بعد توصلي بدعوة من جمعية الشرفاء العروسيين بإقليم آوسرد جنوب الداخلة للمشاركة في أعمال الندوة العلمية التي انعقدتعلى هامش موسم الشيخ سيدي إبراهيم بن الشيخ سيدي أحمد لعروسي، الذي نظم لأول مرة بمنطقة "دومس" قلب تيرس بإقليم آوسرد، حيث يوجد ضريح هذا العلم الولي الصالح من أبناء الصحراء لإلقاء مداخلة حول دور الخطاب والممارسة الصوفية في نشر ثقافة التسامح والاعتدال انطلاقا من التجربة والمدرسة المغربية. لم أتردد للحظة في تلبية الدعوة رغم بعد المسافة ومشاقة السفر وخطورته خاصة ان القسم الأكبر من المسافة التي تربط مدينة الداخلة التي انطلقنا منها الى منطقة دومس بإقليم آوسرد التي توجد على تخوم الحدود الموريتانية والمحاذية كذلك لخط وقف إطلاق النار بين المغرب وحركة الانفصاليين المشغلة جزائريا هي طريق غيرمعبدة وملغومة بألغام الحقد والضغينة... ألغام الموت التي زرعتها أيادي الكراهية والعمالة والخيانة... ألغام لا تهدأ وتقفز في صمت لتقتل أو تنهش في وحشية الأبرياء في الصحراء المغربية ولا تفرق في ضحاياها بين المدنيين والعسكريين المغاربة ناهيك عن الثروة الحيوانية. ورغم أن هذا الملف يمثل قضية حقوقية وإنسانية الا ان تجار الحروب والمأساة الإنسانية من أعداء الوحدة الترابية الوطنية ما زالوا يعارضون أي مبادرة حقوقية وإنسانية لتصفية الملف قانونيا وفق المعاهدات والاتفاقيات الدولية. وأمام جمود الملف سياسيا وحقوقيا وارتباطه عضويا بقضية بملف الصحراء المغربية تقوم القوات المسلحة الملكية المرابطة بهذه الربوع بالمخاطرة بنفسها "لتعبيد" بعض الطرق والممرات الرئيسية وذلك لخلق مسالك آمنة لتسهيل عملية تنقل الدوريات العسكرية وكذا للمهمات المدنية التي تأتي من مدن الأقاليم الجنوبية للمملكة، وبهذه المناسبة أريد أن أوجه تحية تقدير وإجلال إلى أفراد القوات المسلحة الملكية الصامدة المثابرة بالصحراء المغربية وعلى التضحيات الجسيمة التي تبذلها ونكران الذات الذي تتصف به ووطنيتها المخلصة وولائها الصادق لله والوطن والملك. فعلى مدى الايام الثلاثة التي قضيناها في دومس قلب الصحراء ورغم الظروف المناخية الصعبة التي تتمثل في الزوابع والعواصف الرملية التي تجعلك تحس بقساوة الحياة التي يعيشها قاطني المنطقة من قوات المسلحة الملكية وبعض من العائلات من البدو الرحل كان افراد الجيش والدرك الملكي العين الساهرة على ضمان امن الموسم في منطقة حساسة حيث افراد مرتزقة الانفصاليين المسلحين على مرمى حجر من ضريح الولي سيدي إبراهيم لعروسي و الخيام التي تم نصبها لضيوف الموسم يتراءون إليك بالعين المجردة.
