ك - ف - ر «ومنها كفَّرَ، تكفيرٌ، كافرٌ، كُفْرٌ...»، أي لم يُؤمن بالوحدانيةِ، أو النبوةِ، أو الشريعةِ، أو بثلاثتها، وكفَرَ بالنعمةِ، أي أنكرَها وجحدَها ولم يشْكرها، وكفَرَ بكذا، أي تبرَّأ منهُ، أو كذبَ به.
والكُفر هو الجُحودُ، وهو خلافُ الإيمانِ، والكافرُ هو الذي لا يُصدِّقُ الرسالاتِ والنُبوءاتِ.
ورغم انتشار ظاهرةِ التكفيرِ بيننا، فإنَّني لم أجد أحدًا من هؤلاء «الكفَّار» كافرًا، طبقًا لتعريفاتِ القواميسِ والمعاجمِ العربيةِ، وطبقًا أيضًا لآياتِ القرآن، وأحاديثِ الرسُول، ولكنْ ما أراهُ هو اختلافُ وجهاتِ نظرٍ في التأويلِ والتفسيرِ والرُؤية، إذْ من يختلفُ معي، لا أحاجِجُه، أو أجادلُه بالتي هي أحسن، بل أتهمُه مُباشرةً بالكُفر، والخرُوجِ من المِلَّةِ، وأعتبرُه مُرتدًّا.
هذه هي آفةُ العصْرِ، ليس فقط من جماعاتِ الإسلامِ السياسي، ولكنْ أيضًا من «السُّلطات» الإسلاميةِ الرسميَّةِ في مصر والسعودية وإيران على وجه الخُصُوص، إذْ منْ ليس على مذهبِي فهُو خارجٌ على الدين.
فالصوفية مثلا كفارٌ في حُكم الوهابيين، بينما في مصر وإيران أولياء صالحُون، وأقطابٌ للوقتِ، وعارفُون، وأصحابُ مقاماتٍ، وهناك أيضًا من يعتبرُهم كفَّارًا، خُصُوصًا من السلفيةِ بأنواعها، وهُم أقربُ إلى الرؤيةِ «الرمليَّةِ» للإسلامِ من أيّ رُؤى أخرى.
وبهذه الطريقة التي غذاها سابقًا، وتُغذيها الآنَ، الدولُ الاستعماريةُ الكُبرى، يتم تقسيمُ المُسلمين إلى فرقٍ شتَّى، ومذاهب مُختلفةٍ، وطوائف متناحرةٍ متقاتلةٍ.
التكفيرُ صار كلمةً سهلةً يتم تداولُها لقتلِ الخصمِ، ووصمه بالإلحادِ، وإثباتِ التهمةِ عليه، ومن ثم إقامة الحدِّ، بعد إخراسِهِ وإسكاتِهِ، بحيثُ لا يستطيعُ الدفاعَ عن نفسِهِ، إذْ هو في عُرْفِ أو حُكمِ المُكفِّرين كافرٌ. ويُنفَّذ الحُكم عليه بلا قُضاة عدلٍ أو حتى قُضاة شرعيين أو صُوريين، إذْ لهُم دينُهُم ومحاكمُهُم ومشانقُهُم أو بالأدقِّ طرائق ذبحهم في جزِّ الأعناقِ أمام الناسِ، وأيضًا على تصويرها في فيديوهات تُبثُّ للعالم، يُهللون فيها، ويُكبِّرون أنَّهُم تخلَّصوا من «كافرٍ»، كان يقول عن نفسه زُورًا وبُهتانًا إنَّهُ مسلمٌ.
فمنذ تكفير على بن أبى طالب «13 من رجب 23 ق هـ/17 من مارس 599م - 21 من رمضان 40 هـ/ 27 من يناير 661 م)» ومعاوية بن أبى سفيان «602 – 680 ميلادية» على يدِ الخوارجِ، واستحلالِ الدَّم، اللذين لم يتوقفا حتى يومنا هذا، تحت مُسمَّى الدينِ، وإنْ كان هو في الحقيقة ذهابٌ نحو السُّلطةِ السياسيةِ، والاستيلاءِ عليها تحتَ سماءٍ من الدم المُسال بلا عقلٍ أو حسابٍ أو دينٍ.
أي أنَّ مُمارسةَ الإقصاءِ وتفتيشِ الضمائرِ فعلٌ قديمٌ، تبعهُما التعذيبُ والإعدامُ، بعد إثباتِ التهم، التي عادةً ما تكونُ جاهزةً من قِبلِ أميرِ الجماعةِ الإسلاميةِ، أو أكبر رأسٍ في الطائفةِ الدينيةِ، باعتباره مُحتكرَ الحقيقةَ الأوَّلَ، وقد يكونُ ذلك الأمير، لم ينلْ إلا قسْطًا صغيرًا من التعليمِ، ويكادُ (بمشقَّةٍ) يقرأ ويكتبُ، لكنَّهُ في سياقِ السُّلطةِ الدينيةِ، صَارَ إمامًا ومُفْتيا وصاحبَ كلمةٍ مسْمُوعةٍ، ورُبَّما يلعبُ المالُ أو العائلةُ دوْرًا مُهمًّا في تقلُّدِه المنصب داخل الجماعةِ.
فلو استدعيْتَ أمامكَ الآنَ مُتهمًا بالكُفرِ، وطرحتَ عليه أسئلةً تتعلَّقُ بزندقتِه أو هرطقتِه أو كُفره، فسيجيبُك أولا: ما الزندقةُ؟ وما الهرطقةُ؟ وما الكُفْرُ؟ هو فقط يعرفُ أنه لا يُكذِّبُ رسولهُ، ولا يُشْركُ مع الله أحدًا، غير أنَّه مُفاجأ بالتهم الملقاة جهلا وجُزافًا، وأنَّ جماعةً من المُفترض أنَّها من المُسلمين حكمتْ عليه بالكُفر، على عادةِ ما ورثناهُ من الأسلافِ «لا رضي اللهُ عن كثيرهم» في تكفيرِ الفرقِ الإسلاميةِ لمن يخالفُها في النَّظر.
