في الأيام الأخيرة، تناقل مسؤولون وسياسيون وناشطون حقوقيون وصحفيون من كل العالم، صورة الطفلة التي طفت جثتها على سطح الماء، بعد غرق سفينة الموت في عرض البحر المتوسط، في كارثة راح ضحيتها أكثر من 700 شخص.
بدت الفتاة الصغيرة كأنها تسبح، بملابس زاهية ملونة بالوردي والأخضر، ترفع يدا في الهواء، في حين سحب الماء تنورتها إلى ما فوق ساقيها، كما لو أن ريحا عبثت بفستانها الصغير. ربما هو فستانها المفضل، ارتدته لأنها ذاهبة لعالم جديد متمدن، ينتظرها على الضفة الأخرى، لأن أناسا مهمين سيكونون في استقبالها. لا بد أن أمها أخبرتها، وهي تجلسها على ركبتيها، أن حياة أفضل بانتظارهما، حياة ليس فيها حرب ولا موت، ولا دمار.
صحفي هولندي معروف يدعى كريس كلومب، نشر صورة الطفلة على حسابه على فيسبوك، وكتب تحتها: "لم أخجل من أوروبا يوما كما أفعل الآن، لم أخجل من هولندا، من نفسي، من هؤلاء السياسيين الأغبياء، الذين لا يرون أبعد من أنوفهم، ولا يبدون احتراما لكارثة بهذا الحجم كما أفعل الآن، عيب عليكم!".
ودعا كلومب العالم إلى التمعن جيدا في الفتاة، قائلا "هذه هي إذن، الفتاة التي كانت ستكلفكم مبلغ الإعانة الاجتماعية، وتقتطع من مخصصات عجائزكم، وتهدد أمنكم، وربما كانت ستقتل بعضكم في عملية انتحارية تنفذها في مقهى أو كنيسة، أنظروا جيدا، ها هي ميتة، هنيئا لكم وناموا، وقروا عينا".
كلمات كريس المؤثرة، والتي لامه كثيرون عليها لما تتميز به من شاعرية ورومانسية لا تتماشى مع مهنية صحفي في حجمه، جاءت كرد فعل على تعامل بعض المسؤولين الأوروبيين بلامبالاة مع الكارثة الإنسانية التي راح ضحيتها المئات، ووصل الأمر بالبعض إلى القول إن أوروبا كانت ستتكفل بمبالغ طائلة، حماها الله منها بموت هؤلاء قبل وصولهم إليها. "700 إعانة اجتماعية شهرية على مدى 50 عاما، هذا خراب للخزينة".
أوروبا اليوم تتعامل مع اللاجئين بمنطق: "دعهم يموتون، لكي يكونوا عبرة لغيرهم"، وإلا ما معنى أن يموت كل هؤلاء وهي تتفرج عليهم؟ الإحصائيات تشير إلى أن معدل الذين يقطعون البحر يوميا 293 شخصا، ومعدل من يلقى حتفه منهم 14. لماذا لا ترسل عددا كافيا من حراسها، لردعهم وإرجاع قواربهم، أو لإنقاذهم عند الحاجة؟ لماذا توقفت الحكومة الإيطالية عن إرسال “البعثة الإنسانية” التي أطلقتها في أكتوبر 2013؟، هل لأن إنقاذهم يعني المزيد من القوارب القادمة في اتجاهها؟
حسنا، ماذا نفعل وهم لا يرتدعون؟ كم يجب أن يموت منهم ليفهموا الدرس؟
قوارب الموت وجثث الطافين، لم تمنع المزيد من القوارب، من التوافد والفارين من تكرار المحاولة، ببساطة لأن دافع الحياة أقوى، ولأن الأمل في نصف حياة أفضل من موت محقق، لكن جثة الطفلة الصغيرة ذات الفستان الزهري والجورب الأخضر لقنت أوروبا درسا لن تنساه... واليوم يجتمع قادة أوروبا ليناقشوا وضع الفارين إليها من قارة تلتهمها الصراعات. فهذه هي المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي يتشرد فيها أكثر من 50 مليون لاجئ في العالم دفعة واحدة.
(عن صحيفة "العرب" بلندن)