الجمعة 20 سبتمبر 2024
مجتمع

الحسن اللحية، باحث في شؤون التربية والتكوين: لماذا يجب إلغاء الباكالوريا؟

الحسن اللحية، باحث في شؤون التربية والتكوين: لماذا يجب إلغاء الباكالوريا؟

ماذا تعني الباكالوريا اليوم؟ وكم تكلفنا؟ وما الأزمنة الضائعة التي تنفلت من زمن النمو الإنتاج والمشاركة في بناء المجتمع التي تسببها الباكالوريا بهدرها لمجهود الأسر والتلاميذ والدولة بمواردها كلها؟

بدأنا في السنوات القليلة الماضية نسمع بأن معدل الباكالوريا بلغ 17.27 أو 18/20، ورغم ذلك وجد الكثير من التلاميذ صعوبات كثيرة في ولوج مؤسسات عليا، بل إن كثيرا من المنتقين في الإنتقاءات الأولية رسبوا في المباريات الكتابية أو الشفوية مما يطرح أكثر من سؤال عن المراقبة المستمرة وامتحان الباكالوريا والتقويم بشكل عام. هل النقط المحصل عليها تعكس جودة ما؟ يكفي المتتبع أن يستقرئ ما يحصل في كليات الطب والأقسام التحضيرية والمدارس العليا للتكنولوجيا والتقني العالي ليتعرف على حجم المشاكل التي تحيط بالباكالوريا. ولعل هذه المؤشرات تنذر بقدوم ما هو أسوأ لأننا نختزل إصلاح الباكالوريا في النسب والامتحانات والغش والتسريبات والمراقبة دون غيرها. لكن السؤال الأساس هو: هل مازالت الباكالوريا صالحة لتكون منفذا نحو المستقبل؟

لابد و أن نعي أن المغرب تغير بنيويا، لكن نظامه التعليمي لا يعكس هذا التغيير. فمغرب الخمسينيات والستينيات والسبعينيات ليس هو مغرب التسعينيات والقرن الواحد والعشرين، وأن أي تمثل للباكالوريا بناء على التقاليد  الذهنيات الجامدة هو عرقلة للتقدم ذاته.

إن الباكالوريا التي تشكل مطلبا اجتماعيا و اقتصاديا و علميا و معرفيا و كفاياتيا تتغير بدورها مع تغير الظروف العامة للمجتمعات، وقد كان من الضروري التفكير في تغييرها المستمر لتواكب الحاجات المتجددة للمجتمع والأفراد والأسر.

فما سيلاحظه المتتبع لتاريخ الإصلاحات التربوية المغربية أن الباكالوريا المغربية ظلت رهينة النزعة الكمية التسويقية مثل أعداد التلاميذ الذين سيجتازونها ونسبة النجاح. كما أن الباكالوريا ظلت سجينة ذاتها: الحصول على الباكالوريا بأي ثمن كان رغم أنها لم تعد تعكس أي مستوى اجتماعي أو معرفي، بل وقد لا تؤدي بالحاصل عليها إلى أفق جامعي أو مهني مضمون.

فما تغفله الإصلاحات المتتالية هو: هل الباكالوريا مقدسة حتى و إن بلغ معدل النجاح 17.99 دون أن تعكس أي مستوى كيفما كان؟ ألا يعني التضخيم في المعدلات ونسب النجاح علامة على نهايتها؟ ألا يعني عدم انفتاح الباكالوريا على آفاق فعلية وعلى إصلاحات جذرية تهمها وتهم مؤسسات التعليم العالي برمتها هو نهاية الباكالوريا بالذات؟

لا بد من الإشارة إلى ان الباكالوريا إسفنجه/ ثقب أسود اجتماعي يرهق التلميذ(ة) والأسر والدولة؛ و لهذا لابد من التذكير بالأطروحات حول الانتقاء الاجتماعي ومراكمة الفشل وتأبيد الفوارق عبر الباكالوريا كما تطرقت إلى ذلك السوسيولوجيات الفرنسية. فالمؤكد أن الأسر انخرطت في مخيال السوق التعليمي (الحصول على النجاح في الباكالوريا والحصول على الباكالوريا الناجحة بأي ثمن كان ذلك)، وأضحت الباكالوريا (أو سلك الباكالوريا) هي السوق بالذات ويتجلي ذلك فيما يلي:

أولا: سوق الكتب الرسمية والموازية التي تطرح نفسها ضمن مخيال السوق المعممة حول الباكالوريا، وهي كتب لا تكرس من حيث المضمون إلا التكرار والاجترار، ولا تستهدف غير الربح...إلخ.

ثانيا: الساعات الإضافية التي بدأت تغزو المقاهي والمنازل ومؤسسات التعليم الخصوصي ليلا ونهارا، فضلا عن الأماكن المأجورة الخاصة دون رقابة مما يضاعف من مخيال سوق الباكالوريا و وهم النجاح في الحياة.

