''ومن هنا يظهر أن المطلب الوطني الملحاح هو إنجاز مشروع إصلاحي شمولي عام، وليس مجرد ترقيع في القوانين التي لا يمكن لها أن تصمد أمام قوة الدستور وسموه، حاليا ومستقبلا.''
بعد اطلاعي على الأسئلة الخمسة الواردة علي من أجل إبداء الرأي والتحليل في نطاق تنشيط النقاش الدائر حول مشروع قانون المسطرة الجنائية الذي صادق عليه مجلس الحكومة مؤخرا، تبين لي أن الأسئلة الخمسة متداخلة فيما بينها.
لذلك، سأحاول الإدلاء ببعض الأفكار والآراء من خلال إعادة تصنيفها، كالتالي:
لذلك، سأحاول الإدلاء ببعض الأفكار والآراء من خلال إعادة تصنيفها، كالتالي:
• ملامسة جوانب رغبة الحكومة في تقليص دور المجتمع المدني في مكافحة الفساد
إن الهدف من مراجعة قانون المسطرة الجنائية هو تحقيق التوازن الصعب بين شراسة الجريمة وتهديدها لأمن الإنسان وسلامة المواطن في بدنه وممتلكاته. وفي نفس الوقت بين حماية الحقوق الأساسية للأفراد كما أقرها دستور المملكة والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وحريات الأشخاص.
ونظرا لأهمية الموضوع، ولكونه يتعلق بما له ارتباط بالثوابت الأساسية ويدخل ضمن القوانين المهيكلة للفرد والمجتمع. مما جعله محل اهتمام ومثار انتباه الرأي العام، وبالخصوص الفاعلين من مختلف المجالات، وجعل عددا من المواد المكونة للمشروع مثار تساؤلات متعددة، وبالخصوص في الوسط الحقوقي، ومن جملتها ما اعتبرته مقيدا لحق منظمات المجتمع المدني في تتبع جرائم الفساد، بما فيها جرائم نهب المال العام، حيث أضافت المادة الثالثة من المشروع "تبليغ دعوى عمومية أقيمت يكون موضوعها الاعتداء على موظفين بمناسبة ممارستهم لمهامهم إلى الوكيل القضائي للمملكة، إضافة إلى أنه “لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام، إلا بطلب من الوكيل العام للملك (المدعي العام) لدى محكمة النقض بصفته رئيساً للنيابة العامة، بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك” ليتبين أن الغرض من هاته الإضافة هو التضييق على حركة المجتمع المدني وإضافة الثقل على كاهل الأفراد بغاية إخضاعهم لسمو فعل السلطة على حساب المواطن وحريته وحقه في إبداء رأيه تجاه أعوان السلطة. وهو ما يتجلى في وجوب التبليغ عن كل دعوى عمومية تتعلق بالاعتداء على موظف عمومي أثناء ممارسته لمهامه.
مما يشجع على التعالي على المواطن وتقييد حريته، ويقوي من المركز القانوني للسلطة، وما يمكن أن يصدر عنها من تصرفات قد تخالف القانون، زيادة على التخويف وتهديد المواطن بصفة الوظيفة التي يحملونها. وهو ما لا يساير حق المواطنة. كما أن هذه الإضافة تستهدف تقييد دور جمعيات المجتمع المدني في مكافحة الفساد ومطاردته بجميع أشكاله، بما فيها الحق في التبليغ والوشاية الصادقة.
وتظهر جليا خلفية صفة الوظيفة العمومية التي وسع المشرع الجنائي في تعريفها، لتشمل كل شخص كيفما كانت صفته يعهد إليه بمباشرة وظيفة أو مهمة ولو مؤقتة أو بدون أجر يساهم بها في خدمة الدولة (الفصل 224 من القانون الجنائي) ليتجلى بوضوح عدم ملائمة الإضافة الواردة في المشروع مع أحكام الدستور.
