إن المثير للانتباه في عملية الاحصاء الوطني السكان والسكنى بالمغرب لسنة 2024، هو عديد التساؤلات والقضايا التي طرحتها هذه العملية التي تناط مهمة الإشراف عليها إلى المندوبية السامية للتخطيط، هذه المؤسسة التي لها دور محوري في توجيه السياسات العمومية من خلال ما تصرح به من أرقام ومؤشرات تهم كافة الميادين المرتبطة بالمعيش اليومي للمواطنين والساكنة، غير أنها لم تسلم من النقد في طريقة تدبيرها لهذه العملية على المستوى اللوجستيكي والمادي وأيضا على مستوى الموارد البشرية. وهكذا فقد تمت الإشارة إلى جوانب وإغفال أخرى، بالمزواجة بين العقلانية واللاعقلانية، ففتح الموضوع النقاش الذي يجب أن يتحول إلى مواضع وإشكاليات أكاديمية تستحق الملاحقة العلمية، لإعادة النظر في منهجية المندوبية على المستوى البنيوي الوظيفي، بإعادة النظر في الذهنيات التي تسيرها، والتي تتاح لها إمكانيات الإشراف الإقليمي كل عقد من الزمن في تدبير عملية الإحصاء عبر اختيار المكونين والمشرفين الجماعيين والمراقبين والباحثين، وتصنيفهم إلى رسميين واحتياط، والقيام بعملية اسناد المناطق، ثم ايضا إعادة النظر في ثنائية التنظيم الدقيق والعشوائية المطلقة التي تشهدها بعض مراكز التكوين، وبيروقراطية التسيير والمواكبة لهذا الورش الوطني الكبير.
وفي هذا الصدد، فعلى الباحث استحضار الإطار المرجعي وحقول معرفية أخرى للوقوف بشكل منهجي علمي خال من الايديولوجية والعموميات لوضع المندوبية السامية للتخطيط ككل وعملية الإحصاء على وجه التخصيص تحت مجهر الدراسة العلمية والنظر إليهما بعين السوسيولوجي الميداني المتسلح بالعدة المنهجية الجامعية والموضوعية، حيث لا يمكن خوض هذه التجربة المميزة دون الاسهام الفكري العلمي بخصوص هذا الموضوع الذي يلعب دورا محوريا بالنسبة للدولة على الصعيد الوطني والاقليمي وكذا الدولي.
ولكن بالمقابل، يجب إعادة النظر في الأنساق والنظم داخل هذه المؤسسة التي تحاول عصرنة عملها لوجستيكيا بالتوجه نحو الرقمنة والذكاء الاصطناعي والاعتماد في هذا الجانب على الخبرة الوطنية على غرار المهندسين خريجي جامعة محمد السادس، ووضع تكوينات عن بعد تماشيا مع التوجه الرسمي للدولة نحو الرقمنة. غير أن السؤال المطروح هو ذاك المتعلق بمدى تأهيل الموارد البشرية المشرفة على العملية، ودرجة تمكنها من التخلص من ثقل الماضي والغايات التقليدية السائدة في الذهنيات المبنية على العرف والمقابلة العائلية والصداقة، هنا يجب فتح القوس عن مدى تطابق التكنولوجيا مع هذه الدهنيات، التي تحاول إعادة الإنتاج لنفس وضعيات الاحصاء في السنوات الماضية السابقة، وهذا ما يمكن للباحث المهتم بالموضوع ملاحظته، ومعايشته، من خلال اختيارات طغت عليها المحاباة وهو ما يمكن إثارته بقوة، كموضوع يطرح لدى مؤسسة تحاول قياس مؤشر الثقة لدى السكان، ويغفل هذا المنطق في عقد من الزمن بالقيام بهذه العملية، هنا يمكن مساءلة هذه المزواجة في المطابقة، والتي على الباحثين تناولها والوقوف عندها، والمطالبة بالحق في الحصول على المعلومة، في ما يخص معيار الاختيار والتصنيف، واسناد المناطق، مع استحضار مدى تطابق الرقمنة مع العقليات المشرفة. إضافة إلى نقطة تفاوت الأقاليم والعمالات في التنظيم حيث ساد التنظيم والعقلانية بعضها؛ والبعض الآخر عاش على وقع فوضى عارمة.
هذا إلى جانب ضرورة إعادة النظر في السيكوسوسيولجية الترابية بين المشرفين على هذه العملية، وبين الباحثين الميدانيين، وطبيعة العلاقة السائدة بينهما، والمنقسمة ما بين الليونة والعقلانية التواصل الفعال وآداب النقاش والاحترام المتبادل، وما بين منطق إصدار الأوامر والسلطوية ومحاولات التسلط وكذا العجرفة في الأفعال والأقوال، وكل ذلك في ظرف استثنائي بخصوص مهمة مؤقتة زمنها شهر فقط وما سببها من 12 يوما من التكوين الذي شمل المراقبين والباحثين.
هنا يمكن للباحث الأكاديمي والمهتم بالموضوع طرح مجموعة من الاشكاليات والتساؤلات التي يمكن للميدان أن يجيب عنها بعد مرور هذه العملية سواء بالاعتماد على المنهج الكيفي أو المنهج الكمي أو معا، وذل لدراسة النسق وما يحيط به، والتحقيق العلمي مع المشاركين وما عايشوه في مراكز التكوين، وعمليات اسناد المناطق، والتراتبية، والتواصل، لوضع تعليقات وتعقيبات علمية ممنهجة على مستويات عدة تهم شتى التخصصات والحقول المعرفية، للوقوف على خصائص هذا الحقل بمفهوم بيير بورديو وإثارة العنف الرمزي الذي لاحق المشاركين في العملية وخاصة فئة الباحثين منهم، وكيف لزموا الصمت والكتمان مقابل تعويض يومي زهيد لا يسمن ولا يغني من جوع، هروبا من واقع البطالة الذي دفعهم إلى المشاركة والقبول بالوضع رغم عملية الاحتقان والسخط عليه، علما ان بعض المراكز عرفت فوضى عارمة تدفع للتساؤل عن كيفية تدبير المندوبية مطبخها الداخلي وتسييره الذي يتنافى حتما مع عقلية التخطيط ومبادئ التخطيط، وهي المؤسسة أسندت إليها أصعب الأمور وأعقد المهام وهي تلك المتعلقة بالسهر على العملية الاستشرافية للدولة بمؤسساتها ومواطنيها وسكانها وسكناها.
وبناء على ما سبق، فإن عملية الإحصاء تحتاج إلى توصيف داخلي معمق إضافة إلى توصيف خارجي مواكب لها، وبالتالي يجب أن تنصب الكتابات والدراسات والندوات العلمية على المندوبية وعملها ومهامها، والقيام بأبحاث مقارنة بين مختلف عمليات الإحصاء التي مرت ببلادنا، وأيضا مقارنات مع نظيراتها في التجارب الدولية المقارنة.
لذا سيتبع الموضوع في سلسلة عميقة ومقالات علمية على مستويات عدة أبرزها، تدبير مراكز الاحصاء على مستوى الإقليمي بين العقلانية واللاعقلانية مع تقديم بعض النماذج المعيارية والبيروقراطية في فن التواصل والتدبير.
حسناء بيشرادن، دكتورة في القانون والعلوم السياسية