الأحد 24 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

محمد واموسي: حين سألني ابني الطفل الصغير عن الجهاد

محمد واموسي: حين سألني ابني الطفل الصغير عن الجهاد

لم أكن أتوقع أو بالأحرى أنتظر، وأنا المقيم في فرنسا منذ أكثر من 14 عاما، أن يأتي يوم يسألني فيه ابني آدم الذي لم يتم بعد عامه التاسع عن معنى كلمة الجهاد..

سؤال محرج في ظرف أكثر إحراجا.. تلعثمت أصابعي وارتبكت وأنا أراه يركز النظر إلي وينتظر الجواب.. استجمعت كل قواي باذلا كلّ ما في وسعي لمحو أي صورة في فكره تربط الكلمة بما يبث في الإعلام الفرنسي منذ هجمات السابع من يناير الدامية على مقر صحيفة شارلي إيبدو .

قلت له: الجهاد في اللغة العربية مشتقة من كلمة الجهد أي الطاقة، وحين نقول جهد فلان فمعناها أنه بذل طاقة.

من ملامح وجهه بدا لي وكأنه غير مقتنع بجوابي على سؤاله، لأن عقل الطفل عقل مجادل مفتوح لا يقتنع بالسهولة التي قد نتصورها، فلا أحكام تقيده ولا علوم، ولا تهمه الحقائق نسبية كانت أم مطلقة! عقل حر متحرك لا ينتهي تفكيره الغض وإدراكه المحدود، عند النهايات التي يريدها الناضج ولا يتوقف عندها.

حين سألته أين سمع هذه الكلمة لم ينه جوابه بعد بأنه سمعهم يرددونها كثيرا في قنوات وإذاعات تلفزيونية فرنسية وكذلك في مدرسته بين زملائه ونقاشات أساتذتها... صمت قليلا ثم قال لي "إذن الإرهابيون الذين قتلوا الصحافيين في شارلي إيبدو عندهم طاقة كبيرة؟ أنا رأيتهم في التلفزيون يركضون وهم يطلقون النار في الشارع.... وسمعت المذيع يقول إنهم يمارسون "الجهاد".

الأكيد أن أي معلومات بسيطة يغذى بها عقل الصغير قد تنتج ببراءة فلسفة ما من فلسفات الكبار، الطفل مجادل بريء بلا خطوط حمراء وبخيال يناطح السحاب لكنه لا يقبع تحت أفق محدد، خصم للكبير وقد يهزمه بمنازلة بريئة تقتحم ما لا يجرأ الكبير على اقتحامه..، فلا نستهزئ بأسئلته وليكن حوارنا معه مشبعا بالحيطة والحذر وبأقصى ما يتوفر من ذكاء وفطنة.

مناسبة هذا القول هو استنطاق الشرطة الفرنسية في مدينة نيس لطفل فرنسي من أصول عربية مسلمة اسمه أحمد، ويبلغ من العمر ثمانية أعوام لاتهامه بتمجيد الإرهاب وعدم احترام دقيقة صمت في مدرسته ترحما على أرواح من قضوا في الهجوم على مقر شارلي إيبدو يوم الحادث.

الشرطة تحركت بناء على شكوى تقدم بها مدير مدرسته، ومادام هناك شكوى السلطات مجبرة وفق القوانين باتباع مسطرة وإجراءات وإعداد ملف اتهام وجلسات استماع وإحالة القضية برمتها على المدعى العام، وهذا الأخير يقرر من عدمه المتابعة القضائية أمام المحكمة.

وبما أن الاتهام هو تمجيد الإرهاب في ظرف رفعت فيه الحكومة درجة التأهب الأمني إلى أقصى حد سيجد المدعى العام نفسه بين أمرين لا ثالث لهما إما إحالة الملف على المحكمة الجنائية والمحاكمة لن تكون إلا بقوانين مكافحة الإرهاب المعتمدة من قبل البرلمان لمواجهة التهديدات الأمنية التي تواجهها البلاد على خلفية الهجمات الدامية التي شهدتها في السابع والثامن من شهر يناير، وإما طي الملف نهائيا وحفظه بعد عودة الطفل إلى حال سبيله، وبالتالي إلى مدرسته.

الطفل بتفكيره الغض ملاح عائم يسبر أغوار البحار وينقب فيها، لا يهاب الريح ولا تردعه ثورة الأمواج ولا يكترث لعمق الأرض والسماء، الكبير هو من يلاحقه ليقطع عليه السبل ويجفف له البحار ليستوقفه عند نهايات محددة قد لا يقلع له بعدها قارب.

كثيرون طالبوا بالتحقيق مع والدي الطفل بحكم أن صبيا صغيرا يستحيل أن يأتي بمثل هذه الأفكار الكبيرة والخطيرة من مخيلته، ورجحوا أن يكون قد ردد ما سمعه من والده أو والدته أو أحد أقربائه في المنزل، وهذا قد يكون معقولا إلى حد ما على اعتبار أن الأطفال غالبا ما يلتقط عقلهم الناشئ أي كلمات ينطقها أفراد أسرته.

