عيد الربيع أهم عيد في الصين والذي سيتوافق هذه السنة في 29 من شهر يناير 2025، وهذا العيد كما هو وارد في ثقافة المملكة المغربية الضاربة في القدم مرتبط في الأساس بالحصاد الوافر للحبوب الذي يضمن في العمق العيش الكريم، كما هو يعبر عن لم الشمل، الحنين والشوق لجميع أفراد العائلة، ونظرا لأهميته هاته أدرج عيد الربيع الصيني في قائمة التراث اللامادي للبشرية من طرف اليونسكو في 4 من دجنبر 2024، حيث يمثل هذا الحفل تناغم ناجح بين الإنسان والطبيعة كما يشير إلى أهمية الأمن الغذائي المرتبط أساسا بالأمن والبعد الروحي لهذا العيد، ويمكن لنا مقارنة عيد الربيع الصيني بعيد الأضحى في الدول العربية والإسلامية من الناحية الرمزية والمكانة.
وإذا صدقنا الأرقام، فإن أكثر من 900 مليون صيني يسافر كل سنة بغية الاحتفال بهذا العيد، وهكذا يمكننا بالتأكيد أن نتحدث عن أكبر هجرة جماعية منظمة في العالم تحدث كل عام، حيث يجتمع مئات الملايين من العمال والعاملات مع أبنائهم، زوجاتهم وأزواجهم، وغالبا ما يكون الأبناء في رعاية الأجداد أو الجدات. ومن الصعب أن ندرك مدى التضحيات التي يتعين على هؤلاء العمال تقديمها من أجل كسب لقمة العيش، وبالنسبة للملايين من الصينيين هذه هي الفرصة الوحيدة لتفقد أحوال العائلة على مدار السنة.
وقد أصبح عيد الربيع نافذة لشعوب العالم لمعرفة ثقافة، طقوس وعادات الصينيين حيث يتم الاحتفال به في كوريا ومنغوليا وفيتنام واليابان وتايلاند وإندونيسيا والفلبين وسنغافورة وماليزيا، ولكن أيضًا من قبل الصينيين المقيمين في الخارج في جميع أنحاء العالم، وطقوس عيد الربيع تثير الكثير من الفضول والغرابة، حيث يقال حسب أسطورة من الأساطير الصينية أنه يتم ترك الأبواب والنوافذ مفتوحة حتى يدخل الحظ وتعم السعادة في هذا البيت أو ذاك. ما أجمل هذه اللوحة للسعادة التي فضلت الاستقرار خارج الذات حتى لا يمكن التأثير عليها، وبالتالي فهي طليقة، حرة وغير قابلة للمساومة.
أما واحدة من الأساطير التي ارتبطت دوما بعيد الربيع، قد يتم سردها بسرعة: فهي تحكي عن وحش يأكل البشر، كان شكله مزيج من الثور والتنين الذي فضل اللجوء إلى الجبال العاتية لكي يعيش ويختبئ هناك، وكان يعود مرة واحدة في السنة إلى القرى والمدن لكي يثير الفوضى فيها نظرا للجوع الشديد الذي يشعر به، ولكن مثل أخيل، الذي كان كعبه هو نقطة ضعفه الوحيدة والمميتة، حيث إن أصيب هناك سقط بكامله رغم قوته وجبروته، فكان لهذا الوحش أيضًا نقطة ضعف، والتي تتجلى في اللون الأحمر والضوضاء، لذلك بدأ الناس بتزيين منازلهم باللون الأحمر وإصدار الكثير من الضوضاء بآلة الصنج أو الألعاب النارية قصد إبعاد الوحش عن منازلهم وساحاتهم، الألعاب النارية محظورة اليوم في كثير من المدن الكبرى لدواعي بيئية.
وهذا ليس بغريب إذا استقر هذا العيد في ديار بعيدة عن المصدر، لأن جميع الثقافات والحضارات عرفت دوما تلاقحا وتمازجا، والناس كانوا يتبادلون دوما البضائع والمعرفة والتقاليد الثقافية لآلاف السنين عبر الطرق البحرية أو البرية، في ما يخص تبادل البضائع يمكن لنا ذكر الحرير، التوابل والخزف، الشاي والزجاج والبارود إلخ، كما ساهم طريق الحرير القديم، باعتباره شبكة عابرة للقارات، في نقل ثقافة العالم القديم، وهكذا تم ربط الصين وشرق آسيا بالبحر الأبيض المتوسط والمملكة المغربية الآن، كما ساهم التبادل الثقافي ونقل المعرفة بين العالم الآسيوي والعربي والأوروبي في الفترة من عام 500 إلى عام 1500 في تعزيز تطور أوروبا ونهوضها، وعلى سبيل المثال يمكن لنا ذكر الإنجازات العلمية والتكنولوجيا القديمة التي وصلت كمادة خام إلى العالم العربي والإسلامي من اليونان عبر روما وبيزنطة، حيث تم تطويرها، صقلها، إثراؤها وتعميقها، وفي الفترة الحديثة المبكرة، ساهم التجار والبحارة مثل إبن بطوطة ليس فقط في تسهيل تبادل السلع، بل وأيضاً في نقل المفاهيم الثقافية، المعرفة والتكنولوجيا.
منظور تاريخي، نلاحظ اليوم تزايد قوة العلاقات الثقافية والسياسية والاجتماعية منذ القرن التاسع عشر فصاعداً، مع تسارع حثيث لوتيرة التواصل على مستوى العالم. ويعد إحياء طريق الحرير، الذي بدأته الصين في عام 2013، أحد أكبر المشاريع التجارية الطموحة حاليا، إذ تشارك فيه أكثر من 140 دولة، وبعد التجارة سيتعقبها لا محالة التناقل الثقافي والذي تمثل فيه "معاهد كونفوشيوس" و"المعاهد الثقافية الصينية" أول انطلاقة لهذا الورش المتشعب الأطراف، والتلاقح الثقافي والفكري نعمة وسبب ازدهار، رقي ونجاح الأمم.