ان الله سبحانه وتعالى قد أنعم على عباده بنعم كثيرة، منها الظاهرة والباطنة، وعلى المكلف الناظر المتأمل الفاحص أن يعيها ويتفكر في دلالاتها حتى يزداد إيمانه ويدرك الغاية من وجوده في هذا الكون الفسيح الذي خلقه الله تعالى لعباده، ومما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" رواه ابن جرير في جامع البيان عن تأويل القرآن "193/17" .
فالمؤمن ينظر إلى نعم الله الإلهية على النفس بنور الله، فيزداد يقينه وإيمانه كلما شكر هذه النعم وأدرك قيمتها؛ لكن مفهوم نعم الله تعالى عند الفيلسوف محي الدين بن عربي (560هـ – 638هـ:) يتجاوز المعاني التقليدية ليصل إلى أبعاد روحية وعرفانية عميقة تتصل برؤيته الصوفية عن الوجود والعلاقة بين الله والإنسان، فالنعمة عند ابن عربي ليست مجرد العطاء الإلهي الظاهر مثل الرزق والصحة والبصر والمال؛ بل هي مظاهر شاملة تشمل الوجود نفسه، فيرى أن أعظم نعمة هي الوجود ذاته، لأن الله أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود بفيضه وكرمه. هذا الوجود في حد ذاته هو تجلٍ من تجليات الله ومظهر لرحمته.
كما أن النعمة عند ابن عربي ليست مادية فقط، بل تشمل الهداية إلى معرفة الله، فالمعرفة الإلهية هي من أعظم النعم التي يمكن أن ينالها العبد، وهي ما يفتح له أبواب الفهم للحقائق الإلهية.
وفي هذا السياق، يؤكد ابن عربي على أن النعم الإلهية متجددة في كل لحظة، وهذا مرتبط بفكرة التجلي الإلهي المستمر؛ الله يتجلى لعباده في كل لحظة بنعم جديدة قد لا يدركونها إلا بوعي عرفاني عميق، فالنعمة عنده تشمل كل شيء في الوجود، حتى الابتلاءات؛ فالبلاء نعمة في ذاته لأنه وسيلة لتطهير الروح ورفعها إلى مراتب أعلى، والشكر عنده كذلك ليس مجرد قول "الحمد لله"، بل هو إدراك النعمة في مظاهرها كافة، واستعمالها في طاعة الله والاقتراب منه.
ولهذا، يؤمن ابن عربي بأن النعمة هي جزء من الفيض الإلهي المطلق، الذي يتدفق من الله بلا انقطاع. هذا الفيض يربط المخلوق بالخالق، ويؤكد وحدة الوجود التي هي محور فلسفة ابن عربي الذي أراد تلخيصها في مؤلفاته وكتبه منها كتابه المعنون ب " شرح رسالة روح القدس في محاسبة النفس"، والتي تتجلى على وجه التحديد في وحدة الوجود مع إنكاره لعالم الظاهر ولا يعترف بالوجود الحقيقي إلا لله، فالخلق هم ظل للوجود الحق فلا موجود إلا الله فهو الوجود الحق. فابن عربي يقرر أنه ليس ثمة فرق بين ما هو خالق وما هو مخلوق ومن أقواله التي تدل على ذلك: "سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها".
وختاما، النعمة عند ابن عربي هي تجليات الله على عباده بكل صورها، وهي تعبير عن الحب الإلهي الشامل، فإدراك النعمة يتطلب وعياً عرفانياً يجعل الإنسان يرى في كل ما حوله أثراً من آثار الله تعالى، مصداقا لقول الله تعالى " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " .
أنس المين حلتوت، باحث في الفكر الإسلامي