذ القرار وإرساء جو من التعاون والتضامن والتشارك والمساهمة الجماعية في صنع القرار المحلي، بما يخدم مصلحة الجميع، على نحو يعزز الثقة بين الدولة ومختلف مؤسساتها والمواطن، من أجل التعاون على إعطاء الحلول المناسبة للمشكلات المطروحة في مختلف مراحل صنع القرار، حتى تدقيق تدبيره وتقييم نتائجه. كما أن تكامل مجهودات المجتمع المدني مع مجهودات الدولة سيمكن لا محالة من إنجاز المشاريع التنموية ومن الاستجابة لانتظارات الساكنة، وذلك من خلال تفعيل آليات الشراكة والتعاون وإعادة بناء العلاقات على أسس جديدة، تبتعد عن الأساليب التقليدية في إدارة الشأن المحلي، ومن خلال تقوية مشاركة السكان، بهدف زيادة انخراطهم ومشاركتهم  في النقاش العمومي وفي اتخاذ القرار. ويفيد هذا النوع من التدبير إلى احترام اختيارات ممثلي الساكنة في اعتماد البرامج والمشاريع التنموية؛ ف"للمواطنين والمواطنات الحق في تقديم عرائض إلى السلطات العموميةويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق" (الفصل 15 من الدستور)، كما "تضع مجالس الجهات، والجماعات الترابية الأخرى، آليات تشاركية للحوار والتشاور، لتيسير مساهمة المواطنات والمواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها" و"يُمكن للمواطنات والمواطنين والجمعيات تقديم عرائض، الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله" (الفصل 139 من الدستور). ولأجرأة هذا الحق وتفعيله أعدت الحكومة مؤخرا مشروع القانون التنظيمي رقم 14-44 المتعلق بتحديد شروط وكيفيات تقديم العرائض إلى السلطات العمومية، حظي بالمصادقة من طرف كل من مجلس الحكومة ومجلس الوزراء، في انتظار عرضه على البرلمان لتدارسه والتصويت عليه، تعبيرا عن الإرادة الحقيقية للمشرع الدستوري. وأيضا لما عبرت عنه هيئات المجتمع المدني لتعزيز آليات الديمقراطية التشاركية، من خلال دعم الدور الرقابي للمجتمع المدني ومساهمته في تتبع وتنفيذ وتقييم السياسات العامة. وهكذا، يتضح بأن هناك إرادة قوية للمزاوجة النصية بين الديمقراطية التشاركية والتمثيلية في هندسة السياسات العمومية، من حيث إنتاج النصوص التي تعبر عن المنهجية الجديدة التي تم اعتمادها في الحكم، لتبني سياسات عامة تنطلق من المواطن ولأجله، وهو ما يتيح الاعتقاد بأن التدبير الجديد العام ينبني على التحرر من المركزية الشديدة في القرارات المتخذة التي تعني المواطن والمواطنات.

وإذا ساد الاعتقاد بأن الوثيقة الدستورية تمثل ضمانة أساسية للديمقراطيةوالحكامة الجيدة، فإنها في بعدها المحلي، بما تضمنته من مظاهر لمبدأ التدبير الحر، تكرس هذا الاعتقاد، من خلال تضمين القوانين التنظيمية الترابية الجديدة- علما بأن الدستور يتحدث عن قانون تنظيمي واحد يتعلق بجميع الجماعات الترابية بمستوياتها الثلاث، في حين أصدر المشرع ثلاث نصوص قانونية تنظيمية- للعديد من المقتضيات ذات الارتباط بهذا المبدأ وفي تماه تام مع المبادئ الدستورية المؤطرة للسياسة الترابية، من قبيل الحكامة والتضامن والتعاون والديمقراطية والمحاسبة والحوار والتشارك والتواصل والمساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع والمناصفة والقرب والتخطيط والبرمجة، والإنجاز... وإن توفرت الكثير من القيود التي تحد من تنزيل هذا المبدأ، مما يضع هذا المكسب الدستوري على المحك، أمام غياب ضمانات حقيقية لتحصينه من أي خرق قد يمسه من قبل ممثلي السلطة المركزية بالجماعات الترابية (العمال والولاة)، والذين خول لهم المشرع - ورغم إدخاله للقاضي الإداري مشرفا على سلطات الوصاية- صلاحية واسعة في التدبير المالي لشؤون الجماعة، وإمكانيات كبيرة للتحكم في مصير ميزانيات الجماعات، عبر آلية الرقابة القبلية، من خلال اشتراط ضرورة التأشير عليها من جانبهم، قبل أن تدخل حيز التنفيذ، وكذا آلية المراقبة القبلية لشرعية قرارات الرئيس ومقررات المجلس، فضلا عن إمكانية إدراجهم كل مسألة يريدونها بجداول أعمال دورات مجالس الجماعات التابعة لهم، وحقهم في الاعتراض على كل مسألة أدرجت بتلك الجداول، سواء من قبل الرؤساء أو أعضاء المكاتب أو أعضاء المجالس. وهو ما قد يفرغ مبادئ اللامركزية والحكامة الترابية وقواعد التدبير الحرللشأن الترابي من معناها الحقيقي.