الاثنين 25 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

أحمد نور الدين: الرئيس الفرنسي ينقلب على صناديق الاقتراع..

أحمد نور الدين: الرئيس الفرنسي ينقلب على صناديق الاقتراع.. أحمد نور الدين
حين أقدم الرئيس الفرنسي ماكرون على حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة، لم يكن يتوقع أن تتصدر الجبهة الشعبية الجديدة نتائج الاقتراع وتُلحق بحزب الرئيس وتكتله هزيمة قد تكون لها آثار على النظام السياسي الفرنسي برمته. ولعلّ أقصى ما كان يتوقعه الرئيس ماكرون هو صعود اليمين المتطرف في الدور الأول، لتتم محاصرته في الدور الثاني كما جرت بذلك العادة من خلال تحالف كل الحساسيات السياسية ضد مرشحي "التجمع الوطني" بقيادة مارين لوبين. ولكن رياح السياسة الفاشلة لِما أصبح يعرف بالماكرونيّة جرَت بما لم يخطر على بال المتربع على عرش الإليزي منذ سبع سنوات. فقد قرر الناخب الفرنسي رفض العرض السياسي لتكتل "الرئيس" الذي ساهم في إضعاف القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي، وفي تردي الخدمات الاجتماعية خاصة في قطاعي الصحة والتعليم، وعمّق أزمة البطالة والتضخم ورفع فاتورة الطاقة بشكل غير مسبوق.وعوض أن يَجْنَح السيد ماكرون إلى الخيار الديمقراطي المتمثل في تعيين زعيم تكتل اليسار أو من يرشحه هذا التكتل وزيرا أولاً، راح يغذي الغموض من خلال تجاهله للجبهة الشعبية الجديدة التي تصدرت الانتخابات، وراح يروج لمقولة ألا احد من الكتل الثلاثة فاز بالأغلبية المطلقة، وهو حق أريد به باطل، لأن العرف الديمقراطي الجاري به العمل هو تعيين الوزير الأول من التشكيلة السياسية التي تتصدر الانتخابات دون اشتراط حصولها على الأغلبية المطلقة، وقد تكرر ذلك في حالات كثيرة خلال الجمهورية الخامسة. وهو ما جعل هذا العرف يرقى إلى مكانة القاعدة الدستورية.

صحيح أنه لا توجد مادة في الدستور الفرنسي تحدد أجلا معينا لرئيس الدولة لتعيين الوزير الأول الجديد، ولا توجد مادة ترغمه على اختيار الوزير الأول من الحزب أو الكتلة التي حصلت على الرتبة الاولى..
 
وهذا من العيوب الواضحة في دستور الجمهورية الخامسة والتي أظهرتها الأزمة الحالية وغير المسبوقة منذ 1958. ولكن في المقابل، رَفْضُ سيّد الإليزي تعيين وزيرٍ أول من تحالف اليسار، وطلبه من غابريال أطال الذي خسر تحالفُه الانتخابات أن يستمر في قيادة الحكومة، يعتبر انقلاباً على نتائج الاقتراع، وتجاهلاً لاختيار الشعب الفرنسي وهو ما يطرح السؤال الكبير، إذا كان الأمر كذلك فما الفائدة من إجراء الانتخابات التشريعية المبكرة إذن؟!.
 

من الناحية المنطقية يفترض أن يعيَّن الوزير الأول من الجبهة الشعبية الجديدة، المتصدرة لنتائج الانتخابات، وذلك قبل 18 يوليو 2024، تاريخ الجلسة الافتتاحية للبرلمان الجديد والتي سيتم فيها انتخاب رئيس الجمعية الوطنية وتحديد موقع كل فريق برلماني إما مع الأغلبية وإما مع المعارضة. ولكن الرئيس ماكرون اختار خلط الاوراق مرة أخرى من خلال رسالة وجهها إلى الفرنسيين عشية سفره إلى واشنطن لحضور قمة الناتو، والتي دعا فيها إلى "توافق صلب" في البرلمان من أجل الوصول إلى أغلبية بإمكانها تشكيل الحكومة. وهذا يعتبر هروبا إلى الأمام ومحاولة لاختطاف نتائج الانتخابات التشريعية التي انهزم فيها تحالفه الرئاسي. 
 
ورغم أنّ تكليف الجبهة الشعبية الجديدة بتشكيل الحكومة، يعتبر خيارا صعباً بسبب عدم حصولها على الاغلبية المطلقة، أي 289 مقعدا من أصل 577 التي تشكل الجمعية الوطنية الفرنسية؛ إلاّ أن هذا العائق ليس مبرراً مُقنعاً، لسبب بسيط وهو أنّ الحكومة الحالية التي يقودها غابريال أطال لم تكن تتوفر هي الأخرى على أغلبية مطلقة، ومع ذلك استطاعت أن تحكم وأن تُمرّر أحيانا قوانين غير شعبية بدعم من اليمين المتطرف كما هو الشأن بالنسبة لقانون الهجرة مثلا. ونفس الشيء بالنسبة للحكومة التي قادتها السيدة إلزابيت بورن من حزب الرئيس ماكرون. إذن لا شيء يمنع أن تتكرر التجربة مع الجبهة الشعبية الجديدة التي تصدرت نتائج الانتخابات التشريعية الأخير دون أغلبية مُطلقة.
 