ومن جانب آخر، فإن الإضافة الأخرى الواردة في المادة 3 من المشروع تسعى إلى قطع الطريق أمام هيئات المجتمع المدني في رفع التظلمات والشكايات والوشايات المتعلقة بجرائم الأموال إلى النيابة العامة (الوكيل العام لدى محكمة النقض) ومطالبته بفتح بحث قضائي وتحريك المتابعة والتضييق كذلك على النيابة العامة نفسها في الجانب المتعلق بمصادر الخبر والوشايات وحصره في الإحالة التي ترد عليه من المجلس الأعلى للحسابات أو بطلب من المفتشيات العامة للمالية أو الداخلية أو من الإدارة الترابية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك ... في حين يعتبر حق المشتكي ورفع التظلم أو الوشاية أو الخبر عن وقوع الجريمة حقا من حقوق المواطن، ما دام أنه يمارسه تحت مسؤوليته ويتعرض للعقاب إذا ظهر عدم صحة شكايته.
فما المانع، والحالة هاته، من تفعيل حق الملائمة الذي تمارسه النيابة العامة بجميع مستوياتها في تقدير موضوع الشكاية وخطورتها وأهميتها والإجراءات الملائمة لمعالجتها، بما فيها الحفظ أو الأمر بإجراء البحث.
لقد قررت محكمة النقض الفرنسية في قضية ما يسمى بجمعية أنتكور ANTICOR في قرارها عدد 22.83.689 بتاريخ 13 مارس 2024 منح الأحقية الدستورية لجمعية أكور في ممارسة الدعوى كمطالبة بالحق المدني ضد الشركات التي أوشت بأنها انتهكت الأموال العمومية وخرجت عن ضوابط التقاضي. بل أكثر من ذلك أن محكمة النقض أقرت لها بذلك الحق رغم وجود قرار قضائي سابق أشارت فيه محكمة النقض وفقا للفصل 2-23 من قانون المسطرة الجنائية بالسماح فقط للجمعيات المعتمدة لمكافحة الفساد برفع دعوى مدنية عن الجرائم المنصوص عليها. وقد شهدت جمعية أنتيكور تجديد الترخيص الممنوح لها بمرسوم من الوزير الأول مؤرخ في 2 أبريل 2021، والذي ألغي بأثر رجعي بحكم صادر عن المحكمة الإدارية بباريس مؤرخ في 23 يونيو .2023
وكيف لنا بحالة المغرب الذي يشق طريقه في مشروع إصلاحي ضخم يسعى إلى التحديث ودعم الحريات وتحقيق مبادئ المحاكمة العادلة وتبسيط وتفعيل كل الأدوات التي تساهم في الوصول إلى الإنصاف وتحقيق المحاكمة العادلة.
ويحق لنا أن نرى في هذا الانحراف الوارد في المشروع تعارضا مع مبادئ الدستور وعرقلة كل الجهود المبذولة لمكافحة الفساد وتحييد تطبيق عدد من الآليات القانونية الملازمة كالقانون رقم 10-37 المتعلق بحماية المبلغين عن جرائم الفساد واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. وفيه تقليص لمهام ودور النيابة العامة والشرطة القضائية، وتوسيع الهوة في حماية المجتمع من الجريمة فيما كل ما يتعلق بالتصدي لمخالفات القانون الجنائي، زيادة على كون هذه الإضافة لن تنسجم ولن تجد مكانها في مفهوم السياسة الجنائية في التطبيق أمام التطور السريع الذي يعرفه المجتمع.
أضف إلى ذلك أن هذا النوع من التعديلات التي ترد على القوانين القائمة قد تحمل في طياتها - حسب التجربة – مخاطر تنحى نحو تجريد المجتمع، أفرادا وجماعات من كل الوسائل السلمية للتصدي للفساد ونهب المال العام وتفعيل مبدإ ربط المسؤولية بالمحاسبة الواردة في الدستور، وإفراغ الحقل الحقوقي والمدني من محتواه.
