الجميع يتحدث عن اهمية وقف إطلاق النار في لبنان اولا وفي غزة لاحقا، رغم أن المواقف من هذه المسألة متباينة ،بين من يرى فيها انتصار لمحور المقاومة ، وبين من يرى فيها هزيمته. علما أن من يتحدثون عن الانتصار يمكن اعتبارهم صرحاء مع أنفسهم ويحددون عدوهم بكل وضوح رغم كل ما يمكن أن نقوله على مفهوم النصر او الهزيمة .وما هي الأثمان التي قدمت لهذه الغاية. وهل يمكن اعتبار عملية وقف اطلاق النارتعكس حقيقة تغير موازين القوى لصالح هذا المحور المطالب بالتحرر من الهيمنة الإسرائيلية الأمريكية ، بالتالي يمكنه من فرض شروطه في المرحلة المقبلة ؟. أم ان وقف اطلاق النار مجرد هدنة جاء بضغوط ميدانية و دولية .لكنه يبقي على حق الكيان في الاحتلال و الاعتداء ؟. انها أسئلة مغيبة سواء عند غالبية المدافعين عن هذا المحور أو عند من يشمتون في المقاومة ، الذين وإن اعتبروا عملية وقف إطلاق النار هي بداية نهاية محور طالما عملوا على تسويقه باعتباره محورا طائفيا. واعتقدوا بقصد او غير قصد انه يشكل خطرا عليهم.
بل واعتبروا المرحلة مواتية لاستكمال ما يعتقدونه اجتثاث لما تبقى من هذا المحور. علما ان المقاومة كمفهوم يروم في ابعاده الى التحرر من الهيمنة والاستقلال، لا يمكن حصره في طائفة او عرق او دين. وان المقاومة في الشرق الأوسط هي من عطلت مشروع قيام اسرائيل الكبرى في المنطقة الذي يستهدف أمن وسيادة الدول المجاورة له .كما ان هؤلاء لا يمتلكون مشروعا لتحرير أوطانهم غير ما يعبرون عنه في الخفاء والعلن من استعداد لرهن سيادتهم للكيان وأمريكا وتركيا . بل حتى التفريط في جزء من الأراضي في مقابل التخلص من المقاومة ومن إيران ، وهو ما يلتقون فيه مه مع المشروع الأمريكي لمفهوم الشرق الأوسط الجديد الذي من أهدافه اعادة تقسيم المنطقة ،وتجزئتها إلى كيانات ضعيفة متناحرة تكون دائما في الحاجة إلى دعم امريكا و اسرائيل. ويضمن تفوق هذه الأخيرة. وآخر هم أمريكا هو نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة وخير دليل على ذلك دعم الغرب الأطلسي لحرب الابادة الجماعية التي ارتكبها ولا يزال الكيان الاسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة . ودعمه لباقي الأنظمة الاستبدادية في المنطقة الخاضعة لإرادته .
لكن وبالرغم من ان هاتين المقاربتين المتواجدتين على طرفي نقيض في مسألة التعاطي مع عملية وقف إطلاق النار سواء تلك التي تمت في لبنان اوغزة. و إذا ما اضفنا ما تشهده سوريا من فوضى وتقسيم واستهداف كل مقدراتها العسكرية والبحثية من طرف الكيان .فان كلا المقاربتين لم ترقيا كذلك الى طرح الأسئلة الحارقة حول مستقبل المنطقة في ظل موازين القوى الحالية التي من خلالها يمكن وضع عملية وقف إطلاق النار في اطارها الصحيح. بالتالي فهم حدود التماس والاختلاف بين من يرى في العملية انتصار لمحور المقاومة رغم كل الدمار الحاصل في البنيات التحتية والعدد الكبير من الضحايا المدنيين والقيادات العسكرية سواء في فلسطين المحتلة او في جنوب لبنان . وبين من يرى فيها هزيمة له دون أن تكون له جرأة تحديد المنتصر، ولا تقديم اي مشروع بديل. بل فقط يهللون للهزيمة حسب رايهم. و يتطلعون الى استثمار ذلك في مشاريعهم السياسية سواء في فلسطين أو لبنان . وهي مشاريع فاقدة لاي آفاق تحررية وسادية. بل تهدف فقط الى الاذعان للارادة الاسرائيلية الامريكية تحت ذريعة المرحلة الجديدة دون حتى الكشف عن عناوين هذه المرحلة .
