السبت 21 سبتمبر 2024
سياسة

كيف اخترق السلفيون المغاربة حقلنا الديني؟

كيف اخترق السلفيون المغاربة حقلنا الديني؟

هل اخترق السلفيون المغاربة فعلا حقلنا الديني؟ أم أنهم يتمتعون بطلاسم خاصة جعلتهم ينومون مسؤولي القطاع، وينتصرون على الدولة والأمة في محفل رسمي، وذلك إطار يتميز بحساسية خاصة في هذه الظرفية، بعد انحصار المشروع الديمقراطي والتنويري مقابل «دعشنة» العالم؟ ذلك هو السؤال الذي نطرحه بمناسبة ندوة «السلفية، تدقيق المفهوم وبيان المضمون» التي نظمها المجلس العلمي الأعلى يوم الخميس 2 أبريل الجاري بمدينة الرباط.


حين نقرأ الورقة التوجيهية التي هيأتها المجالس لهذه الندوة، وكذا نتائج المداولات والأشغال نجد أن الندوة تبدو كما لو انعقدت في زمن ومكان معلقين في الهواء، في حين تنبه كل السياقات الوطنية والعربية والدولية إلى خطورة المد السلفي الذي صار يعمق تناسلاته وأبعاده، ويلعب على كل الأوتار من أجل إشاعة الغموض حول مشروعه الهدام للفكر والأمة والمجتمع المغربيين. ولذلك فالندوة تطرح عددا من الملاحظات التي يهم بعضها الإطار العام للسلفية بشكل عام، ويهم بعضها الآخر مضامين الندوة التي حضرها فقهاء الدولة والعلماء وسدنة الفكر السلفي.
بخصوص النوع الأول من هذه الملاحظات (الخاص بالإطار الفكري) نسجل أن من البديهي التذكير بأن الاعتبارات العامة المحيطة بالسلفية اليوم، هي غير تلك التي ميزت سلفية عصر النهضة في الشرق (نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين)، وميزت بنفس المستوى السلفية المغربية كما بلورها
السلفيون المغاربة، ابتداء من ثلاثينيات القرن الماضي، حيث كانت تلك السلفية ذات مضمون تحريري وتنويري يروم تقديم قراءة جديدة للتراث العربي والإسلامي تنزع عنه طابع التزمت الذي وسمه منذ ابن حنبل وابن تيمية. كما كان ذلك المضمون مطبوعا ببعد وطني مقاوم يعلي من قيم الحرية والإنسان في
مواجهة مكشوفة ضد الاستعمار والجهل والتخلف.
أما سلفية اليوم فقد صيغت بالشكل الذي يجعلها تكثف كل أشكال اليأس والانتقام من المجتمع ومن الدولة، ولذلك صرنا نلاحظ تمايزا بين نوعين من الممارسة السلفية:
l الأولى تقدم نفسها باعتبارها امتدادا للسلفيات الأولى، لكنها بدون مبادرة أو فعل.
l الثانية: سلفية دموية وإرهابية غارقة في الدم والظلام والبؤس الفكري.
ومع ذلك فهذا التمايز ليس بالوضوح الكافي، إذ نجد أن أنصار النوع الثاني غالبا ما يتسترون داخل جلابيب النوع الأول، وذلك في حالة كمون وتربص. وهناك أمثلة كثيرة على هذا الغموض الانتهازي الذي يجعل حزبا كالنور في مصر يعمل بمبدإ التقية كامنا اتجاهاته الانغلاقية في انتظار التمكين، وهو
يرى أن أولى خطوات هذا التمكين الانقضاض على البرلمان المصري المزمع تنصيبه في الأشهر القادمة. وفي الوضع المغربي، نجد عددا من السلفيين يعلنون إدانتهم للإرهاب، لكن ما أن تسمع فتاواهم حتى يتضح لك البعد «الداعشي» لرؤيتهم للدين وللكون.
فهل استحضرت ندوة المجالس هذا التغير الجديد في الممارسة السلفية؟ انطلاقا من متابعتنا لأشغال الندوة يتبين أن هذه الأشغال كانت في واد، والحقيقة السلفية في واد آخر. وبذلك أضاعت الندوة جزءا كبيرا من أهدافها المتصورة، إذ عوض التوضيح كان التغميض، وعوض الفهم كان التستر على واقع
الأمور.
لقد حملت الندوة عنوان «السلفية، تدقيق المفهوم وبيان المضمون»، ومعنى ذلك أن الاستراتيجية المبتغاة تستوجب من الناحية المنهجية فحص المفاهيم، وقراءتها في بعدها التاريخي المرتبط بتطور هذه المفاهيم، وبعد الوضع الراهن حيث يتم الفحص على ضوء ما يجري في الواقع، وفي طبيعة التنظيمات
المسماة سلفية. وهذا ما لم يتحقق عمليا لعدد من الاعتبارات، أولاها، أنه رغم التعريفات التي أعطيت لمفهوم السلفية، بقي المفهوم هلاميا لعدم تشخيصه تشخيصا حقيقيا. وعندما يغيب التشخيص، فلا يمكن التعويل على العلاج. في نفس الإطار الغامض، ركزت معظم العروض على مفهوم التوفيق بين
السلفية والتصوف. وهو أمر لا يستقيم. فلا معنى لسلفية لا تنطح، ولا معنى لتصوف لا يشطح. فإما أن يذوب الواحد منهما في الآخر. أما أن يتعايشا فهذا من المحال البين.