• تعدد أدوات وآليات محاربة الفساد، ومحاولة إفراغ التشريع
من محتواه يعتبر قانون المسطرة الجنائية الوعاء القانوني لممارسة الحريات الفردية والجماعية، فأثبتت التجربة والظروف المعقدة التي عاشتها أوضاع الحريات في الحقبة السابقة لصدور ظهير 3 أكتوبر 2002 المتعلق بالمسطرة الجنائية، والذي جاء ليلغي صراحة مقتضيات ظهير فبراير 1959 الذي يحتوي على قانون المسطرة الجنائية وظهير 28 شتنبر 1974 المتعلق بالإجراءات الانتقالية . فتم بذلك قلب صفحة الماضي للتوجه بثقة نحو مستقبل أفضل، يسمح بنمو هادئ لمجتمع يطمح للتناغم وتعاقب الأجيال في أجواء تحكمها المبادئ والقوانين التي تهتم بوضع الإنسان في قلب المعادلة التنموية، انطلاقا من مرجعية كونية قوامها مبادئ الحرية والعدل والإنصاف.
من محتواه يعتبر قانون المسطرة الجنائية الوعاء القانوني لممارسة الحريات الفردية والجماعية، فأثبتت التجربة والظروف المعقدة التي عاشتها أوضاع الحريات في الحقبة السابقة لصدور ظهير 3 أكتوبر 2002 المتعلق بالمسطرة الجنائية، والذي جاء ليلغي صراحة مقتضيات ظهير فبراير 1959 الذي يحتوي على قانون المسطرة الجنائية وظهير 28 شتنبر 1974 المتعلق بالإجراءات الانتقالية . فتم بذلك قلب صفحة الماضي للتوجه بثقة نحو مستقبل أفضل، يسمح بنمو هادئ لمجتمع يطمح للتناغم وتعاقب الأجيال في أجواء تحكمها المبادئ والقوانين التي تهتم بوضع الإنسان في قلب المعادلة التنموية، انطلاقا من مرجعية كونية قوامها مبادئ الحرية والعدل والإنصاف.
وقبل صدور هذا القانون، عرف المغرب مخاضا داخليا توج بتصالح ذاتي عميق وفعال من خلال مسار العدالة الانتقالية الذي شخصته توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، بجانب الدور الذي لعبته الهيئات الحقوقية مع المجتمع المدني وكافة مكونات المجتمع، ليتم تتويج كل ذلك بصدور دستور يوليوز 2011 الذي فتح ورشا كبيرا لتنزيل أحكامه وتفعيل مقتضياته، ليبقى التنزيل الفعلي موكولا إلى جميع النخب الوطنية.
في خضم هذا المسار، صدر مشروع قانون المسطرة الجنائية الذي أصبحت كثير من مقتضياته تتطلب التدقيق والإصلاح والمراجعة. لذلك، وردت في صلب المشروع الضخم للمراجعة والتحديث والتطوير، التي هي من متطلبات الميثاق الوطني حول إصلاح منظومة العدالة الذي كان موضوع حوار وطني عميق وشامل حول العدالة.
وكان من الضروري بعد مرور أزيد من عشرين سنة مراجعة هذا الوعاء وتحيينه وتوسيعه وتقويته وتعزيزه بالمبادئ الدستورية والحقوق المكتسبة، وجعله يتلائم مع الواقع الملموس.
وهذا ما تنبه إليه المشرع الدستوري، عندما أحدث عددا من الآليات وأدوات الحكامة وهيئات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها، ومن جملتها المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها والهيئات المكلفة بالنهوض بالتنمية البشرية و المستدامة و الديمقراطية التشاركية. مما يدل على أن الدستور قد استحضر خطورة تفشي ظاهرة الفساد في جميع دواليب المجتمع والدولة، والتي تستدعي المحاصرة والتصدي من خلال الوسائل المتنوعة، المجتمعية منها والبيداغوجية والقانونية والإعلامية والقضائية كذلك.