ومما يزيد من حظوظ نجاح حكومة تكتل اليسار عند تشكلها، هو أنه لا يمكن إسقاطها حِسابياً إلا إذا تحالف تكتل الرئيس الفرنسي "ماكرون" مع اليمين المتطرف بقيادة "لوبين"، وهذا سناريو مستبعد، أولاً بالنظر إلى أن "تحالف" الرئيس ماكرون حصل على الرتبة الثانية في الدور الثاني بفضل تنازل "تحالف" اليسار عن منافسته في 80 دائرة انتخابيةً، وبالتالي فهو مدين سياسياً لليسار. وثانيا، إذا تجرأ الرئيس ماكرون من خلال تكتلّ "جميعا" على التصويت مع اليمين المتطرف لإسقاط حكومة اليسار المُفترضة فسيكون بذلك قد انتهك التعاقد الأخلاقي مع الناخب الفرنسي وسيفقد ما تبقى له من مصداقية، بل وسيُصيب العمل السياسي في مقتل.
 
بقيت هناك سناريوهات أخرى لا تقل ضررا على مصداقية الممارسة السياسية في بلد فولتير، وهي أن يحاول الرئيس ماكرون شقّ صفوف تحالف اليسار المكون من أربعة أطراف هي الحزب الاشتراكي وحزب الخضر والحزب الشيوعي وفرنسا الأبية. وإذا تمكن الرئيس من استقطاب حزبين مثلاً لتشكيل أغلبية ضد تيار "فرنسا الأبية"، فهذا سيؤدي بدوره إلى فقدان احزاب اليسار المنشقة لمصداقيتها لأنها خاضت الانتخابات التشريعية ككتلة واحدة ذات برنامج واحد. 
 
وقد بنت المكونات الأربعة للجبهة الشعبية الجديدة كلّ حملتها ضد سياسة الرئيس ماكرون وتوجهات وزيره الأول غابريال أطال في قضايا أساسية وجوهرية منها خفض سن التقاعد، وتقليص الضغط الضريبي، والزيادة في الحد الأدنى للأجور، والموقف من العدوان على غزة، وغير ذلك من الإجراءات الواضحة والمُرقّمة. فأي حزب يساري انشقّ عن جون لوك ميلانشون وتحالَفَ مع السيد ماكرون سيكون قد خان البرنامج الذي تعاقد على أساسه مع الناخبين.

ويبدو أن الرئيس ماكرون قد بدأ فعلاً في مناوراته السياسية لتعطيل خيار الوزير الأول من تكتل اليسار أو على الأقل تأجيل هذا الخيار ربحا للوقت، بدعوى عدم إرباك تنظيم الألعاب الأولمبية التي ستختتم منتصف شهر غشت.
 
ويبدو أيضاً أن الرئيس ماكرون لن يكتفي بذلك، فقد عبر ضمنيا في ندوة صحافية يوم الخميس 11 يوليو 2024، على هامش قمة الناتو في واشنطن، عن رفضه تعيين وزير أول "قد يغير أو يعرقل التزامات فرنسا في سياستها الخارجية خاصة ما يتعلق بدعم أوكرانيا ضد روسيا"، وهذا التصريح فيه إشارة إلى إقصاء "فرنسا الأبية" بزعامة ميلانشون التي لديها موقف ضد الحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى وعد الاعتراف بالدولة الفلسطينية لتلتحق فرنسا بركب إسبانيا وإيرلندا والنرويج.  

ختاماً يمكن القول بأن الخيارات التي ترمي إلى إقصاء تكتل اليسار، او إحداث انشقاق في مكوناته، أو خيار التصويت مع اليمين المتطرف لإسقاط حكومة اليسار إذا تشكّلت، هي خيارات تحمل في طياتها عوامل تفجير النظام السياسي الفرنسي الحالي وشل مؤسساته.  وبما أن الدستور الفرنسي لا يسمح للرئيس الفرنسي حل البرلمان مرة ثانية إلا بعد مرور سنة، فقد يؤدي الشلل التام للدولة إلى أزمة لا حل لها إلا باستقالة الرئيس ماكرون وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، وبذلك سيكون قد جنى على نفسه، وقد يؤدي ذلك إلى إعلان موت الجمهورية الخامسة وكتابة دستور المرحلة الجديدة.