الأحد 19 مايو 2024
سياسة

السفير عبد القادر زاوي يكتب عن: معاكسة المغرب في صحرائه.. تواصل الاستنزاف لكل الأطراف

 
 
السفير عبد القادر زاوي يكتب عن: معاكسة  المغرب في صحرائه.. تواصل الاستنزاف لكل الأطراف

صادق مجلس الأمن الدولي على قرار جديد حول قضية الصحراء المغربية تحت رقم 2218 بتاريخ 28 أبريل 2015. قرار لا يختلف كثيرا عن القرارات السابقة حول الموضوع، المتسمة في مجملها بالغموض والعمومية واللغة الفضفاضة بشكل يسمح للأطراف المعنية بتأويلها وفق ما يتماشى وسياساتها، وينسجم مع مصالحها، وما تريد تسويقه إعلاميا على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي حسب ما تقتضيه الضرورة.

وقد أثبتت الصيغة الجديدة للقرار الأممي مرة أخرى أن جهود أطراف النزاع في السر والعلن لم تفلح في إقناع المجتمع الدولي بوجاهة مواقفها وضرورة تبنيها لتظل القضية المفتعلة لتوتير منطقة المغرب العربي أسيرة حلقة مفرغة تدور الشعوب في متاهاتها، مستنزفة قدراتها وإمكانياتها التي يفترض رصدها للتنمية والتكامل، لا للمواجهة والتصادم.

إن قرار مجلس الأمن الدولي الذي يشدد في ديباجته على ضرورة مساعدة الطرفين على التوصل إلى حل سياسي عادل ودائم ومقبول "يكفل لشعب الصحراء... تقرير مصيره في سياق ترتيبات تتماشى مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة ومقاصده.."، هو نفس القرار الذي ينصف المغرب في ذات الديباجة عندما يرحب بجهوده المتسمة بالجدية والمصداقية من خلال مقترح الحكم الذاتي الرامي إلى المضي قدما في إيجاد حل سياسي للنزاع. وبذلك تكون الجزائر قد أهدرت جهودا مالية ودبلوماسية كان يمكن توظيفها لأهداف أكثر سموا من دون أن تتمكن من الإساءة للمغرب وإحراجه خاصة في مجال حقوق الإنسان، فيما أبقى المغرب القرار الدولي في سياقه المعهود دون التمكن من تضمينه ما يساعد على تغليب وجهة نظره ولو بعد حين.

وبديهي أن قرارا يسعى في حيثياته إلى إمساك العصا من الوسط لن تكون فقراته العاملة ذات تأثير يذكر على جوهر النزاع. ولذلك ركزت هذه الفقرات في معظمها على المعطيات الفنية والإجرائية والترتيبات المواكبة (تمديد ولاية المينورسو سنة إضافية، احترام الاتفاقيات العسكرية لوقف إطلاق النار، تقديم تبرعات تمويل البعثة الأممية، تدابير بناء الثقة، إلخ..) أكثر مما لامست جوهر النزاع، الذي اقتصرت فيه على ما يمكن اعتباره إنذارا مبطنا للأطراف، وذلك عندما أهابت بهم:

- مواصلة إبداء الإرادة السياسية والعمل في بيئة مواتية للحوار من أجل الدخول في مرحلة مفاوضات أكثر كثافة وموضوعية، وذلك في الفقرة العاملة رقم 5.

- مواصلة المفاوضات برعاية الأمين العام للأمم المتحدة دون شروط مسبقة وبحسن نية، كما ورد في الفقرة العاملة رقم 7.

وإذا أضفنا لهاتين الفقرتين تلك التي تتحدث عن الدعم الكامل للأمين العام ولمبعوثه الشخصي (فقرة 6)، والتي تطالب الأمين العام الأممي بأن يقدم بانتظام إحاطات لمجلس الأمن عن حالة المفاوضات والتقدم المحرز فيها  (فقرة 9) يتضح جليا أن المجتمع الدولي يعي جيدا انعدام الثقة القائم بين الأطراف، الذي تأكد بوضوح من خلال تضارب التفسيرات التي قدمت للقرار في العواصم المعنية، وقبله لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة.