والملاحظ، أن بطء تنزيل وتفعيل هذه الآليات، والذي يستمر حتى الآن، من نتائجه، انتعاش ظاهرة الفساد واستفحالها إلى درجة أن هناك اعتقادا بأن قوتها أكبر من قوة القانون، وحتى الدستور. وهذا ما يوحي بأن هناك إرادة تسعى إلى إفراغ الدستور من محتواه وعرقلة الوصول إلى أهدافه. وهو ما يرسخه بشكل واضح، رغبة الحكومة، التي تحمل مشروع قانون المسطرة الجنائية، في إقصاء المجتمع المدني من الاهتمام بمكافحة ومناهضة جرائم الفساد، وخصوصا الفساد المالي الذي يتسرب إلى المالية العمومية والحد من دوره في تقديم الشكاوي وتتبعها والتصدي لجميع جرائم الفساد، في غفلة تامة عن كون المجتمع المدني هو مصدر دور الإعلام في المراقبة والمحاسبة، ودور المواطن نفسه، من خلال وظيفة تربوية مندمجة في مشروع تحديث المجتمع والرفع من مقومات المواطنة التي هي مصدر النبوغ والإبداع والقوة الخارقة.
فالدستور هو ميثاق وترابط بين المجتمع والدولة يسعى إلى إقامة التوازن بين حقوق الأفراد والجماعات وموقع السلطة التي تسمو بالمجتمع. ومن جملة وظائف هذه العلاقة، ضبط الإختلالات التي تعيق النمو والتطور وتعرقل نهوض المجتمع.
فنظام الحكامة الجيدة يسعى إلى تحقيق الأهداف المثلى، من جملتها توفير شروط المسائلة والشفافية وسيادة القانون. ولا يمكن تحقيقها إلا بمشاركة المعنيين بالأمر، وهم بالأساس أفراد المجتمع، التي تعتبر هيئات المجتمع المدني خلاياه التنظيمية، بجانب الأحزاب السياسية والنقابات والهيئات التمثيلية. وتبقى من مهام الدولة اعتماد التخطيط الاستراتيجي وتحديد الأهداف البعيدة للتنمية المستدامة وقيادة معركة تحقيقها. وهو ما لا يتسنى معه إغفال مظاهر الفساد ومخاطره في عرقلة مسار التنمية.
ومن هذا المنظور، فإن مكافحة الفساد والرشوة والريع ونهب المال العام يعتبر شأنا عاما يهم المجتمع والدولة، ويلعب المجتمع المدني والقوى الحية داخل المجتمع دورا بارزا في مجال التوعية بخطورة الفساد. ومن هنا يظهر أن المطلب الوطني الملحاح هو إنجاز مشروع إصلاحي شمولي عام، وليس مجرد ترقيع في القوانين التي لا يمكن لها أن تصمد أمام قوة الدستور وسموه، حاليا ومستقبلا.
كما أن التجربة أثبتت تاريخيا، بأن الدولة القوية والطامحة إلى تبوإ مراكز في سلم المؤشرات والترقية لا تقوم على التحايل على القانون والتلاعب به، بل تقوم على الترتيب والانضباط لسلطة القانون من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية. أما الفساد فهو ينتهك خصوصية المجتمع وينأى به إلى الأنانية والتفرقة والآمساواة ويقوض صرح الدولة القوية المتماسكة. مما يجعله ظاهرة ذات تداعيات خطيرة على المستقبل و الحرية والكرامة والعدالة.
• الفساد في العالم له كُلفة وبسببه يضيّع المغرب من فرص النّمو
إذا سلمنا بتقديرات كُلفة الفساد في المغرب بحوالي 5% من الناتج الداخلي الخام، أي ما يعادل 50 مليار درهم سنويا، وبكلفة الرشوة والفساد في الصفقات العمومية بحوالي 27 مليار درهم، فإن هذه المبلغ يعتبر ضخما وخطيرا على الوضع الاقتصادي للبلاد ويقوض حاجيات الوطن إلى مزيد من النمو وتشجيع الاستثمار.
