الاثنين 4 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

حميد لغشاوي: التمثلات الافتراضية

حميد لغشاوي: التمثلات الافتراضية حميد لغشاوي
يثبت التاريخ أن أي اختراعات علمية تحدث تغييراً فكرياً واجتماعيا، ولا تقبل وجود تَمَثُلات اجتماعية  (les représentations sociales) قبلها، وأن المعرفة لا يمكن أن تجد مرتعاً فعالاً في المجتمع إلا إذا كانت وليدة ثيارات فكرية واجتماعية وفلسفية لعصرها (ابن خلدون). وهو ما يعني، في عصرنا الحديث، أن المعرفة التي لا تأخذ بعين الاعتبار التحولات الافتراضية لن تجدي نفعا، ربما يكون هذا الاستنتاج الأولي لتبرير ضعف تأثير المثقف والمدرسة، مادامت مدخلاتهما تقليدية. وإذا كنا نؤمن، اليوم، أن الوسائط الافتراضية مؤثرة على المستوى النظري، فالأمر يقتضي البحث في آثارها التي تظهر مجتمعة، أو حين تنفجر، في وجوهنا، بين الفينة  والأخرى.

ما يعيشه المجتمع الافتراضي المغربي، من تحولات على مستوى التمثلات، ليس تنفيذا لخطة محكمة تجعل الواقع المأمول ممكنا، بل هو شيء مفتوح على رهانات تفيض عن الآلة، تنحو نحو خلخلة المفاهيم وإنتاج العوائق والأزمات، وابتكار الحلول، هذا الواقع الجديد، الذي يسميه (جان بودريار) بالواقع الفائق (Hyperréel) ، واعتبره "أشد واقعية من الواقع"، نسج علاقات أفقية تتجاوز البنية العمودية السلطوية (أعلى /أدنى) نحو تأسيس "فرد شبكي" بتمثلات جديدة. 

ويقصد بالفرد الشبكي ذلك الكائن التواصلي (الفاعل والمفعول به) الغارق في المعارف وانفجار المعلومات، أو مواطن الشبكة الذي يقف على حافة المنصات، ومفترق الهويات المحلية والمعارف العابرة، إنّه إنسان رقمي( Homme Numérique . ولذلك فمفهوم نهاية الإنسان الإنساني، لايعنى، في هذا السياق، الموت من الناحية السياسية والاقتصادية،(فوكوياما)، وإنّما من ناحية التمثلات المعرفية والإديولوجية؛  أي إعادة تدوير الإنسان ببنيات معرفية ومفهومية جديدة.

وإذا كان "زيغمونت باومان" قد وصف هذا العصر ب"السيولة"، فهو يدعونا إلى اليقظة من سباتنا الماضوي، الذي صارت أنساقه هشة وتتفكك أمام أنظارنا، وهو ما خلق أزمات معنوية، تفيض بين الفينة والأخرى على وسائط التواصل الافتراضي، وتثير الكثير من اللغط والعجيج، بين الرفض والقبول. تحث هذه الأزمات إلى إعادة النظر في مسلّماتنا الفكرية والمعرفية، وإدراك التغيرات التي لحقتها.

ومناسبة هذا الكلام ما أحدثته اليوتوبر المغربية "ه. م"، (وغيرها من الفتيات اللواتي ينتمين (لاشعوريا)  إلى "النسوية الافتراضية le féminisme vertuel" وهو مصطلح تم تداوله منذ 1991 من لدن نساء قمن بتصميم صفحات خاصة على الشبكة الافتراضية للدفاع عن حقوق المرأة) حين قالت في حوار افتراضي: (مَا نَقْبَلْش التّعدد، ما نْصْرفْش على الراجل، ما نْتزوجْش براجل يْشَد أقَل من 6000درهم) وقد أثار هذا الملفوظ ضجة، على منصات التواصل الاجتماعية، سواء لدى المنخرطين في الشبكة، أو الملتزمين من النخبة الافتراضية الذين يحاولون قولبة البشرية بتصوراتهم المسبقة، وهم يغرّدون في المناطق  الافتراضية الخالية والسفلية.  

