بموجب تصدير دستور 2011، فالدولة مطالبة بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير مقومات العيش الكريم للمواطنين. ومن أجل ذلك، وغداة الاستقلال، تأسس صندوق المقاصة، بغاية تقديم الدعم لذوي الدخل المحدود، لضمان اقتناء المواد الأساسية من السكر والدقيق والزيت والغاز والمحروقات، إلى أن جاءت حكومة بنكيران، فقررت الشروع في تصفية صندوق المقاصة، تحت شعارات توهم في ظاهرها بخدمة مصالح الفقراء، ولكن في عمقها تفتح الطريق أمام اغتناء اللوبيات المتحكمة في الأسواق في ظل البنيات المغلقة للسوق المغربية.
فقد وعد بنكيران إبان حذف الدعم وتحرير أسعار المحروقات، بأنها ستكون الفرصة لتوجيه الدعم لمستحقيه مع تنزيل الأسعار وتوجيه ميزانية الدعم الى تطوير الخدمات العمومية في الصحة والتعليم وتوفير الشغل، إلا أن الواقع المعاش اليوم، ومن بعد 8 سنوات على التحرير، يكذب كل هذه الشعارات، فالمستفيد الوحيد من ذلك، هم شركات توزيع المحروقات التي ضاعفت أرباحها بأكثر من 3 مرات، في حين أنه تم تخريب التعليم العمومي والصحة العمومية ووصل التضخم والبطالة سقوفا لم يعرفها المغرب في تاريخه...أو ليس كل ما وقع في جريمة المحروقات، كافيا حتى يستحيي بنكيران وحزبه من نفسه ويقدم اعتذارا للمغاربة...
وها هو أخنوش اليوم، يمر للسرعة القصوى وبنفس مبررات بنكيران والاجتهاد فيها، من أجل القضاء على دعم الغاز في أفق تحرير سعره، كما فعل سلفه بنكيران/صديقه في الحكومة السابقة، وتغليف ذلك بصرف الدعم المباشر للمحتاجين والاستجابة لمطالب النقابات والدعم للمغاربة على اقتناء السكن وأداء اشتراكات المحتاجين في التغطية الصحية الإجبارية في الضمان الاجتماعي.
وبقراءة بسيطة في استهلاك واستعمالات وأسعار غاز البوطان، يتبين بأن الزيادة في استهلاك الغاز ستصل في المتوسط لحوالي 250 درهم في الشهر لعائلة من 5 أفراد، وحينما نضيف لذلك الارتفاع المرتقب للأرباح الفاحشة للفاعلين في توزيع الغاز، حيث أن نسبة التركيز في سوق الغاز تفوق بكثير سوق المحروقات (فاعل واحد يحتكر الاستيراد عبر ميناء طنجة وميناء الجديدة)، وحينما نضيف كذلك تداعيات ارتفاع أسعار الغاز على كلفة الإنتاج في الفلاحة وتربية الدواجن وغيرها، فإن مجموع الزيادات المباشرة وغير المباشرة في استهلاك البوطاغاز، قد تتجاوز 1000 درهم شهريا للعائلة من 5 أفراد.
ومن هنا يظهر من الوهلة الأولى، بأن الغرض من حذف الدعم وتحرير سعر الغاز، لن يستفيد منه في الأخير سوى الفاعلون في القطاع وأساسا الماركة التي تسيطر على أكثر من 50٪ من السوق، وأما عموم الشعب المغربي فسيكون ضحية وللمرة الثانية بمناسبة تحرير الغاز.
إن تحرير أسعار الغاز بدعوى توجيه الدعم لمستحقيه، لا يصمد أمام الإحصائيات التي تشير بأن 60٪ من الاستهلاك يوجه للأغراض المنزلية و40٪ للأغراض غير المنزلية وخصوصا الفلاحة، وحينما سنضيف تداعيات الجفاف على صعوبة استخراج مياه السقي واللجوء أكثر لاستهلاك الغاز (في انتظار البدائل التي طال انتظارها)، سيزيد الطين بلة، في اشتعال أسعار المنتوجات الفلاحية التي يتغذى بها عموم الشعب المغربي، وأساسا البصل والبطاطس والطماطم، وحينئذ لن ينفع الدعم لمن توصل به وسيزيد الضغط على من لم يتوصل به، ولنا المثال في الدعم بمناسبة الكورونا والحصول على بطاقة الراميد، حيث كانت تستفيد منه ثلة من غير المحتاجين على حساب المحتاجين المنسيين في القرى والجبال والمداشير.
إن الدفع في اتجاه رفع كلفة الطاقة عبر رفع الدعم وتحرير الأسعار ، تتراكم تداعياته على كلفة الإنتاج بالمقاولة وعلى القدرة الشرائية للمواطنين وخصوصا الفقراء والطبقة المتوسطة، وأما الاغنياء فهم سيعكسون كل هذه الزيادات في ثمن الطاقة وسيستمرون في مراكمة الثروات، فتارة باسم المغربة وتارة باسم الخوصصة وتارة باسم اتفاقيات التبادل الحر وتارة باسم تحرير الأسعار ، ولكن بالنسبة لعامة الشعب، فقد خسر كل شيء في الدعم للمواد الأساسية وفي توفير الصحة والتعليم والشغل، إلى درجة نتساءل عن ما ذا بقي للدولة من أدوار؟
إن المطلوب اليوم، هو الكف من توسيع جمهور الفقراء والحد من دفع الطبقة المتوسطة للانزلاق تحت خط الفقر، مقابل التحلي بالشجاعة اللازمة لفرض الضريبة على الثروة وتحصيل ما يفوق من 140 مليار درهم من التهرب الضريبي لدى الأغنياء والعاملين خارج القانون، وهو مبلغ جد كافي لتمويل مشروع التغطية الاجتماعية وغيره دون إثقال الطبقة المتوسطة بالمزيد من التحملات، ولكن لنا اليقين بأن هذه الشجاعة غير متوفرة ولن تتوفر لدى أحزاب الأعيان التي تكون الحكومة الحالية من بعد ما تم تدمير أحزاب الجماهير. ولذلك فحكومة أحزاب الأعيان أو حكومة المال السياسي تشرع اليوم وفق ما يخدم مصالحها وينمي ثرواتها ولا تأبه لنداءات ومطالب المجتمع...
لقد قيل لنا، بأن حذف الدعم وتحرير أسعار المحروقات، سيكون بمقابل توفير وتحسين التعليم والصحة للمغاربة، وها هو واقع القطاعين يكذب هذه المزاعم، وما الأزمة التي يعيشها طلبة الطب والصيدلة والرمي بأزيد من 25 ألف طالب وطالبة للمجهول، لخير دليل على فشل منظومة الصحة والتعليم...ويعاد القول اليوم، بأن حذف الدعم وتحرير أسعار الغاز، من أجل المبررات المزعومة، ولكن المستقبل القريب، سيوضح بالملموس، بأنها مزاعم مهزوزة، وإنما الحقيقة من وراء ذلك، هو طاعة أوامر الدائنين الكبار وفتح الطريق على مصراعيه، من أجل اغتناء تجار الغاز وتجار البناء وتجار الصحة، على حساب البطش بالقدرة الشرائية للمغاربة...