Sunday 18 May 2025
كتاب الرأي

إدريس الاندلسي: لعل الذكاء الاصطناعي يكون ضد الفساد والرشوة

إدريس الاندلسي: لعل الذكاء الاصطناعي يكون ضد الفساد والرشوة إدريس الاندلسي
المسطرة الجنائية ستخضع حتما للدستور وأنظمة المعلومة.

خير البدء في الكلام عن التبليغ عن الفساد يتجسد في تقدم العلم وقدرته على تتبع أعمال الإنسان. علمت، بحكم الممارسة في المجال المالي، أن محاربة الغش الضريبي بدأت بالفعل من خلال تطوير نظام المعلوميات وبناء قواعد البيانات المتشابهة. وصل أحد أصدقائي وزملائي لقيادة التدبير الجبائي، فكان تركيزه كبيرا على تسخير العلم لتحقيق العدالة الضريبية. سمعت آنذاك بعض أصحاب المصالح الكبرى يؤكدون على أن هذا المدير هو الأخطر على التهرب والغش الضريبي.

ولأن العلم بلغ في زماننا مرحلة الذكاء الاصطناعي الفاعل، فلقد أصبح بإمكانه فضح الفاسدين. هذا الذكاء الذي اخترق حياتنا الشخصية يعرف استهلاكنا من الغذاء، وتنظيم أعمالنا، وأين سافرنا وربما حتى شيئا من حياتنا الحميمية. يعرف الصالح منا من الطالح، ويتعدى ذلك ليرصد تطور حجم ما نمتلك من لباس وسيارات وعقارات وكيفية اقتنائها. فحتى إن غيرنا جزءا من مسطرتنا الجنائية فإن المعلومة ستظل معروفة للصحافي والمفتش والحسابات وحتما للقاضي. لا تحزنوا يا محبي الوطن والمخلصين له. ستظل مساطر كلها، بما فيها القضائية والقانونية وحتى الإدارية، غير قادرة على حجب الحقيقة. قد يعم الظلام وتسيطر العتمة للحظات، ويتسلل المجرم لكي يقوم بأفعاله، وقد يصل مبتغاه ظانا أن الحيلة الذكية تقهر كل القوانين.

سيطرت ظاهرة الأغنياء، أصحاب الأرقام القياسية في الاغتناء المسمى، حقا، بالسريع. سلكوا أصعب وأسهل السبل للانقضاض على المال العام والخاص. قدموا أنفسهم للمجتمع، في حالة هشاشة، على أنهم العارفون، والأذكياء، وذوي النفوذ، والقادرين على تملك آليات قمع من تصدى لسلوكياتهم الإجرامية. أخذوا المناصب، وتمكنوا من العار العمومي اتقنوا آليات الترامي على ملك الغير، وأصبحوا أصحاب القرار، بل وحتى نجوم الظهور عبر التلفاز خلال جلسات البرلمان بغرفتيه.

وليس كل من اعتلى منصة الخطاب من ضمن تلك الأقلية التي تستعمل ممارسة السياسة لخدمة مصالحها. ولكن الإساءة تأتي من أقلية مهيمنة تسيطر على جمعيات وأحزاب. وتمتلك القرار والإساءة إلى المؤسسات. وتصبح بعض الأغلبيات، غير الملتزمة، سندا للفاسدين. أصيب الكثير من المواطنين بإحباط حين تم منع جمعيات محاربة الفساد والنضال من أجل حماية المال من التوجه إلى المؤسسة القضائية. صوتت الأغلبية الحالية على البند الثالث من مشروع قانون المسطرة الجنائية. وتقول هذه المادة أنه "لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيس النيابة العامة بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات. كما لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية إلا بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك. خلافا للفقرة السابقة، يمكن للنيابة العامة المختصة إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية تلقائيا في الجرائم المشار إليها أعلاه إذا تعلق الأمر بحالة التلبس".

وهكذا سيصبح دور المجتمع المدني مقتصرا على دور المتفرج، والملاحظ والذي يصدر بلاغات دون أثر على السعي إلى المساهمة في إقرار حق حماية المال العام. قد أتفق مع المقتضى الذي يؤكد على دور المفتشيات العامة للمالية وللإدارة الترابية ولتلك التي تتبع للوزارات، ولكن العارف بمجال التفتيش العام سيشك في إمكانية تفعيل هذا المقتضى. وأسباب هذا الشك كثيرة ومتعددة ومرتبطة ارتباطا وثيقا بعلاقة كافة هذه المفتشيات بالسلطة التنفيذية، وبكل من يمتلك قرار التأشير على البرنامج السنوي لمهام التفتيش. والأمر يزيد "حرجا" حين يتعلق الأمر بموافقة الوزير، صاحب الوصاية، على محتوى التقرير. وهذا واقع عاشه الكثير من المفتشين منذ سنين. والكل يعرف أن شبكات العلاقات الحزبية والاجتماعية قد يكون لها أثر ضاغط على طمس حقائق لحماية فلان وعلان من متابعة أكيدة.