لا يمكن فهم هذه الرّجة الافتراضية، وهذا الضجيج والعجيج، دون إدراك نسق التفكير لدى الفرد الافتراضي، ولغته الحوارية. يمكن القول إنّه نسق تركيبي تحويلي، يولِّد هوية بقيم هشة. هذه الصفات تبني فرداً متمركزاً على ذاته ونرجسي،  ويتكئ على شعار: "أنا ومن بعدي الطوفان". إن هذا الطوفان المتشظي والمتحوّل والمتسارع الذي تحمله هذه "الذات الافتراضية" لا يمكن أن تقف أمامه قنطرة قديمة بأعمدتها المتآكلة، بلغة علي حرب:  "لا يتعلق الأمر بكائن هو أسير طبيعة ثابتة أو حقيقة متعالية أو فكرة أزلية. ولا هو نسخة من مثال أعلى أو أصل مصطفى أو نموذج محتذى. وإنما هو كائن ولد بالصدفة، وقد يزول، لا بالصدفة، بل نتيجة أعماله وصنائعه المهلكة، مثل هذا الكائن يقف على التخوم ويقيم على المفترقات، ويتردد بين المواقف والخيارات، أي بين مروحة الإمكانات".

إن ما قالته اليوتوبر المغربية (المتدّينة شكلا) ليس غريباً على ملمّ بالتحولات التي تصنعها الآلة الافتراضية في نسق التفكير البشري، بل يعتبرها شرطا لممارسة الوجود الافتراضي على سبيل الفاعلية والرّاهنية والظّهور بشكل مختلف. والذين ثارت حفيظتهم، يعزى السبب إلى قريحتين: الأولى فكرية متهالكة من حيث لا يظن أصحابها ولا يحتسبون. والثانية: شعبوية وفقيرة وأنانية بأوهامها الخداعة ومقاصدها المفخخة وتهويماتها الافتراضية. إنّهم افتراضيون وينقلبون ضد بعضهم بعضاً حين تنتهك ما يدْعون إليه.

وعليه، يمكن القول إن التكنولوجيا سلبت الإنسان لغته وأشياءه، ونقلته إلى عالم اللامعنى والتكرار والتحويل، إلى ألاعيب الخوارزميات، وسلطة المنصات، ورأسماليتها التافهة، ونقدها غير الخلاق؛ بعبارة أدق: نقلته إلى الصورة "الأثيرية" وخداع العبارة وحجاب الرؤية. وهو منطق صوري يتأسس على "منطق التحويل" من المحتوى إلى الشكل؛ فهذه اليوتوبر "متَدَيّنَة" من حيث الشكل، وغير ملتزمة من حيث المضمون (ما نْقْبَلْش التّعَدُّد).

ربما يبدو هذا المنطق التحويلي "Logique Transfomationnelle" مستفزاً ومثيراً، ولكنه ضروري للانخراط في العوالم الافتراضية، التي تحبّذ إنساناً غريزياً، وأقل تعقلاً ورشداً، وأقل قبضاً وتثبيتا. إنّه وهم العبارة الافتراضية الذي يصل إلى درجة الصفر  في العقلنة والتعقل؛ حيث لا اللغة "بيت الوجود" (بالمعنى الهيديجري)، ولا المعنى سر الحقيقة، بل انزاحت الحياة إلى الشكل والوهم والظن ومركزية الذات؛ بمعنى آخر، إن العقل الافتراضي يتغذى من أساطيره وأوهامه الافتراضية الجديدة، ويضرب عمق التمثلات المعرفية الموروثة للإنسان.

وعليه، فهذه التشكيلات المفهومية الجديدة، حسب علي حرب: "تتجسد في انتهاكات فكرية، بنيوية وخارقة، تفكك منطق الهوية والمماثلة، وتقوض مفاهيم التمثل والمثال أو الامتثال، بقدر ما تفجر العلاقات بين المعنى ومرجعه أو بين المفهوم وواقعه أو بين النموذج وتطبيقاته، مزعزعة بذلك صورة الإنسان العاقل أو الراشد الذي يقبض على الواقع بتمثلاته أو يتعالى على أهوائه بمُثُله، مسجلة تراجعه أمام  أنظمة العلامة وتشكيلات الخطاب، أو أمام آليات الرغبة وأجهزة المؤسسة، أو أمام أوهام الماهية وشروخات الهوية، فضلا عن خرائط المادة وحرائق التجربة".