الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

وثيقة السلام.. نموذج لدستور الدولة في مجتمع متعدد الثقافات والأديان (1-1)

وثيقة السلام.. نموذج لدستور الدولة في مجتمع متعدد الثقافات والأديان (1-1)

لئن كانت قيم التعايش وخلق التسامح تكسب صاحبها مفتاح قلوب الناس، وتضفي على المتسامح حلة من القبول والهيبة والتقدير مثل كل القيم الخلقية الأخرى، ولاسيما ذات البعد الاجتماعي منها، فإن أثر هذه القيم الإنسانية وإشعاعها يتفاوت حسب مواقع الناس من المسؤولية، وباختلاف مكانتهم من المجتمع، وحجم دورهم الإشعاعي فيه.

بيد أنها تدرك أوجه وتبلغ أشدها وكمالها في رسل الله وأنبيائه، بوصفهم الوساطة بين الله وبين خلقه في نقل خطابه إليهم، ثم تتدرج نزولا إلى من هم دونهم لتبلغ حدها الأدنى في الإنسان العادي.

والرسل أنفسهم، ليسوا في الفضل سواء، قال تعالى: "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض" - سورة البقرة الآية 253، فقيم التعايش الإنسانية في أولي العزم أقوى منها في غيرهم، لكن محمدا خاتمهم ذهب من هذا الخلق بأوفى حظ وأوفر قسم، و بشهادة القرآن الكريم الذي قال فيه:" وإنك لعلى خلق عظيم" سورة القلم الآية 4.

إن هذا الرصيد الضخم من الثروة الأخلاقية التي جعل الله ذات المصطفى وعاء لها ومستودعا لاختزانها، مستمد كله من القرآن الكريم، تمثله رسول الله وترجمه إلى سلوك عملي متحرك ملموس، كان أرقى نموذج لسيرة نبي، وتسامح رسول.

لذلك كانت الأخلاق السمحة صفة لصيقة بالإسلام الذي جاء به رسول الله، وصفة واقعية، تجسدت في أمته وحضارته وتاريخه، ولم يكن مجرد مثاليات استعصت على التطبيق.

وسأورد هنا أهم النماذج في تاريخ البشرية التي تبين مدى رقي العهد النبوي وتحليه بمبادئ الوسطية والاعتدال وخلق التعايش والتسامح، وسأكتفي في هذه المقالة الأولى بالنموذج الأول الذي وسمته بـ "وثيقة السلام.. أنموذج لدستور الدولة في مجتمع متعدد الثقافات والأديان، على أمل الانتهاء من النموذج الثاني والثالث بحول الله.

حينما يستقر الأمر بالدولة التي تتعدد انتماءات مواطنيها بتعدد الثقافات والأديان استقرارا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا، تبدأ المشاورات لوضع قوانين ومساطر تحدد طبيعة العلاقة بين الدولة الحاكمة والمواطنين المحكومين، وكذلك طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تسود بين المواطنين أنفسهم باختلاف ثقافاتهم وأعراقهم وأديانهم، ولقد كان السبق للمسلمين في وضع أول دستور للدولة يسبق زمنه بمآت بما انطوى عليه هذا الدستور من قوانين وأحكام شملت كل المواطنين مسلميهم ومسيحيهم وحتى اليهود وأهل الملل المختلفة.

ولقد سن الرسول – صلى الله عليه وسلم – في صلته بالأجانب الذين لا يدينون بدين الإسلام، سن فيها قوانين، وهي قوانين تتميز بأخلاق الاعتراف والسماح والتجاوز والعفو.

فعندما جاء النبي رسول الله إلى المدينة وجد بها يهودا توطنوا، ومشركين مستقرين، فلم يتجه فكره إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والخصام، بل قبل – عن طيب خاطر – وجود اليهود والوثنية، وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الند للند، على أن لهم دينهم وله دينه.

تتضمن هذه المعاهدة المبادئ التي قامت عليها أول دولة في الإسلام، وفيها من الإنسانية والعدالة الاجتماعية، والتسامح الديني، والتعاون على مصلحة المجتمع، وخدمة الدولة ما يجدر بنا أن ننوه به ونعرضه على أنظار العالم لكي يراه ويستفيد منه.

ونحن نقتطف فقرات من نصوص المعاهدة التي أبرمها مع اليهود، دليلا على اتجاه الإسلام في هذا الشأن.

جاء في هذه المعاهدة ما يلي1:

أن المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة.

وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيسة ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم.

وانه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وانه من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.

وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين.

لليهود دينهم وللمسلمين دينهم.

وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب من هذه الصحيفة.

وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.

وأن من خرج آمن، ومن قعد بالمدينة آمن، إلا من ظلم، واثم...

ونورد هنا المبادئ العامة التي تضمنتها هذه الوثيقة التاريخية الخالدة:

-                     وحدة الأمة المسلمة من غير تفرقة بينها

-                     تساوي أبناء الأمة في الحقوق والكرامة

-                     تكاثف الأمة دون الظلم والإثم والعدوان

-                     اشتراك الأمة في تقدير العلاقات مع أعدائها لا يسالم مؤمن دون مؤمن

-                     تأسيس المجتمع على أحسن النظم وأهداها وأقومها

-                     مكافحة الخارجين على الدولة ونظامها العام، ووجوب الامتناع عن نصرتهم

-                     حماية من أراد العيش مع المسلمين مسالما متعاونا، والامتناع عن ظلمهم والبغي عليهم

-                     لغير المسلمين دينهم وأموالهم، لا يجبرون على دين المسلمين، ولا تؤخذ منهم أموالهم

-                     على غير المسلمين أن يسهموا في نفقات الدولة كما يسهم المسلمون

-                     على غير المسلمين أن يتعاونوا معهم لدرء الخطر على كيان الدولة ضد كل عدوان

-                     وعليهم أن يشتركوا في نفقات القتال ما دامت الدولة في حالة حرب

-                     على الدولة أن تنصر من يظلم منهم، كما تنصر كل مسلم يعتدى عليه

-                     على المسلمين وغيرهم أن يمتنعوا عن حماية أعداء الدولة ومن يناصرهم

-                     إذا كانت مصلحة الأمة في الصلح، وجب على جميع أبنائها مسلمين وغير مسلمين أن يقبلوا بالصلح

-         حرية التنقل في داخل الدولة وإلى خرجها مصونة بحماية الدولة

-                     المجتمع يقوم على أساس التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان

أن هذه المبادئ تحميها قوتان:

-                   قوة معنوية، وهي: إيمان الشعب بالله مراقبته له رعاية الله لمن بر ووفى.

-                   وقوة مادية، وهي: رئاسة الدولة التي يمثلها محمد صلى الله عليه وسلم2.

إن هذه الوثيقة تنطق برغبة المسلمين في التعاون الخالص مع يهود المدينة لنشر السكينة في ربوعها، والضرب على أيدي العادين ومدبري الفتن أيا كان دينهم. وقد نصت – بوضوح – على أن حرية التدين مكفولة.

فليس هناك أدنى تفكير في محاربة طائفة أو إكراه مستضعف، بل تكاثفت العبارات في هذه المعاهدة على نصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصة والعامة.

وتأتي اللحظة التاريخية للصحيفة أو (وثيقة المدينة) في سياق متماسك، يبلغ حد النسق أو الاتساق الكامل، وهي من اللحظات المؤسسة للعلاقة مع الآخر المختلف دينيا وثقافيا، والتي يمكن اطراد القياس عليها كلما أتيح لبني الإنسان أن يقيموا بينهم علاقات سوية، لا قسر فيها ولا اعتناف ولا استلاب.

إن هذه الصحيفة حافلة بدلالات تتعلق بما وراء البنود من التوجه نحو وحدة الشعور بالجماعة الإنسانية، وحميمية العلاقات فيما بين أفرادها على اختلاف الانتماء الديني والقبلي.

وهذا الاختلاف بما هو حقيقة كونية وإنسانية لا ينبغي أن يحول دون استشعار معنى الرحم الجامعة لبني الإنسان، ولعل مقاربة من الصحيفة وأخواتها من المعاهدات تظهر لنا مدى اعتراف الإسلام بالتعددية الملية في الأرض، وعلى أن ذلك شرط موضوعي للتعارف الذي يتجاوز معرفة الآخر إلى احترام خصوصياته وثقافته.

وخلاصة ما يتراءى لنا من هذا الأنموذج الحي "للدستور الأول" الذي نظم العلاقة بين مختلف الأطياف، أن مقاصد الشرع من ذلك هو تحقيق الاستقرار الاجتماعي الذي يتجلى في تأمين سبل التعايش بين الناس مهما اختلفت أديانهم.

 

المراجع المعتمدة

1-               فقه السيرة، لمحمد الغزالي، ط2000م، مطابع دار الشروق - القاهرة.

2-               السيرة النبوية دروس وعبر، الدكتور مصطفى السباعي، ط/ 2، 1426هـ، دار الوراق الرياض.