سمك السردين، الذي كان يوما غذاء الفقراء وسيد موائدهم، أصبح عنوانا لواقع مأساوي يعكس عجز قطاع الصيد البحري عن إدارة هذه الثروة الوطنية.
في بلد يزخر بشواطئ طويلة ومخزون سمكي كبير، يتعجب المواطن المغربي من تحول هذا المورد الطبيعي إلى سلعة باهظة، يتجاوز ثمنها قدرة الكثيرين.
في كل مرة ترتفع أسعار السردين، تُقدَّم لنا تبريرات مستهلكة. مرة بسبب حرارة المياه، ومرة أخرى بسبب الجفاف، وكأن السردين كائن بري يتأثر بغياب المطر أو يهرب من شمس الصيف الحارقة. الحقيقة أن هذه الأعذار أصبحت شماعة يعلق عليها المسؤولون إخفاقاتهم المتكررة في حماية الثروة البحرية وضمان توزيعها العادل بين المغاربة.
السردين لم يهرب، بل هُرّب إلى مصانع دقيق السمك وزيته، حيث يتم سحقه بالكامل لتحقيق أرباح طائلة. هذه المصانع، التي لا تخضع للرقابة الكافية، تستهلك ثلثي الإنتاج الوطني للسردين، تاركة المواطن أمام رفوف خاوية أو أسعار خيالية. والمفارقة أن هذا الدقيق، الذي كان يفترض أن يُصنع من مخلفات السمك، أصبح يُنتَج من أجود الأنواع التي كانت تشكل عمود الغذاء الأساسي للمغاربة.
رغم الشعارات التي تُرفع حول استدامة الثروة البحرية، يعاني القطاع من فوضى واضحة. مراكب الصيد الجائر تجوب البحار دون قيود، وتجرف كل ما تجده في طريقها، بما في ذلك البيض الذي يُفترض أن يكون نواة المستقبل السمكي. وحتى فترة الراحة البيولوجية، التي يُفترض أنها ضرورية لحماية المخزون، أصبحت مجرد فترة لالتقاط الأنفاس بالنسبة لمراكب الصيد العشوائي التي تعمل بلا توقف.
أما المواطن، فهو الحلقة الأضعف في هذه السلسلة. لم يعد يجد السردين، الذي كان في متناول الجميع، إلا نادرا، وإذا وجده، فوجئ بأسعار تفوق قدرته. كيف يمكن لبلد يصدّر كميات هائلة من السردين إلى أوروبا أن يعجز عن توفير هذه المادة الغذائية الأساسية لمواطنيه؟؟
الحقيقة أن القضية لا ترتبط فقط بالعرض والطلب، بل بجشع لوبيات حولت القطاع إلى ساحة مفتوحة للنهب. هذه اللوبيات لا تهتم بالمصلحة العامة، بل تسعى فقط لتعظيم أرباحها، ولو على حساب الثروة السمكية الوطنية. وبينما تُملأ جيوب هؤلاء بالأموال، تُترك جيوب المغاربة فارغة، ويُدفع المواطنون لتحمل عبء القرارات غير المسؤولة.
غياب الرقابة وفساد التدبير جعل من قطاع الصيد البحري نموذجاً واضحا لما يمكن أن يحدث عندما تتغلب المصالح الخاصة على المصلحة العامة. الحديث عن الجفاف وحرارة المياه مجرد أعذار لإخفاء الحقيقة. المشكلة تكمن في الاستنزاف المنظم للثروة البحرية، وفي غياب استراتيجيات فعالة تعيد الاعتبار لهذا القطاع.
لقد أصبح السردين رمزا لفشل السياسات التي لا تراعي الواقع ولا تحترم احتياجات المواطنين. نحن بحاجة إلى حلول جذرية تضع حدا لهذا النزيف، تبدأ من فرض رقابة صارمة على مصانع دقيق السمك، مرورا بتنظيم عملية الصيد، وصولا إلى ضمان أن تكون الثروة البحرية في خدمة الشعب قبل الأسواق الخارجية.
السردين لم يهرب، بل طُحن في مطاحن المصالح الضيقة، وصُدّر لتحقيق أرباح لا يعود منها شيء إلى المواطن المغربي. وبينما يتغنى المسؤولون بالاستراتيجيات والإنجازات، يبقى المواطن عاجزا عن شراء كيلوغرام من سمك كان يوما "سمك الفقراء".