Tuesday 14 October 2025
جالية

أريري: كيف صنع موسوليني من "شارع المصالحة" مدخلا لإحياء أمجاد روما؟

أريري: كيف صنع موسوليني من "شارع المصالحة" مدخلا لإحياء أمجاد روما؟ عبد الرحيم أريري في "شارع المصالحة" الرابط بين دولة الفاتيكان ووسط روما
رغم أن مساحته صغيرة ولا تتعدى 20.000 متر مربع، فإن شارع "المصالحة" Via Della Concilizone بمدينة روما، هو أفضل موقع لقراءة التاريخ الحديث لإيطاليا ونهضتها بعد قرون من السبات الذي عاشته المدينة منذ العصر الوسيط.
 
الموقع الذي اخترت التقاط صورة به، كان في السابق يضم بنايات متآكلة ومتهالكة، تحجب رؤية "ساحة الفاتيكان" وتحجب رؤية أشهر كنيسة في العالم المسيحي، ألا وهي كنيسة القديس بطرس Saint-Pierre. لكن مع صعود الفاشيين للحكم بإيطاليا عام 1922، سطر موسوليني( زعيم الفاشية بإيطاليا)، هدفا واحدا ووحيدا، ألا وهو استعادة أمجاد الأمبراطورية الرومانية، حين كانت روما تحكم العالم طوال قرون.
 
ولكي يحقق موسوليني أحلامه الأمبراطورية، كان لابد أن يطوي صفحة الخلاف بين دولة إيطاليا والفاتيكان، وأبرم في سنة 1929 معاهدة سلام مع الفاتيكان، المعروفة بمعاهدة Latran. وهي المعاهدة التي تنص على الاعتراف بالفاتيكان كدولة مستقلة، ونصت أيضا على تعويض الكنيسة عن كل الخسائر التي تسببت لها فيها إيطاليا بعد توحيد البلد عام 1870، بسبب مصادرة الأراضي والعقارات والأملاك التي كانت في حوزة النظام البابوي.
 
وكعربون على "حسن نيته"، قرر موسوليني شق أكبر شارع يربط دولة الفاتيكان ( وهي أصغر دولة في العالم لا تتجاوز مساحتها 40 هكتارا) بوسط مدينة روما، وتحديدا عند موقع قلعة "سانت أنجيلو" على ضفاف نهر " التيبر" الذي يخترق العاصمة الإيطالية، وذلك بهدف إبراز المفاتن العمرانية والمعمارية لكنيسة الفاتيكان من جهة، وتسهيل انسيباية"آلاف الحجاج المسيحيين" الذين يتوافدون على الفاتيكان في مواكبهم الدينية Procession من جهة ثانية. وتم إطلاق اسم "المصالحة" على هذا الشارع، تجسيدا لطي الخلاف بين إيطاليا والنظام البابوي بالفاتيكان.
 
لتحقيق هذا التوجه أشرف موسوليني على تتبع كل تفاصيل تهيئة شارع "المصالحة"، البالغ طوله 500 مترا وعرضه 40 مترا، بدءا من هدم كل البنايات القديمة والكئيبة التي كانت موجودة بالشارع، وصولا إلى ضبط مسار تصفيف الشارع وعلو البنايات، وهندسة ربط الشارع بالساحة الكبرى للفاتيكان.
 
لكن تهيئة شارع "المصالحة"، لم يكن يهدف فقط إلى  مصالحة مدينة روما مع الفاتيكان وإبراز الإشراقات الهندسية والمعمارية الجميلة لكنيسة القديس بطرس فحسب، بل كانت هاته التهيئة فرصة لموسوليني لترجمة قناعاته في إحياء مجد "روما العظيمة"، عبر الأمر بإنجاز بنايات فرعونية ضخمة وفخمة من جهة، وهدم كل بناية تعيق رؤية المآثر الرومانية أيا كان سكان البناية أو ملاكها من جهة ثانية. لدرجة أن سياسة هدم المباني وعدم التساهل في ذاك في مختلف أحياء روما، جعلت الإيطاليين يطلقون لقب " الفأس"(il piccon) على موسوليني. 
 
نجاح موسوليني في توظيف التعمير والعمران لتصريف سياسته الفرعونية من خلال نموذج شارع "المصالحة"، جعله يعطي الأمر لتوسيع الشوارع الأخرى الرئيسية بالمدينة بهدف "فتح شهية" المرء(مواطنا أو زائرا)، لرؤية عظمة وجمال المآثر والقلاع والقصور والحصون والكنائس والأبراج  والمدافن والأسوار التي تزخر بها روما. 
 
ولتنزيل عقيدته المتمحورة حول"إحياء أمجاد روما"، نزل موسوليني بكل ثقله لكي تظفر روما بحدث تنظيم "إكسبو 1942"، وهو الحدث الذي ظفرت به إيطاليا فعلا، ليشرع موسوليني في تسريع مخططه الرامي إلى استنساخ تجربة أباطرة روما في البناء. إلا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية أدى إلى إلغاء "إكسبو 1942"، دون أن تكتمل رؤية موسوليني.
 
رغم انهزام الفاشية (ومعها النازية) في الحرب العالمية الثانية وتحرر إيطاليا من قبضة الفاشيين، فإن ذلك لم يمنع الإيطاليين من التباهي بتركة موسوليني في التعمير والعمران. علما أن عدم تنظيم "إكسبو 1942"، ظل غصة في حلق الإيطاليين، مما جعلهم على اختلاف مشاربهم السياسية، يتوحدون لانتزاع شرف احتضان الألعاب الأولمبية لسنة 1960. ليس لاستكمال ما بدأه موسوليني من أوراش كبرى مهيكلة ترفع من مكانة مدينة روما فقط، بل لكون إيطاليا كانت أيضا، هي الطفل اليتيم في "مخطط مارشال" الأمريكي لإعادة إعمار أوربا بعد الحرب العالمية.
 
وبالتالي أراد الإيطاليون تحويل الألعاب الأولمبية لعام 1960 إلى رافعة اقتصادية لتحريك عجلة النمو بالبلاد وتمكين روما من إشعاع خارجي، خاصة وأن تنظيم الألعاب الأولمبية كان فرصة لمدينة روما لإجراء ترميم وتأهيل ضخم لأحيائها وشوارعها، وبناء المركبات الرياضية. ثم وهذا هو الأهم، كان للألعاب الأولمبية الفضل في تمكين مدينة روما، من مطار ضخم خرج للوجود في حيز زمني قصير اسمه مطار "ليوناردو دا فينشي"، الذي أضحى اليوم من أهم المطارات الأوربية (يعبره 50 مليون مسافر سنويا)، وجعل روما تضاهي كبريات الميتروبولات الأوربية من قبيل: باريس ولندن وبرلين.