من اجل ملامسة الإجابة عن هذه الاسئلة لا بد من العودة الى بداية تفجر دوامة العنف التي انطلقت مع عملية طوفان الاقصى ،والسياقات الاقليمية والدولية التي جائت فيها .بالتالي وضع النتائج الحالية في سياقها السياسي الدولي والاقليمي .
ان اطلاق عملية طوفان الأقصى وما تلاها من ردة فعل اسرائيلية عنيفة في حق المدنيين الفلسطينيين، واجتياحها لغزة قبل ان تتوسع المذابح الى لبنان بعد ان دخل المحور المقاوم في عملية اسناد للمقاومة الفلسطينية . وهو ما وسع من دائرة الحرب وذلك في سياقات دولية واقليمية جد صعبة وغير مواتية تتسم على المستوى الدولي
اولا: بتفرغ روسيا لحربها ضد أوكرانيا والناتو باعتبار ان هذه المنطقة تشكل اولوية لامنها القومي الاستراتيجي .
ثانيا: بانشغال الصين بمسألة انفصال جزيرة تايوان وما تشهده منطقة جنوب شرق آسيا من تحشيدات عسكرية امريكية تهدد أمنها الإقليمي.
ثانيا: بانشغال الصين بمسألة انفصال جزيرة تايوان وما تشهده منطقة جنوب شرق آسيا من تحشيدات عسكرية امريكية تهدد أمنها الإقليمي.
وعلى المستوى الإقليمي:
اولا : بترهل النظام السوري السابق الذي أنهكته الحرب والعقوبات الصارمة التي فرضها عليها الغرب الأطلسي و دول الجوار.
ثانيا : نكفاء إيران نتيجة العقوبات والتهديد العسكري الامريكي، و الاختراقات الأمنية الداخلية التي كان من ضحاياها الرئيس روحاني وقيادات عسكرية مهمة كانت تشكل سندا كبيرا للمقاومة اضافة الى الاستهدافات الاسرائيلية المتكررة لمراكزها و مستشاريها العسكريين فوق الأراضي السورية .
اولا : بترهل النظام السوري السابق الذي أنهكته الحرب والعقوبات الصارمة التي فرضها عليها الغرب الأطلسي و دول الجوار.
ثانيا : نكفاء إيران نتيجة العقوبات والتهديد العسكري الامريكي، و الاختراقات الأمنية الداخلية التي كان من ضحاياها الرئيس روحاني وقيادات عسكرية مهمة كانت تشكل سندا كبيرا للمقاومة اضافة الى الاستهدافات الاسرائيلية المتكررة لمراكزها و مستشاريها العسكريين فوق الأراضي السورية .
كل هذا في مقابل تنامي الدور القطري التركي والإسرائيلي في المنطقة وهو الدور الذي يتقاطع إن لم نقل يسير في منحى المشروع الأمريكي الذي تريد فرضه على المنطقة .