ولكن في الآن نفسه بدا المجتمع الدولي حريصا على ألا ينعكس انعدام الثقة ذلك في شكل تدهور للوضع الأمني والعسكري؛ مما قد يقود إلى مواجهة مسلحة مباشرة تزيد من معاقل الاضطراب والتوتر وعدم الاستقرار، وتضاعف بؤر تفريخ خلايا إرهابية جديدة في قارة تعج بالمناطق الملتهبة في وسطها وغربها وشرقها وفي الشمال أيضا، وتهدد العديد من دولها حركات متمردة أو انفصالية استباحت سيادتها، والحدود الموروثة عن الاستعمار.

وفي المعلومات المستقاة عن الأسباب الجوهرية الكامنة وراء إصرار المجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية على إمساك العصا من الوسط في هذا النزاع مثلما تجسد ذلك في شهر أبريل 2015 عندما أكدت واشنطن في حوارها الإستراتيجي مع الجزائر على دعم تقرير المصير في الصحراء، ومباشرة بعدها في الحوار الإستراتيجي مع المغرب شددت على جدية ومصداقية مقترح الحكم الذاتي؛ فإن الدبلوماسيين الأمريكيين والأوروبيين يرددون بأن نزاع الصحراء يدخل ضمن ما يسميه علم العلاقات الدولية "النزاعات المجمدة"  Frozen Conflicts

إن النزاعات المجمدة في المفهوم الأمريكي هي تلك التي تراها واشنطن غير قابلة للحل من دون خسارة أحد أطرافها أو إثارة صراع أكثر اتساعا لا قدرة على احتوائه وحصر تداعياته. وإضافة إلى النزاع المفتعل في الصحراء، يضع أساتذة العلاقات الدولية الأمريكان في هذه الخانة كلا من النزاع في جامو وكشمير بين الهند والباكستان وهو مستمر منذ سنة 1947، والنزاع في ناكورنو كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا مباشرة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي السابق.

ورغم إدراك الجزائر لعدم قدرة المجتمع الدولي على فرض حل لهذا النزاع وطبيعته، والذي لم تدخر أي جهد في سبيل التأثير في معطياته بما يخدم حسابات الهيمنة التي كانت تراودها؛ فإنها ستواصل دون أدنى شك مساعيها تلك لمعاكسة الوحدة الترابية المغربية في وقت هي أحوج إلى البحث عن سبل بناء شراكة متساوية مع جيرانها في إطار اتحاد دول المغرب العربي قوامها الاحترام المتبادل والمصالح والقيم المشتركة بعيدا عن الجدل العقيم والخيارات الخاطئة والمغلوطة، التي ثبتت استحالة تجسيدها على أرض الواقع.

لقد اضطرت الولايات المتحدة الأمريكية بكل إمكانياتها الهائلة إلى التعهد لجيرانها وشركائها في القارة الأمريكية بالتخلي عن مفهوم الحديقة الخلفية ونظرية الشريك القائد الآمر مقابل الشريك الصغير المأمور؛ كما تخلصت القارة الأوروبية من أعباء الماضي بكل مآسيه واتجهت نحو المصالحة التاريخية بعد أن تيقنت دولها بأن قوة كل واحدة منها تكمن في قوة الدول الأخرى وليس في ضعفها. وعلى الجزائر أن تسترشد في توجهاتها بهذه التجارب، لاسيما وأنها والمغرب متوازيان في عوامل القوة، ولكل ميزاته النسبية في أعين الغرب.

أكثر من ذلك فباستثناء الغاز والبترول، فإن كفة الميزات تميل كثيرا لصالح المغرب، وذلك رغم مساعي التشويه والوقيعة التي تقف وراءها الأجهزة الجزائرية، وكان آخرها محاولة تردد صداها في عدد من دوائر البحث وصنع القرار في واشنطن كان الهدف منها إيهام الأمريكيين بأن الجزائر تعاني من مشكلة المخدرات القادمة حسب زعمها من المغرب بمثل معاناة الولايات المتحدة الأمريكية من المخدرات الواردة إليها عبر المكسيك، في سعي محموم ومكشوف لاستغلال حساسية الأمريكيين لهذا النوع من المقارنات.

