ماتت في داخلي لهفة التهافت على المعرض الدولي للكتاب، أزوره وأتجول بين حقول مؤلفاته، وأشتم رائحة الورق والمداد، وأرمق جبال الكتب بألوان شتى وأتلصص على العناوين وصور الأغلفة، قد لا أقتني بالضرورة كتابا لكني أجدد رغبتي في الإبداع، فالإبداع مثل الإيمان كلاهما يبلى، وكلاهما يحتاج لأن يتجدد.
لاتزال جثة رغبتي تلك محنطة بداخلي، ليس لأنهم ساقوا المعرض كرها من مسقط رأسه البيضاء إلى العاصمة الرباط، فأينما تولوا فثم وجه المعرفة، لكن لأني شممت بين هضاب الكتب ريح "رياء ثقافي" تفضحه لغة الأرقام التي تضعنا تحت الحضيض بين المجتمعات القارئة، وكيف أننا قوم لا نؤمن ب (اقرأ) ولكننا نشد الرحال وبالملايين صوب معارض الكتب، نتزاحم أمام بواباتها في نفاق مكشوف، نتفرج على هؤلاء البلهاء من الكتاب وحاملي داء الثقافة المكتسب، الذين يستهلكون أطنان الورق وأطنان الحبر وعقودا من الزمن، ليكتبوا لنا ما لا ينفعنا؟ ما أوسع دائرة حمقهم!!! يتركون التلذذ بزينة الحياة ويحبسون أنفسهم في الدهاليز يخطون رواية أو أو قصة أو ديوان شعر أو يخوضون غمار دراسة أو بحث أومسرحية، يتعبون عيونهم وظهورهم ومخاخهم، مالنا وخبلهم؟؟، هكذا قرأت في عيون الزوار وهم ينظرون للكتب، يمتزج الرياء الثقافي بالنفاق الفكري فيلزمان حاملهما شراء شيء من تلك البضاعة حتى يبرهن الجاني لجيرانه وقبلهم للعيون التي ترصده أنه من سلالة الثقافة ومن ملة الفكر وأنه لم يحضر للمعرض عبثا أو سدى ، لا يهم إن كان سيرتل ما اشتراه ترتيلا، أو سيرميه خلف الباب، كتب الطبخ تفي بالغرض، فهي (ماكلة ودوا) ربما قصص لصغار ولدوا للقراءة كارهين باكين مطالبين بكيس من الفشار أو بالون منفوخ بالهواء...
يا للهول، كم يتقنون لعب دور عشاق القراءة، يغادرون سوق الكتب بعضهم قد عافها كما تعيف البهيمة مشربها، وآخرون تحوزوا مشترياتهم، يعرجون على بائعي الأكلات وما أكثرهم عند مدخل المعرض، يحقق تجار الأكلات من الأرباح في معرض الكتاب ما لا يحققه الكتبيون، والمصيبة أنه حتى باعة الكتب لا يقرؤون، كأن آية (كمثل الحمار يحمل أسفارا) تتحقق، ما أتعس الكتاب وما أبشع حصاره، يكتبه كاتبه، ولا يقرأه بائعه لا بالجملة ولا مشتريه بالتقسيط.
يملأ الزوار الذين تعدهم الوزارة عدا، وتعتبر كثرتهم دليل نجاح معرضها، والوزارة بهذا تغذي الوحش في نفوسهم، يملؤون البطون، ويحملون كتب معرض هذه السنة لتنضاف إلى كتب معرض العام المنصرم، ستبقى تلك الكتب جديدة وأحيانا (بميكتها) ما الجدوى من قراءتها؟ فشراؤها كان فقط "على عين بنادم"، من يملك الوقت لتقليب هذه الصفحات؟ وملء جمجمته بصداع ارتطام الأفكار؟؟
تذكرت معرض الفلاحة فوجدته أصدق أنباء من معرض الكتاب في زمن بات الكتاب غريبا منبوذا، وتُرك المثقف وحيدا أعزلا، فيه الكاتب والطابع والناشر والموزع، يخلق الفكرة ثم يقاسمها قوت يومه علها تشيع بين العباد، فتصبح الكتابة صورة من صور النضال، يذكرني ببدايات نبوءة الأنبياء.
في معرض الفلاحة يكون العرض واضحا، كسابون ومنتجون جاؤوا باللحم الأحمر والأبيض والزرع والعسل وما طاب ولذ، ثيران بلجيكية ضخمة، وبقرات هولشتاين مصنع حليب، وأكباش في حجم أسود، وطيب الفواكه وغزير الخضر، بفاكهة ولحم مما يشتهون، قد لا يشتري الزائر كبشا أقرنا ولا عجلا أزرقا ولا بقرة حلوبا ولا سلة بطاطس ضخمة لكنه يحك بطنه متيقنا أن الزاد مضمون وأنه لا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
لذلك آثرت ألا أخوض مع الخائضين وألا أزاحمهم في معرضهم وهم يتربصون بالكتب بتوجس توجس السليم من الأجرب، فكم حضرنا بالآلاف معارض الكتاب لكن الإحصائيات لا ترحمنا ولا يخدعها احتيالنا، فهي تصر على أن تكتبنا مع الجالية المقيمة بعيدا عن القراءةكل معرض كتاب ونحن في رياء ثقافي جديد...