لبيت الدعوة اذن لانني اعتبر ان التصوف جوهر الاسلام ومن صميم علوم الدين وأنه غير دخيل كما يدعيه بعضهم، بل هو من مشمولات حديث جبريل – عليه السلام – الشهير الذي تضمن علوم الدين الثلاثة وهي : التوحيد والفقه والتصوف، الذي هو شرح لمعنى الإحسان كما جاء في حديث جبريل الذي رواه مسلم في صحيحه قال : " فأخبرني عن الإحسان، قال : أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تره فإنه يراك... " إلى أن قال : "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" فسمى رسول الله (ص) كلا من الإيمان الذي هو موضوع العقائد، والإسلام الذي هو موضوع الفقه والعبادات، والإحسان الذي هو موضوع التصوف دينا كما ان التصوف في مدرسته المغربية يشكل احد أركان والأعمدة الأساسية للإسلام المغربي الأصيل الحضاري المشبع بقيم المحبة والتسامح والاعتدال التي استمدها من التجربة الصوفية في نسختها المغربية كما ان هذه الخصوصية المغربية في التصوف كان لها الأثر البالغ في بناء الشخصية الدينية المغربية الجانحة الى التسامح الديني والمذهبي وقبول الآخر وقد قلت في مداخلتي ان المغرب تميز عن سائر الدول الإسلامية انه استطاع ان يؤسس لنفسه تجربة فريدة من نوعها في تدينه على المستوى العقدي والفقهي والصوفي جعلت منه مدرسة قائمة بذاتها ومن أسباب هذا التميز نجد التأثير الصوفي، فتاريخ المغرب هو تاريخ سيادة التيار الصوفي بتعبيراته المختلفة الا ان العبقرية المغربية استطاعت بحق كما في الفقه والعقيدة ان تستقل بنفسها في التصوف وصاغت نموذجها الاستثنائي في التجربة الصوفية فالتصوف في المغرب لم يكن الحاضن للتربية الروحية فقط، بل حاضن للجهاد والمقاومةأيضا في الفترات التي يتعرض فيها المغرب للتهديد الأجنبي، فلقد كانت الممارسة الصوفية هي الشكل السائد للتدين في المجتمع المغربي وذلك من خلال الرعاية الرسمية للدولة المغربية. وقدمر التصوف في بلاد المغرب الأقصى بمرحلتين : مرحلة التبعية حيث تم إدخال التصوف ابتداء من القرن الحادي عشر الميلادي من قِبل حجاج الأماكن المقدسة، ومن الصعب الحديث في هذه الفترة عن تصوف "مغربي"؛ لكون أهم الصوفية المغاربة -أمثال أبي يعزى يلنور، وابن عربي، وعلي بن حرزهم- كانوا شرقيي الصوفية. ومرحلة "مغربة" التصوف التي دشنها مولاي عبد السلام بن مشيش دفين جبل العلم بالعرائش، الذي رغم أنه درس على يد أئمة الصوفية التابعين -كأبي مدين الغوث وعلي بن حرزهم- فإنه لم يسلك مسلكهم؛ بل سعى إلى التميز عنهم، وقد أكمل تلميذه أبو الحسن الشاذلي مرحلة مغربة التصوف لتصل ذروتها مع محمد بن سليمان الجزولي. وهذا المعطى التاريخي كان من الاعتبارات التي حفزتني لحضور موسم سيدي ابراهيم بن سيدي احمد لعروسي دفين سمارة فهو من ابناء عمومة مولاي عبد السلام بن مشيش العلمي الادريسي المنتسب الى البيت النبوي الشريف فالشيخ سيدي ابراهيم لعروسي هو من ذرية الشيخ سيدي أحمد العروسي بن محمد بن علي بن القاسم الشبية بن محمد الديباج بن الامام جعفر الصادق بن الامام محمد الباقر بن الامام زين العابدين بن الامام الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأمه فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم) وكلاهما ينتسب الى بنو هاشم واللقب جاء عن طريق جدهم السيد محمد وكتب التاريخ ذكرت السيد علي وقالت يعرف أولاده ببني العروس ومن الواضح انه ليس للسيد علي أولاد سوى ولد واحد وهو محمد. والتسمية مازالت معنا الى يومنا الحاضر وبقية التسمية جارية في اولاده سواء بالمشرق او بالمغرب الكل معروفة باولاد العروس أو اولاد العروسي. فالشرفاء العلميين المشيشيين و العروسيين اذن كان لهم الفضل الكبير في مغربة التصوف المغربي واعطاءه هويته المغربية وكانت لحركتهم الصوفية والدعوية والعلمية والجهادية الاثر الكبير في تدعيم اسس الدولة المغربية التي رعت من جانبها هذا التصوف معنويا واجتماعيا وسياسيا ولا غرابة في ذلك مادام انها –يعني الدولة المغربية – هي التي وضعت الحجر الاساس للاسلام الصوفي المغربي بدءا