فأبو حامد الغزالي (450 هـ - 505 هـ / 1058م - 1111م) الذي مارس التكفيرَ، ولم يسلم هو أيضًا منه، يذكُرُ في كتابه «فيصلُ التفرقة بين الإسلامِ والزندقة»، الذي كتبه نحو سنة 497 هـجرية، وفيه يضعُ حدًّا لمن يعتبرُهُ مُسلمًا، ومن يعتبرُه كافرًا أو زنديقًا، أنَّ «الحنبلي يُكفِّرُ الأشعري، زاعمًا أنه كذَّبَ الرسُولَ في إثباتِ الفوق لله تعالى، وفى الاستواءِ على العرْشِ، والأشعري يُكفِّرُه زاعمًا أنَّهُ مشبَّه وكذَّب الرسُولَ في أنه تعالى (ليس كمثله شيء)، والأشعري يُكفِّرُ المعتزلي زاعمًا أنه كذَّب الرسُول في جوازِ رؤية الله، وفى إثباتِ العلمِ والقدرة والصفات له، والمعتزلي يُكفِّرُ الأشْعري زاعمًا أن إثباتَ الصفات تكفيرٌ للقدماءِ وتكذيبٌ للرسُول في التوحيد».
ما كُنَّا عليه قديمًا، وما نحنُ فيه الآنَ، وما سنكُونُ عليه مستقبلا، حيث أرى الأفقَ واضحًا، يُنذر بالغُلو والإسرافِ، والابتداعِ، والأبلسةِ، والظلاميةِ، والضلاليةِ، والتشدُّدِ، واحتكارِ الحقِّ والحقيقةِ، ومُصَادرةِ الله، إذْ كيف نكفرُ مُسلما من أهلِ القِبلة، ينطقُ الشهادتينِ، وليس ناقضًا لهُما، أو مُنكرهُما، لأنَّ «التكفيرَ فيه خطرٌ» على الفردِ والأمَّة على حدٍّ سَواء، إذ ينشرُ الخوفَ ويبثُّ الرعبَ، ويُعِمُّ الجهلَ بين عُمُومِ الناسِ، بل يُمكنُ أن يُؤدِّى إلى نتائج عكسيةٍ، تتمثَّلُ في خُرُوجٍ جماعي من الدينِ، أو على الأقلِّ عدم الاهتمامِ به، بعدما رأينا اختفاءَ الوسطيةِ، وتطويلَ اللسانِ في أهلِ الإسلامِ، وشيوعَ التشدُّدِ والتحزُّبِ والتمذهُبِ، وانتشارَ احتكارِ فئاتٍ من جماعاتِ الإسلامِ السياسي، أو بعض الهيئاتِ الإسلاميةِ الرسميةِ للعقيدةِ.
هذا كلهُ، وغيرُه، لا يمكنُ أن يبنى أمةً واحدةً متينةً وقويةً ومُتوحدةً على كتابٍ واحدٍ هو القرآنُ، وأيضًا أمة تقبلُ تعدُّد الدياناتِ فيها، بحيثُ لا يُكفِّرُ فيها مسلموها مسيحييها، ولا يُكَفر فيها السني الشيعي والعكس.
الدينُ الحقُّ إذن، وليس الدينُ المزيَّفُ، أو الدينُ المغشُوشُ، هو من يُرسِّخُ صورتَكَ، ويُؤسِّسُ لمكانِكَ ومكانتِكَ، ويخلُقُ هويتكَ ويُؤكدُها، ويمنحُكَ خصُوصيةً، إضافةً إلى المورُوثِ القديمِ للأمَّةِ، حيثُ يتداخلُ دومًا مع الدينِ، ويُشكِّلُ معه رافدًا أساسيًّا لكينُونةِ الفردِ وماهيتِهِ، إذْ لا يُمكنُ إغفالُ، مثلا، المُكوِّنِ المِصْري في تداخلهِ مع الدينِ الإسلامي، وإكسابه سماحةً واعتدالا ووسطيَّةً، هي أساسًا موجُودةً في هذا الدين وكُل دين، إذْ لم نر دينًا يدعو إلى القتلِ، ويحضُّ على العنفِ، ويتلذَّذُ أبناؤُهُ بشُرْبِ الدماءِ، وأكلِ أكبادِ من قتلوهم من المُسلمين انتقامًا وتمثيلا لجثثهم مع أنَّ التمثيلَ منهي عنه.
فالدين يسمُو بالإنسان، ويلتفتُ إلى ما هو إنساني فيه أكثر من التفاته إلى ما هو غريزي وحيواني.
ولذا لابد طوال الوقتِ من التركيزِ على فكرة المُجتمع لا الجماعة، وإنْ كانت مصر قد «خضعت» وخُدِعَتْ لعامٍ من جماعتين هما الإخوان والسلفيون، فكان ذلك للأسف انتصارًا لفكرةِ القبيلةِ أو العشيرةِ أو الأهلِ أكثر مما هو انحيازٌ لفكرة الدولة أو المُجتمع، إذ أنَّ ابن الجماعة دائمًا ما ينظرُ فقط إلى شبيهِه أو قرينِه أو قريبهِ، أو زميله، ويعمى بصره عن الآخرين، بل يسعى إلى قتل، وليس إقصاء، من كانوا من دينٍ آخر، أو ينتمُون إلى مذهبٍ مختلف.
(عن "المصري اليوم")