ثالثا: فتح مؤسسات للتعليم الخاص بسلك الباكالوريا دون مراقبة ولا تتبع ولا جودة، وحيث يعمل هذا القطاع الخصوصي في غياب القانون والالتزام القانوني تجاه الدولة والخزينة العامة ، بل إن هذا القطاع الخصوصي أصبح مشتلا و حلا لتضخيم النقط و المعدلات (سوق المراقبة المستمرة )، وبالتالي فإنه يضاعف من أزمة الباكالوريا دون حسيب ولا رقيب.

لقد وجدت الأسر نفسها سجينة القطاع الخاص و الساعات الإضافية والكتب الموازية، ووجد القطاع الخاص نفسه مستفيدا من مخيال السوق وتساهل الوزارة على أكثر من مستوى. فهذا التعليم المتخصص في سلك الباكالوريا لا يبيع في آخر المطاف للأسر والمجتمع والدولة إلا الأوهام، أوهام النجاح وأوهام الشهادة وأوهام المعدل المرتفع، وفي الوقت ذاته يتعيش على قطاع التعليم العمومي من جهة الموارد البشرية، وهكذا ينقلب إلى ثقب أسود يلتهم كل شيء ولا يلفظ غير المعدلات المرتفعة الوهمية.

إن أوهام التعليم الخاص غزت الأسر في المدن الكبرى تحديدا، وأضحت الأسر مع هذه الأوهام سجينة الإرهاق والتعب والشغل والبحث عن موارد إضافية لتمويل تمدرس أبنائها. وبذلك تدفع الباكالوريا الأسر نحو انتحار مؤكد، بل نحو البحث عن موارد مالية بأي طريقة كانت استجابة لوهم النجاح في المستقبل.

والأدهى من كل هذا وذاك أن خرائط مدننا الكبرى، بل خرائط بعض الأحياء صارت خرائط للتعليم الخاص بامتياز. فأنت مطرود من هذا الحي أو ذاك لأنك لن تستطيع تمويل معيشتك ومستلزمات تمدرس أبنائك في القطاع الخاص. إنه ترحيل جديد هادئ ماكرلساكنة الأحياء بدأ يغزو مدننا الكبيرة ويضاعف من أحلام السوق ووهم التميز.

والسؤال الذي يصمت عن طرحه الجميع في ظل أزمة الباكالوريا هو: هل يمكن الاستغناء عن الباكالوريا؟

إن الإصلاحات التي عرفها المغرب منذ الثمانينيات إلى اليوم الخاصة بالباكالوريا لم تستحضر التطورات الحاصلة في التعليم معرفيا وعلميا وتكنولوجيا ومهنيا - كما ونوعا من حيث المناهج والبرامج- وتغير الديمغرافية التعليمية والموارد البشرية ومتطلبات التعليم العالي وسوق الشغل؛ ولذلك فإن كل إصلاح عرفه المغرب انطلق من الأسفل لا من الأعلى، أي انطلق من السلك الابتدائي لا من الباكالوريا فما فوق، وتعبير أدق إن إصلاحاتنا في وزارة التربية الوطنية لا تستحضر التعليم العالي بالمرة، ولنا أمثلة كثيرة في هذا الباب سنتطرق إليها في حينها.

إن كثيرا من الدول لا تفكر بالباكالوريا كعلامة تجارية غير مجدية أصلا. فالباكالوريا التي تستنزفنا دون مردودية يمكن أن تأخذ مسارا آخر بالتخلي عنها وجعلها ممرا عاديا نحو التعليم العالي مما سيفرض إصلاحا جذريا للتعليم العالي يستحضر تكافؤ الفرص ودمقرطة التعليم وتوسيع بنيات استقباله وعرضه ومسالكه وشعبه والجسور بينها.

إن إجراء مثل هذا الإجراء سينعكس على ما يلي:

أولا: الحد من الاستقطاب الذي يقوم به التعليم الخاص المتخصص في سلك الباكالوريا، ودفعه ليرتاد التجديد و الإبداع و فتح تخصصات ذات آفاق جديدة وطنيا وعالميا.

ثانيا: عقلنة التعليم الخاص بسلك الباكالوريا كي لا يظل إسفنجه تمتص كل شيء ولا تقدم أي مجهود للمساهمة في مالية الدولة والتشغيل والقيمة المعرفية للباكالوريا...إلخ.

ثالثا: وضع حد لفوضى السوق المرتبط بالباكالوريا بسن قوانين جديدة تستحضر المراقبة والتتبع والتشغيل وأداء الضرائب...إلخ.

رابعا: التفكير في إصلاح جذري للتعليم العالي على أسس جديدة تستحضر باكالوريا مغربية جديدة بتصور جديد كعماد للتقدم ، وإعادة النظر في المسالك والإجازات والتشعيب والتخصصات المهنية.

خامسا: فتح مجال التعليم العالي بمؤسساته كلها أمام الجميع وضمان تكافؤ الفرص بين الجميع على أسس متفاوض عليها تستحضر مستقبل الدولة المغربية.