والمفترض أن جمود النزاع حول الصحراء من شأنه أن يدفع غالبية المنحدرين من الأقاليم الجنوبية وخاصة أولئك المحتجزين في مخيمات تندوف إلى الإدراك بأن عقودا طويلة من الحجز تحت لهيب شمس حارقة في مخيمات العار، متمترسين وراء رفض كل الحلول المقترحة بالعناد والمكابرة أو ضحية للابتزاز والمتاجرة لن تجلب لهم سوى المزيد من الذل والمهانة.

والواضح أن شرائح عديدة منهم بدأت تعي هذه الحقيقة وترفع الصوت عاليا للخروج من وضعية بائسة طال أمدها؛ الأمر الذي دفع غلاة الانفصال في جبهة البوليزاريو بإيعاز من الحماة إلى البحث عن أي وسيلة متاحة لتأجيج النزاع. تأجيج يجري لحد الآن بالتهديدات اللفظية، والخرجات الإعلامية والتحركات الدبلوماسية المشبوهة والمحاولات الميدانية اليائسة.

ومن المؤكد أن هذا السعي المضني لتحريك النزاع وتوتيره لإخراجه من طبيعة الجمود لن يتوقف على الإطلاق في ظل المعطيات الراهنة، وسيستمر عبر افتعال أحداث في الداخل على شاكلة ما حصل في إكديم إيزيك لتبرير استجلاب تدخل واهتمام دوليين أكثر نجاعة وفاعلية. وقد استطاع المغرب وقف مثل هذه التدخلات من دون أن يجتثها.

ويبدو ذلك واضحا من حيثيات قرار مجلس الأمن 2218، التي لم يمنعها ترحيبها بخطوات المغرب ومبادراته من أجل تعزيز حضور المجلس الوطني لحقوق الإنسان في العيون والداخلة من أن تشجع الأطراف على العمل مع المجتمع الدولي على وضع وتنفيذ تدابير تتسم بالاستقلالية والمصداقية لكفالة الاحترام التام لحقوق الإنسان مع مراعاة ما عليها من التزامات، ما يعني أن مسألة حقوق الإنسان يراد لها أن تكون عند أي هفوة صغيرة وفردية سيفا مسلطا على رقاب المغاربة يستخدم ضدهم عند الاقتضاء.

وتحسبا لوضع كهذا، فإن المغرب مطالب باليقظة والتأهب بشكل متواصل عبر التسلح بثلاثية الاستنفار والاستمرار والاستثمار، التي ينبغي أن تشتغل في آن واحد وبذات الإيقاع.

- الاستنفار.. الذي يجب أن يكون بصفة خاصة أمنيا وعسكريا لوأد أي محاولة لتغيير الوقائع على الأرض. فالوقائع على الأرض لا تدفع لتغيير المواقف الإقليمية والدولية فحسب، ولكنها تطوع المفاهيم والمصطلحات وتبدل منهجيات المقاربة وآليات التفاوض. ألم نسمع من ذي قبل قيادة البوليزاريو تتحدث عن "أراض محررة" في إشارة لتلك المنطقة الواقعة بين السور الأمني والحدود مع الجزائر قبل تمشيطها؟ ألم ينقل الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية الحديث عن دولة فلسطينية من دولة على حدود 4 يونيو 1967 إلى دولة قابلة للحياة وبحدود مؤقتة أو أراضي متبادلة، وسيئد إذا استمر أي إمكانية لقيام هذه الدولة؟ 

- الاستمرار.. في طرح المبادرات الخلاقة من قبيل فكرة الحكم الذاتي، التي جلبت ثناء أوساط عديدة وباتت جزءا أصيلا من أدبيات القرارات الدولية ذات الصلة الحريصة على وصفها بالجدية المصداقية. إن ذات الجدية والمصداقية تتطلب الآن إخراج المقترح من دائرة الشد والجذب والمناكفة مع الأطراف المناوئة والبدء بتجسيد بعض ملامحه على الأرض إظهارا لحسن النية بتوازي مع المخطط التنموي الخاص بالأقاليم الجنوبية الذي يتحدث الجميع عن ضرورة سرعة تنزيله. ألم يكن مفيدا وضع إطار خاص للجهوية في الأقاليم الجنوبية ضمن القانون التنظيمي للجهات ينسجم وفحوى مقترح الحكم الذاتي؟

