السبت 23 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الحميد جماهري: دخول إلى الخيال الإسرائيلي

عبد الحميد جماهري: دخول إلى الخيال الإسرائيلي

كيف يمكن أن ندخل الخيال الأدبي الإسرائيلي، لكي نخرج منه، من دون أوهام كبيرة، بأفكار تخدمنا، حتى ولو كانت مجرد جمل لفائدة القضية الفلسطينية؟ كدنا ننسى السؤال، من فرط ما سار خيالنا رهينة لما تفرضه القضايا الأخرى، الكبيرة والقاسية على واقعنا قبل آدابهم، ولفرط ما جف الواقع، واستعصى الخيال على.. صنوه التوهم!.

ذكّرني أبراهام يهوشوا، الكاتب والروائي الإسرائيلي، عندما وجه رسالة مباشرة إلى الرأي العام الأوروبي، عبر يومية "ليبراسيون" (التحرير) الفرنسية، بأن أرض الخيال الأدبي الإسرائيلي قد تركناها، كما تركنا مواقع أخرى في الدفاع عن عدالة الدولة الوطنية الفلسطينية المحررة، وعاصمتها القدس.

في الرسالة التي اختار لها عنواناً له دلالاته، في أوروبا اليوم، وهو: «نحن الإسرائيليين نناضل من أجل اعتراف أوروبا بدولة فلسطين»، نسيج منطقي وملتزم لمساندة الطلب الفلسطيني الموضوع على الأجندة الأوروبية. لكنها رسالة تؤكد ما يستطيعه الأدب الآخر، الناهض من بنية دولة الاحتلال لفائدة فلسطين، لا حباً في عصافير الجليل، بقدر ما هو حماية دولة الاحتلال من دمارها الذاتي، وما تحمله من بذور خرابها.

"لماذا اختفى السجال العربي-الإسرائيلي، في رقعة التأصيل الإنساني والحقوقي للحق الفلسطيني، على مرأى من الضمير العالمي وفي فسحة الإعلام؟".

أبراهام يهوشوا، مجند سابق، تحوّل إلى روائي، ويعد أحد أبرز الروائيين في دولة الاحتلال، وقاده التزامه داخل معسكر السلام إلى مساندة مبادرة جنيف المعروفة، لكنه عرف، أيضاً، كيف يبقى إسرائيلياً كامل الاحتلال أحياناً، عندما ساند ضرب غزة في 2012. وهذا التقابل بين شخصيتيه يعطي الرسالة معناها في الظرف الحالي.

ليس صاحب كتاب «إسرائيل والامتحان الأخلاقي» جندياً انتهى به المطاف راهباً في محراب القضية الفلسطينية، لكنه ضمير معذب بين بقاء إسرائيل وبقائها على حساب شعب آخر. رفيقه ومنافسه في المجد الأدبي الإسرائيلي، عاموس أوز، هو ذاته مؤسس حركة «السلام الآن»، لكنه، في الأصل، ابن والدين صهيونيين، أحد أعمامه كان مرشحاً لرئاسة إسرائيل، باسم الصهاينة العتاة ضد الرئيس وايزمان، آمن طويلاً بإسرائيل جابوتنسكي، زعيم المتطرفين الصهاينة الذي ظل يدافع عن الدم والنار. «ففيهما سقطت إسرائيل، وفيهما تنهض من جديد»، وكانت له حروب مع الراحل محمود درويش، أهمها حرب قصيدة «عابرون في كلام عابر».

هؤلاء التقوا في رسالة. فماذا تقول الرسالة؟

تتحدث مقالة أبراهام يهوشوا عن قرابة ألف مناضل، كما كتب هو، من معسكر السلام، منهم كتاب وأدباء وفنانون، وحتى ضباط وموظفون سامون سابقون، وقعوا رسالة يطالبون فيها البرلمانات الأوروبية بإقرار الاعتراف بدولة فلسطين في حدود 1967، كما تطالب بذلك منظمة التحرير الفلسطينية وأغلب القوى الفلسطينية، من أجل استئناف محادثات السلام.