لكن حين سمعت والد الطفل يتحدث في قنوات تلفزيونية فرنسية ليتبرأ من أي كلام في هذا الاتجاه تفوه به لا هو ولا زوجته، أدركت أن حالة هذا الصبي لا تختلف عن حالة ابني الذي نفخت القنوات الفرنسية دماغه الصغير بكلمات ثقيلة مثل جهاد إرهاب كواشي كوليبالي إسلاميين دون أن يفهم ما يعني ذلك بالتحديد ولماذا كله مربوط بكلمة "إسلاميين" التي توحي له بشكل مباشر بديانته وديانة والديه وأصوله الإسلام والذي لا يفرق بينهما حتى شكلا فكيف سياسيا.

المؤكد أن براءة الأطفال في قارب السياسة والأخبار وعاجل البرقيات تغلب أي نوايا أو تشكيك، لأن أي معلومات بسيطة يغذى بها عقل الصغير قد تنتج أو تنتقد بعفوية وبراءة فلسفة ما من فلسفات الكبار، الطفل مجادل بريء بلا خطوط حمراء وبخيال يناطح السحاب لكنه لا يقبع تحت أي أفق، الطفل خصم للكبير وقد يهزمه بمنازلة بريئة تقتحم ما لا يجرأ الكبير على اقتحامه.

ومن هذا المنطلق يجب أن نحتاط أشد الحيطة من أي استهزاء بأسئلته، وليكن حوارنا معه دائما مشبعا بالحيطة والحذر وبأقصى ما يتوفر من ذكاء وفطنة و استشعار.

لنعد إلى أسئلة البراءة التي لا يستبعد أن يطرحها الطفل فنجيب عنها بسهولة ممزوجة ببعض الاستهانة والسخرية قبل أن نستفيق ونجد أنفسنا أمام سؤال فلسفي عفوي صادر باسم البراءة.

مرة سألني ابني: لماذا لا يتكلم الخروف؟

أجبته مبتسما: لأنه حيوان والحيوانات لا تتكلم.

قفز الطفل محاججا: ولماذا لا تتكلم الحيوانات؟

ضحكت وقلت له: لأنها حيوانات.

شقر حاجبيه وكأنه يسعى لمحاصرتي فكريا وتوجه إلي بذات السؤال: ولماذا لا تتكلم الحيوانات؟

حينها لم أجد أمامي من مفر سوى السماء فقلت له: الله خلقهم هكذا !!

بهذا الجواب شعرت أنني وضعت نفسي في مأزق كبير، فقد رد ابني معقبا بسؤال مزدوج: ومن هو الله؟ ومن خلقه؟

هكذا أقحمت نفسي في مطب عويص حين وجدت نفسي أنتقل من بضع إجابات كسولة عن أسئلة بسيطة طرحها طفل صغير، إلى سؤال فلسفي جدلي كبير، لا يستهان به دارت حوله الفلسفات واختلفت حوله المفاهيم الفكرية والتنظيرات الغيبية.. وكثيرا ما تعاركنا بشأنه مع ملحدين أيام الدراسة في مناظرات ومناقشات لا أول لها و لا آخر.

خلاصة القول من كل هذا هي أن ما حصل مع الصبي أحمد ذي الثمانية أعوام في فرنسا هو درس وعبرة لمن كانوا يرون أنهم يحترمون حقوق الإنسان ويرونهم هم الأفضل في حرية الإنسان وغير ذلك من الحقوق، ولا يعرفون أن حقوق الإنسان عندهم فقط ثوب يغطون به وينزعوه عندما يشتد الحر.

لا يوجد أب عاقل يمكن أن يقدم على زرع أفكار متطرفة في ذهن ابنه حتى في كبره فكيف في صغره وفي بلد غربي بالتحديد مع ما يرافق ذلك من استنفار أمني وتوتر وتأهب وإجراءات احترازية في أقصى حالتها.

طفل صغير يردد ما سمعه في التلفزيون، وربما يقلد غيره من الناقمين داخل مدرسته بدون أن يعلم أصلا إن كان الفعل جيد أم سيئ ولا يذرك هل ما تفوه به خطير أم بسيط، فتختطفه الشرطة في دولة تفتخر بدفاعها عن حقوق الطفل وتقوده إلى المخفر ليحقق معه ضباط مكافحة الإرهاب شيء مؤسف بكل المقاييس وعنوان فشل ذريع للمدرسة التي يدرس فيها على اعتبار أن الحل هو بيداغوجي صرف وليس أمني.

ما أقدمت عليه الشرطة الفرنسية مع أحمد سيرجع سلبا على الحالة النفسية لهذا الطفل لا محالة، وربما يظل مشهد استنطاقه من قبل ضباط أشداء غلاظ منقوشا في ذاكرته إلى أن يكبر ويصبح يافعا.

اليوم في فرنسا هناك شبه يقين لدى الجالية المسلمة بأن القنوات التلفزيونية الفرنسية هي أكبر شاحن لعقل أبنائهم صغارا وكبارا، خاصة بعد هجمات السابع من شهر يناير الماضي في باريس، فباتت المحطات التلفزيونية الفرنسية خاصة الإخبارية منها تنافس بعضها البعض وتتسابق في مناقشة مواضبع بعينها دون أخرى، فصارت الهجرة والمهاجرون والإسلام والمسلمون والعرب والنقاب والجلباب والحلال والأمن والضواحي والحلال.. كلها مواد دسمة رئيسية، وكل منشط أو مذيع أو محلل أو مختص أو فضولي أو عابر سبيل فيها يريد أن يجنح َ بالرأي فيها إلىكفته.. ويبقى سوء الفهم يفعل فعله.