من دولة الاشراف الادارسة الى دولة الاشراف العلويين. هذا الاسلام الصوفي شكل على امتداد قرون من الزمن اساس الوحدة الوطنية على المستوى الديني والروحي والسياسي واليه يرجع الفضل في اقتدار الدولة المغربية وقوتها فالتصوف المغربي امتد إلى ما وراء الحدود، فتأسست بمختلف أقاليم الشمال الإفريقي ـ بل وحتى في مصر - زوايا تقتبس من معين المدرسة الصوفية المغربية كالتيجانية والطيبية بتونس، كما أحدث المغاربة أورادا خاصة لطرق خارجة عن المغرب مثل القادرية. فهذا الامتداد الروحي والصوفي إذا من جبل العلم حيث مدفن مولاي عبد السلام بن مشيش مرورا بدفين سمارة الشيخ سيدي احمد لعروسي ودفين دومس بأوسرد سيدي ابراهيم بن احمد لعروسي وليس انتهاء بامتداد الطرق الصوفية المغربية في موريتانيا ومالي... يشكل علامة بارزة وحجة دامغة على اصالة الدولة المغربية ووحدتها الدينية والروحية والسياسية وهنا جددت الإرسال لإخواننا من ذوي الذهنيات الضيقة عن إدراك هذا العمق المغربي لإفريقيا، وهذا ما قلته لإخواننا من انفصاليي الصحراء، وأجدد قوله لهم ولغيرهم ممن يعنيهم هذا الخطاب: كيف تتحدثون عن انفصال الصحراء عن شمالها المغربي في الوقت الذي انطلقت فيه الإمبراطوريات المغربية التاريخية العظمى من الصحراء، ونخص بالذكر هنا الدولة المرابطية والموحدية... كما شكلت في الآن نفسه مدينة فاس قبلة ومرجعية علمية وعلمائية وثقافية وروحية وفقهية لكل الزوايا والطرق الصوفية الإفريقية، ولكل طالبي العلم والحضارة..
استعرضت المداخلات التي القيت في الندوة مناقب الشيخ سيدي ابراهيم لعروسي كشخصية علمائية وصوفية زاهدة ودوره في الجهاد والمقاومة على نهج والده وأجداده في المدرسة الصوفية المغربية الذين تنكروا لذواتهم وانزووا الى الصحاري والجبال والخلوات وزهدوا في الدنيا للتفرغ للعلم والمعرفة وإعداد ذاتهم والمجتمع لتحمل المسؤولية والذود عن الوطن والإنسان والأرض وقلت في مداخلتي في هذا المضمار ان من مرتكزات التي تجذرت في البناء الحضاري للمدرسة المغربية تاريخيا أن الشخصيات العظيمة التي أثرت بقوة في مسيرة وحركة المجتمع والتاريخ لا تموت ولن تموت، حتى وإن فارقت أجسادها الحياة بذلك المعنى الحركي، لأن إنجازاتها الاستثنائية تمنحها حياة أزلية وخلودا أبديا يمنحها استمرارية في الوجود، يلازم المعاني الإنسانية بفوائدها وبدلالاتها وبمعانيها التي تمنح الإنسان حياة أخرى، وهذا ما لمسناه في حركة علمائنا كنموذج أغسطين الذي ظل شامخا في الوجود العالمي بما تركه من أعمال إلى الآن، كما لمسنا ذلك أيضا في شخصية القاضي عياض، ومع الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، كما ترسخ هذا المعنى في التاريخ المعاصر مع رواد المقاومة مع الشريف سيدي امحمد أمزيان، ومع الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، ومع موحا أوحمو الزاياني، فالتراث العلمي والروحي والصوفي والمقاوم الحي لهؤلاء وغيرهم من روادحركات المقاومة والحرية ضد أعداء القيم الإنسانية والكونية والمجتمع، قد خلد مفهوم الحياة الأبدية التي استمرت مع هؤلاء بعقولهم ونفوسهم وإخلاصهم وشهامتهم ووفائهم، وهو ما نجد أن القرآن الكريم نفسه قد حث عليه في موارد كثيرة حينما اعتبر أن الذين يعيشون بحواسهم من أجل إغناء أجساهم فحسب هم ميتون ولذلك وصفهم في كثير من الآيات بأنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون، كما وصفهم في موارد أخرى بأن لهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، وشبههم بالأنعام ، بل هم أضل، كما أورد في مورد آخر بأن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون، فالقرآن الكريم مليء بهذه الدلالات التي تركز على مركزية القيم الإنسانية والكونية النبيلة التي تمنح للإنسان حياة أخرى-مع استثناء الأنبياء والرسل الذين وهبت لهم الإرادة الإلهية مواهب خارقة حسب القرآن الكريم- بهذه الدلالات استحضرت شخصية سيدي ابراهيم لعروسي دفين دومس او "عزري" دومس كما يحلو لأهل الصحراء ان يسمونه وللحديث بقية.