وهو ما يجعل المغرب مصنفا ضمن تقرير الأمم المتحدة المتعلق بالتنمية البشرية في المركز 123، وتشير آخر الأرقام إلى أن المغرب تراجع في إدراك الفساد خلال سنة 2023 بحوالي 3 مراكز، مقارنة مع تقرير سنة 2022، فيما يحتل المركز 97 في مؤشر الشفافية ضمن 180 دولة، بدرجة 38 على 100، حيث تراجع خمس درجات في مؤشر الشفافية خلال خمسة أعوام.
وكان المغرب قد أطلق استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد بشكل متأخر سنة 2016، تمتد من 2015 إلى غاية 2025، بهدف توطيد النزاهة والحد من الفساد بشكل ملموس، رُصدت لها ميزانية ضخمة تقدر بحوالي 1,8 مليار درهم.
إن استمرار الفساد من شأنه توسيع التفاوتات الاجتماعية وتبديد الموارد وإعاقة التنمية. وهو ما انتبه إليه النموذج التنموي الجديد، الذي جعل محاربة الفساد وإحداث قطيعة مع الامتيازات هدفاً محورياً له، مع التأكيد على ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة، خصوصا، في ظل الكلفة المرتفعة للرشوة، التي تقدر بخمسة مليارات دولار.
أمام هذه الوضعية يبقى من حق كل مواطن أن يتساءل ما معنى وجدوى التشويهات التي أتت بها الحكومة في مشروع قانون المسطرة الجنائية، إذا لم يكن الغرض منها هو التغطية على الفساد وتوسيع مجالات التهرب من المسائلة وترسيخ اللآعقاب.
• المعمار الرقابي المؤسساتي وفعالية التّصدّي لكل أشكال الفساد
سبق لي أن قلت بأن المطلب الوطني الكبير هو تنزيل مشروع إصلاحي شمولي، ظهرت بوادره في النموذج التنموي الذي اتخذته الحكومة الحالية منطلقا لها، إلا أنها ما لبثت أن تناست كل مضامينه، ولم يعد يذكر في برنامجها الفعلي الحقيقي. وأكبر دليل هو مضامين المذكرة التوجيهية للقانون المالي للسنة المقبلة.
فتعدد الآليات في بعض الحالات يؤدي إلى طمس معالم الطريق وحجب المسالك والمسارات وذر الرماد على العيون وتغطية الشمس بالغربال (كما يقال) ذلك أن مسألة محاربة الفساد يعتبر ضمن مهام مراقبة المال العام الذي يضطلع به المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية. فكان من الممكن توسيع صلاحيات هذه المؤسسة وتعزيزها لتشمل الافتحاص والتقصي عن الجرائم المالية ومكامنها، وأن تكون لديها سلطة المبادرة في تحريك الدعوى العمومية، كلما ظهر لها ذلك. أما بقية الأدوات من تقارير المفتشيات الحكومية وغيرها، فهي آليات تبقى وسائل للإثبات، بقيمتها النسبية، حيث يرجع تقديرها وتقييمها إلى المحاكم المالية. ولا أرى مانعا في إعادة النظر في القانون المنظم للمحاكم المالية، خصوصا بعد إلغاء محكمة العدل الخاصة وإقامة ما يسمى بالمحاكم المالية المحدودة العدد على صعيد ثلاث محاكم استئنافية فقط في المغرب.
لأن سلطة الرقابة لا تنحصر في التصحيح وإنتاج التوصيات، وفي بعض عندما يتعلق الأمر بالميزانية يسمح لها بإصدار قرارات وأحكام تأذيبية بناء على النتائج الثابتة من خلال التحقيق الذي تقوم به. فما المانع من تمديد صلاحياتها إلى التحقيق في المجالات المشبوهة وفحصها.