اذن في سياق هذه الانشغالات للدول المفروض عمليا دعم محور المقاومة وذلك في مرحلة يتصاعد فيها الصراع الاستراتيجي عسكريا واقتصاديا واستخباراتيا. والتي يمكن اعتبارها مرحلة انتقالية قد تطول لسنوات قبل ان يقر العالم بضرورة اعتماد نظام عالمي جديد قائم على التعددية القطبية الذي يسمح بأعمال القانون الدولي في حل الكثير من القضايا بما فيها القضية الفلسطينية وكذا احترام سيادة الدول و استقلال قراراتها السياسية والاقتصادية. وعلاقة بالسياقات الإقليمية التي تتأثر مباشرة بالصراع الدولي الاستراتيجي الحالي الذي يشكل فيه الشرق الاوسط نقطة محورية و مجالا حصريا للنفوذ الأمريكي الإسرائيلي الذي يستميت في الدفاع عن موقعه المتقدم فيه . وهي كذلك الدول التي استشعرت خطورة تنامي المقاومات المحلية على مصالحها في وقت سابق وذلك بدعم من قوى دولية واقليمية كانت تتواجد في موقع مريح يسمح لها بالتفرغ للشرق الاوسط قبل ان تتفجر الازمات على حدودها و في داخلها بأيعاز من الغرب الاطلسي واسرائيل .
بالتالي فان المرحلة كانت مواتية بالنسبة للكيان والغرب الأطلسي لاعلان الحرب بهدف الحد من الدور المتنامي لهذا المحور. وهو ما كانت مستعدة له حسب مجريات هذه الحرب الدموية ضد شعوب المنطقة.
إن ربط الصراع في منطقة الشرق الأوسط بالصراع الدولي الجيواستراتيجي هو ما كانت تفتقده تصورات فصائل المقاومة في غزة وذلك حين بادرت الى البدء في عملية طوفان الاقصى دون الرجوع في ذلك الى شركائها في المحور، خاصة في لبنان ، واضعة بذلك الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في خانة الصراع المنفصل عن سياقاته الإقليمية والدولية. علما ان هذا الصراع المرتبط بزرع الكيان الصهيوني في المنطقة قد نشأ واستمر في سياساته العدائية برعاية ودعم من النظام الدولي الحالي منذ أكثر من 75 سنة . ولا يمكن حل هذا الصراع الا بتغيير هذا النظام.
كما أن ردة الفعل العنيفة والدموية للكيان بمساند من الغرب الأطلسي على طوفان الاقصى .قد ضيق الخيارات على باقي أطراف المحور التي لم يبقى لها خيار اخر سوى الدخول في معركة إسناد كانت مدمرة نسبيا للكيان .لكن بدرجة أكثر للبنان خاصة في جنوبه الشيعي الذي يعد بيئة حاضنة للمقاومة و الذي استهدفته حصريا الالة العسكرية الاسرائيلية بهدف خلق تفرقة مقصودة بين الطوائف اللبنانية. وهو ما عكسته آراء أغلب الأطياف السياسية المعارضة لحزب الله التي حملته المسؤولية في بدء هذه الحرب .رغم أن مجريات هذه المعركة ومن خلال الاستهداف لكل قيادات الصف الأول للحزب و تفجيرات اجهزة البيجر وذلك في زمن قياسي تدل على ان أطماع إسرائيل ككيان توسعي في غزو لبنان لم تكن وليدة لحظة انطلاق عملية الإسناد ،بقدر ما كان مشروعا جاهزا للتنفيذ من طرف الكيان. خاصة مع انشغال القوى الداعمة للمحور في جبهات أخرى وهو ما لم يكن في صالحه. ان الاقدام على عملية طوفان الأقصى وكذا الدخول في عملية الإسناد في تلك الشروط لم يخضع لتقديرات وحسابات دقيقة خاصة وان التحالف الأطلسي الإسرائيلي كان ينتظر اللحظة المناسبة والذريعة الانسب لاستهداف ما كان يعتبره تهديدا متناميا لابد من وأده قبل ان يتعاظم .