- الاستثمار.. ليس فقط في البنيات التحتية التي شهدت تطورا مشهودا، وإنما في الإنسان أيضا، ولاسيما الشباب الذي يمكن بسهولة كسبه إلى جانب عدالة الأطروحة المغربية. ولن يتأتى ذلك إلا عبر إعطائه فرصة أمل حقيقية، ونماذج نجاح فعلي من بين أقرانه بعيدا عن بعض المؤسسات المجتمعية التقليدية التي غدا بعضها تارة حلبة للملاكمة، وطورا سوق عكاظ للمهاترات والسفاهة، وبعيدا عن النخب العائلية المتوارثة التي راكمت فوائد الريع فقط، ولم تساهم سوى في المزيد من بث الإحباط في الأجيال القادمة وزيادة منسوب النقمة لديها، وفي انهيار الحياة السياسية التي فقدت مصداقيتها وما كانت تمثله من حلم وإغراء في الماضي، وذلك بسبب الإيغال في تدني مستوى الخطاب السياسي الذي لم نعد نراه يناقش الأفكار والمبادئ والبرامج بقدر مناقشته واستفاضته في ذمم الناس وأعراضها دون دلائل ملموسة.

إن تفعيل هذه الثلاثية من شأنه أن يعبئ مجددا كافة فئات الشعب وشرائحه للدفاع بتلقائية وأريحية عن الصحراء المغربية كل من موقعه بعيدا عن الطابع النخبوي والبيروقراطي الذي يسعى البعض لترسيخه ومن ثم احتكاره، ويعطي صورة حقيقية دائمة وليست موسمية للرأي العام الدولي عن التلاحم في الذود عن الوحدة الترابية بين الشعب والمؤسسة الملكية التي أقسمت على عدم التفريط في ذرة واحدة من رمال الأقاليم الجنوبية؛ الأمر الذي يضفي دينامية جديدة ونجاعة فعالة في التعامل الدبلوماسي مع الموضوع.

وغني عن الذكر أن مثل هذا التعامل بفضل دعم كافة مكونات المجتمع له سيزداد يقظة وقدرة على الإبداع بغية الحفاظ على المكاسب المحققة وتطويرها من جهة، والسعي الدؤوب لإيجاد شركاء ومتفهمين آخرين للرؤية المغربية، ووجاهة الطرح المغربي من جهة أخرى.

ولا شك أن هذا التوجه إذا تم إقراره سيقزم إلى حد كبير إن لم يلغ تماما ما يسميه البعض "بوليزاريو الداخل"، الذي يتسبب بين الفينة والأخرى في تشويش أمني هنا وهناك، خاصة على الصعيد الجامعي. كما من شأنه دفع خصوم الوحدة الترابية المغربية إلى تغيير قناعاتهم أو على الأقل تطويرها في اتجاه عدم رهن العلاقات الإقليمية أولا، والثنائية تاليا لنزاع مفتعل سيدركون أنه لم يعد بمقدورهم تطويعه لمصالحهم، وإنما يواصل فقط عملية استنزاف لكل الأطراف.

ومن الواضح أن تزعزع القناعات الأولى سيدفع آجلا أم عاجلا إلى النظر في استيعاب المقاربة المغربية القائمة على عدم الخلط بين المسارات، لأن ما تحتاجه منطقة المغرب العربي في هذه الظرفية الدقيقة من تاريخها ليس الشحن الفارغ للشعوب وإغلاق الحدود الذي يضاعف نسبة الحقد والضغينة ضد بعضها البعض، وإنما تقديم بصيص أمل بأن التقدم للأمام ممكن. فالجميع في قارب واحد، وعليه عبور منعرجات المياه بسلام.

"جاري يا جاري يا اللي دارك حدا داري

 خلينا نمشيو في الطريق رفاقة وصحاب...".