وقد يساهم ذلك في تحصين حقوق الدفاع من جهة وتمكين المعنيين من تقديم كل ما لديهم من رسائل حول إدانتهم أو براءتهم. وفي نفس الوقت تساهم في تلطيف وتنقية الأجواء التي تمارس فيها حاليا مساطر التحقيق والحكم، وأقل ما يمكن القول عنها أنها غير منسجمة وتفتقر إلى المنطق السليم ويغلب عليها التهرب من العقاب أو الإدانات الغير المبررة، خصوصا وأن المجلس الأعلى للحسابات ، وكذلك المجالس الجهوية قد اكتسبت تجربة غنية وكبيرة في المجالات المتعلقة بالمحاسبة العمومية وصرف المال العام والتصرف فيه. وهي التجربة التي لا يتوفر عليها قضاة المحاكم الأخرى، ولا كل ضباط الشرطة القضائية، لنعود مرة أخرى لنؤكد بأن المطلوب هو الإصلاح الشمولي، وليس الترقيع في المجال القانوني المهيكل.
لقد أظهرت طبيعة الفساد المتعددة الأوجه والكثيرة التعقيد أنه على الرغم من أن الحلول الفنية والإجرائية هي عوامل تمكينية وتعزيزية، فإنها نادرا ما تكون كافية في حد ذاتها لاستئصال آفة الفساد. وتبقى السلوكيات الفاسدة متجذرة بشدة في الأعراف الاجتماعية والثقافية والسياسية. وليس غريبا وجود صلات قوية وعلاقات مشبوهة بين السلطة والسياسة والمال.
والجدير بالذكر بأن استفحال ظاهرة الفساد شملت كل القطاعات المؤثرة وكل المجالات الحيوية (سياسة، انتخابات، إعداد النخب، طلبات العروض، التشغيل، تكافؤ الفرص، الكفاءات، الإعلام والصحافة، جمعيات المجتمع المدني نفسها، في هيكلتها وفي تحديد برامجها، ...) كلها مظاهر واضحة للعيان، ويصعب حصرها وإيجاد حل سحري شامل لها.
وهو ما يتطلب إرادة وعزيمة قوية وشجاعة وإعادة النظر في عدد كبير من التبريرات والتصرفات الظرفية والانتهازية، والتي تتم بدون محاسبة ولا رقابة.
وأكيد أن أي تأثير ملموس ضد الفساد قد يستغرق وقتا طويلا. مما يجعل تحقيق النمو الاقتصادي على المدى الطويل والرخاء المشترك رهينا بتعاون الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني من أجل التصدي للفساد وآثاره المدمرة، باعتبار أن إفساد الديمقراطية من شأنه زعزعة ثقة الناس وإيمانهم بجدواها وصلاحها.
إن الرهان الكبير للنموذج التنموي الجديد هو التأسيس لمشروع يمكن المغرب من تأسيس منظومة جنائية وطنية فعالة تجعله ينسجم مع تعهداته الدولية، من جهة، وتمكنه، من جهة أخرى، من تحسين مصداقيته والرفع من منسوب الثقة في خطاباته وسياساته، وذلك على المستويين الداخلي والخارجي.
وهو ما يقتضي في مرحلة أولى خلق ائتلاف لهيئات المجتمع المدني حول مقياس مرجعي متفق عليه لتقويم تقدم أو تراجع الفساد، وأن تسعى مع الإعلام الحر والنزيه للتشهير المستمر والدائم بأي تقدم للفساد في البلاد، وأن تترابط فيما بينها بشكل يومي من خلال وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة، وأن تشكل جماعات ضغط فاعلة داخل المؤسسات الوطنية والدولية للتحفيز على التغيير الإيجابي.
عبد اللطيف أعمو/حقوقي ونقيب سابق لهيئة المحامين بأكادير وكلميم والعيون