ان عملية وقف إطلاق النار إذن جاءت قي سياقات مختلفة عن التي سبقتها . سواء فيما يتعلق بانشغالات القوى الداعمة للمقاومة في جبهات اخرى او في ما يخص استعداد الكيان والقوى الغربية الداعمة له بشكل مسبق للحرب بالتجهيز العسكري والاستخباراتي اضافة الى العمل على إنهاء الدور السوري الذي انهته بأسقاط النظام السابق و تنصيب ادارة جديدة متعاونة مع الغرب واسرائيل .وكذا تحجيم الدور الإيراني عبر التهديدات العسكرية واستهداف مقراتها في سوريا اضافة الى سلسلة من الاغتيالات التي شملت علماء و قيادات مهمة داخل التراب الايراني.هذه كله ينضاف اليه استفادة الكيان من أخطائه في المواجهات السابقة مع المقاومة خاصة في لبنان التي شكلت على مدار أكثر من عشرين سنة تحديا خطيرا له . وذلك عبر الاعداد العسكري والاستخباراتي وكذا استهداف المنطقة الجنيوبية و الطائفة الشيعية باعتبارها الحاضنة الشعبية للمقاومة مع استثناء باقي المناطق والطوائف لتأليبها عليها.
بالتالي فإن وقف اطلاق النار كمطلب للمقاومة لا يمكن اعتباره بأي حال من الاحوال انتصارا للكيان الذي لم يحقق كل أهدافه من هذه الحرب المدمرة التي خاضها ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني . رغم انه ضمن لنفسه هدوءا مرحليا على جبهات لبنان و غزة و سوريا ،مع الحفاظ لفسه بحقه في استهداف المقاومين والمراكز العسكرية التابعة لها وذلك بتأييد امريكي وغربي .بل واستهداف حتى الجيش اللبناني الموكولة له إلى جانب قوات اليونيفيل تطبق قرار 701. لان الكيان وببساطه لا يلتزم بالقانون الدولي ولا القرارات الأممية. كما أن هذه العملية لا تعكس كذلك انتصارا للمقاومة التي فقدت الكثير من قياداتها وإمكانياتها العسكرية واللوجستية اضافة الى التدمير الواسع للبنيات التحتية و عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين نتيجة حرب الابادة التي مارستها اسرائيل في حقهم. الا ان المقاومة حتى وان تلقت ضربات موجعة من الغرب الأطلسي والكيان .فإن المقاومة كفكرة متأصلة لدى الشعوب المهضومة حقوقها لا يمكن ان تهزم لكونها تعكس رؤية سياسية تروم الى رفع الظلم وإحقاق السيادة والاستقلال. ولا تقتصر على عرق معين او طائفة معينة كما تسوق له بعض الطوائف في لبنان وغيره ، التي تعمل على تغطية مشروعها السياسي الخاضع للهيمنة الإسرائيلية بغطاء ديني .علما ان هذه التعبيرات المعارضة كذلك تنتقد المقاومة دون أن تكون لديها الجرأة لطرح البدائل لإحقاق السيادة .بل انها مدركة تماما ان هذه الكيان التوسعي لا يجنح للسلم ولا للقانون الدولي ولا يميز في حربه ضد الفكر المقاوم بين طائفة وأخرى. وهمه الوحيد هو إخضاع شعوب المنطقة وحكامها لإرادته الهيمنية .
خلاصة القول ان المقاومة حتى وان خسرت معركة إلا أنها لم تخسر الحرب وقادرة على استنهاض مقومات قوتها من من مشروعية وعدالة القضية التي تدافع عنها. وذلك حتى وان تم اغتيال القادة وقتل المدنيين وتدمير ممتلكاتهم . لأن المقاومة فكرة متأصلة في الوعي الجمعي للشعوب المظلومة. بالتالي سيأتي جيل جديد من المقاومين القادرين على استنهاض الفعل المقاوم مع الاستفادة من أخطاء الماضي داخليا وخارجيا، وكذا وضع الصراع الذين يخوضونه ضمن رؤية استراتيجية تروم لتغيير موازين القوى الدولية .خاصة وأن التجربة أثبتت ان النظام الدولي الحالي هو من زرع اسرائيل في منطقة الشرق الأوسط و هو من يرعاها ويدعمها كرأس حربة متقدمة في منطقة لها أهمية جيواستراتيجية كبرى بالنسبة له و أمريكا كقوة مهيمنة لحد الساعة على هذا النظام.
د.تدمري عبد الوهاب ، طنجة في 3 فبراير 2025