يبدو السلام في هذه اللحظة أنصع من خيال، وبعيداً تماماً مثل الأدب، لكنه، مع ذلك، مبرر لكي نطرح السؤال مجدداً: لماذا اختفى السجال العربي-الإسرائيلي، في رقعة التأصيل الإنساني والحقوقي للحق الفلسطيني، على مرأى من الضمير العالمي وفي فسحة الإعلام؟

الجواب هو ربما لغياب شخصيات أدبية كبيرة وقوية الحضور، على قامة محمود درويش، الذي مرن اللغة العربية على الحديث إلى العالم، عبر الرد الدائم والمستميت على أحجيات العذاب الإسرائيلي، ومرّنها على أن تحرر جزءاً من الغرب من عقدة الذئب التي تعوي في دواخله، كلما اشتكى صهيوني ما في العالم؟

وغياب الحوار القوي لإدوارد سعيد، مع كل مصنفات الدفاع عن إسرائيل، من الموسيقيين إلى المستشرقين، مروراً بالأدباء والساسة وصناع الخيال العام وتقنينه في دول الغرب.

في الرسالة التي نحن بصددها مقومات أحلام الإسرائيلي الذي يقنعنا بأنه معذب، والمعتمد على مقولة إن حماس هي المبرر الحالي لقيام دولة فلسطين، «لأنها تغذي بالعدمية الحربية ساكنة الضفة الغربية»... وفيها، أيضاً، الدفاع عن دولتين، حتى لا تكون دولة واحدة بجنسيتين، إمكانية تاريخية وسياسية، وفيها الدفاع عن مستقبل إسرائيل التي لا يمكنها، أبداً، أن تعيش في سلام مع جيرانها، وهو ما يشكل، في نظر الموقعين، خطراً يتهدد إسرائيل على المدى البعيد. ويطالبون، بناء على هاته المسلمات، بدخول أوروبا التي كانت، في الأصل، «وراء دفع الفلسطينيين ثمن العنصرية المناهضة للسامية». ومرة أخرى، نجد التحميض السريع لصورة الأوروبي المسؤول عن عقدة الفلسطينيين، وليس الاحتلال.

خلف النبل المفترض في رسالةٍ تطالب بالحق الفلسطيني، هناك مضمرات إسرائيلية، تعيش بسلام مع منظر الفرجة التي يختارها الغرب، كلما تعلق الأمر بالضحية الحقيقي، ولا يمكن أن نترك الفراغ أمام الضمير الإسرائيلي المحمول على غيمة الأدب، بدون أن تحضر آلة التفكيك العربية، من منطلق التماسك المنطقي، المحمول، بدوره، على غيمة الأدب العربي، سواء كان مكتوبا بالعربية أو غيرها. فقد تربى جيل كبير، أو، بالأحرى، تعرّب جيل من التقدميين المغاربة (المغرب، الجزائر، تونس)، مثلاً، بفعل القضية الفلسطينية، عبر السجالات التي كان يخوض فيها أديب ومفكر، مثل عبد الكبير الخطيبي (صاحب كتاب "الاسم العربي الجريح")، في مناقشة الأدباء والمفكرين، وفي مقدمتهم جان بول سارتر، رأس الحربة في الفلسفة الوجودية.
ونحتاج، أيضاً، إلى مجاراة المؤسسة الأدبية الفر دانية والجماعية الإسرائيلية، دفاعاً عن قسطنا من الفضاء العالمي للنقاش والمبادرات. السياسيون والمناضلون والفدائيون والفصائل يقومون بدورهم، وهو الدور الأساسي. ويبقى مجال الخيال الأدبي جغرافية ممكنة، لتسجيل نقاط رابحة لفائدة القضية الأم في شرق الأوسط وغربه، وفي العالم اليوم.