الاعتبار الثاني، أنه لم يتم تحليل مفهوم السلفية باعتبارها سليلة الإيديولوجية الوهابية التي انتشرت على أرض الحجاز منذ القرن الثامن عشر للميلاد، ومثلت منذ ظهورها التجلي الواضح للمذهب الحنبلي، ولتصورات وفتاوى ابن تيمية، ومن هناك صارت المعتقد الرسمي لبعض الدول الخليجية، وبدون استحضار هذا الجذر التاريخي يصعب قراءة المفهوم بشكل جيد، وليس عبثا أن ينبثق فكر القاعدة ومؤسسه من داخل شبه الجزيرة العربية.
هذا المعطى لا يترجم دعوة دينية أو تصورا فكريا تحاول أن تصرفه تلك الدول في مجال بناء الأفكار والاجتهادات، بل لقد صار في ملتهم إطارا تعبويا تخصص له موارد  مالية من أجل النشر والانتشار  في العالم العربي والإسلامي. وهنا  لا يمكن أن نغفل أثناء القراءة أثر الإيديولوجية
الوهابية -  في توطين القاعدة في أفغانستان، وفي إشعال نار الحرب الأهلية في الجزائر لمدة عشر سنوات...
لقد غيبت الندوة هذا السياق التاريخي، مثلما غيبت ما هو أخطر، كون السلفية بمفاهيمها القائمة على الغموض، وعلى أحادية  الفكرة والتنظيم، وعلى التزمت المذهبي  تهدد مؤسسة إمارة المؤمنين القائمة على رحابة المذهب المالكي، وترفض أن تتعايش في كنفها أو معها.
من المؤسف أن مجريات الندوة تجعل المتتبع يسجل أن شكل الندوة ومضمونها جعلاها قد تندرج بهذا التخبط في وظيفة التدليس على المستوى الداخلي والخارجي، في الوقت الذي ستوفر فيه المزيد من ظروف الحماية لاستنبات مزيد من التطرف في البلاد، الأمر الذي يطرح سؤال مشروعية الدولة الدينية،
والأخطر من ذلك سؤال حاضر المغرب ومستقبله. ولذلك من المؤسف كذلك تسجيل أن الرابح في هذه الندوة هو التيار السلفي على جميع الأصعدة المادية منها والرمزية، سواء من خلال المضامين التي كرست الهلامية والغموض أكثر من أي شيء آخر، أو من خلال عدد الكلمات التي أخذها الشيخ زحل مقارنة مع غيره من المنتدين. وسواء من المدلولات الرمزية، وقد تمثل ذلك بشكل جلي أيضا من
خلال هرولة وزير الأوقاف لتقبيل رأسه زحل، في حين أعرض عنه هذا الأخير، وفي ذلك فليتبارى قراء السطور وما بينها وما خلفها. وعلى نفس الخط تساءل المتتبعون كيف يمكن خلق مناخ تعبوي لمواجهة الفكر، وقد تم تهميش الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء، في حين تمت العناية بشيوخ السلفية كالفيزازي وزحل.
مجمل القول إن الندوة المذكورة قد أخطأت الموعد والسياق والأهداف، إذ كان عليها أن تدفع بالوضوح التام إلى أقصاه، عبر التأكيد على أن السلفية إما تكون رسالة تنوير وتجديد أو لا تكون، وعبر التأكيد ثانيا على أن هوية السلفي الحقيقي يحب أن تكون قاطعة مع ممارسة وفكر الغموض، أي مع فكر
القاعدة و«داعش» وأخواتها.
قد ينازعنا أحد ما في القول إنهم انتصروا اليوم، لكن المؤكد أن مغرب الاعتدال والوسطية والحوار والتسامح قد تلقى ضربة موجعة من خلال ندوة كان ينبغي أن تسمى «تغميض المفهوم وإتلاف المضمون».

 

تفاصيل أخرى تقرؤونها في العدد الجديد من أسبوعية " الـوطـن الآن" الذي نــزل إلى الأكشاك