ولولا المجتمع المدني لما وصلت قضايا عديدة إلى القضاء. ولنا في كل فضائح مسؤولينا الموجودين أمام القضاء خير مثال على تنازع قوى الشر ضد قوى الخير. فلولا جمعيات المجتمع المدني، لما تحركت يد العدالة في كثير من قضايا الفساد الذي وصل إلى بعض جامعاتنا وبعض "أشباه الأساتذة" في قضايا مزجت الفساد بالجنس والرشوة والاغتناء السريع وتكوين شبكات إجرامية.

وهكذا تم الهجوم على مؤسسات كانت، إلى عهد قريب، شبه مقدسة رغم تنوع مناهج البحث والتحليل والرأي. ويجب التأكيد على أن جمعيات محاربة الرشوة والفساد يجب أن تخضع لأعلى معايير الصدقية والنزاهة، وكذلك الحماية. ويجب أن يعتبر التشهير والقذف والاتهام غير المؤسس على معطيات ووثائق مزورة أو غير موجودة، كلها وسائل للمساءلة القانونية ضد هذه الجمعيات. ويجب أن يعتبر كل ابتزاز في هذا المجال جريمة يحاسب على ارتكابها القانون.

وتظل قضايا الاغتناء السريع الذي يصعب على المفتشيات والجمعيات الحقوقية تتبعه وتبريره والحصول على وسائل إثباته، سببا وجيها ومبررا لتدخل القضاء. قد يتجاهل البعض انتفاخ ثروات منتخبين، غير مستثمرين ولا ممارسين لتجارة أو خدمات اقتصادية، ولكن أعين المجتمع تتميز بإمكانية الرصد العميق. ذلك الغني، الذي يسكن في الأحياء الراقية، ويعيش عيشة كبار الأغنياء ويمول "بغدق حاتمي" حملات انتخابية، يجب أن يتابع ويوجه إليه سؤال "من أين لك هذا؟".

ولكن ما ينتظر هذه الحكومة وأغلبيتها، ومهما وضعت من قوانين تحد من الرقابة الاجتماعية التي تناقض الدستور وكافة العهود الدولية التي التزمت بها بلادنا، هو أن آليات الذكاء الاصطناعي الحالية، واللوغاريتمات التي تدعمها، ذات قوة تفضح كل تقنيات الفساد والاغتناء السريع.

وللإخبار، فقد فتحت الصين مستشفى بدون أطباء ولا ممرضين، وبدون أخطاء طبية. ومن له باب واحد "الله يشدو عليه". أقفل البرلمان باب الترافع المجتمعي لمحاربة الإثراء غير المشروع والفساد. ولكن باب المؤسسات الدولية لا زال مفتوحا، ولا زال الحصول على المعلومة ممكنا من داخل كل المؤسسات، ولا زال تطور الفضاء الأزرق حاملا لمفاجآت بالصوت والصورة، وبذكاء اصطناعي سيفضح يوميا من يراكمون الثروة بطريقة مصطنعة خارج الاستثمار في الفلاحة والصناعة والخدمات. ولقد رأى كثير من هؤلاء كيف أن خوفا كبيرا سكنهم قبل نهاية السنة، وكيف زاد حجم الودائع البنكية بمئات الملايير.

محاربة الفساد بالذكاء الاصطناعي ممكن. ولا أظن البتة أن سلطتنا القضائية ستمتنع عن استعمال هذا الذكاء من أجل الوطن. ولا أظن أن المجلس الدستوري لن يراعي مقتضيات الدستور وأهمية الالتزامات الدولية للمملكة المغربية في مجال حقوق وواجبات جمعيات المجتمع المدني المسؤول والخاضع بدوره للمحاسبة والتبليغ عن أخطائه.

ممارسة السياسة في البرلمان، وبهذه الطريقة، تزيد من احتقانات لا تخدم توازنات وقوة مؤسساتنا. و"الفاهم بزاف، تواضع واسمع واقتنع بما لديك".